|
ما أورد على الحكومة |
|
ولنذكر ما أورد عليها من الاشكالات وردها. أما الأول: فقد أورد عليه الشيخ نفسه: بأن القاعدة (لا ضرر) ناظرة (أي منصرفة) إلى نفي ما ثبت بالعمومات من الأحكام الشرعية التكليفية، فمعنى (لا ضرر) هو ان الأحكام التكليفية المجعولة في الإسلام ليس فيها حكم ضرري، وعدم الضمان ليس حكماً نظير عدم الوجوب وعدم الحرمة. أقول: يظهر من الشيخ، انه لا يرتضي هذا الدليل، لأنه ذكره فقط، وذكر لحكومة (لا ضرر) على العدميات أربعة أدلة ارتضى اثنين منها ولم يردها، وتأمل في الآخرين. ويكفي رداً للدليل الأول، صدق الحكم على عدم جعل الضمان بأي معنى كان، والعرف ببابك. وأما الثاني: وهو التلازم بين العدميات والوجوديات، فقد أورد عليه في البشرى: بأن التلازم بين الحكم الوجودي والعدمي، ان كان منشأ الضرر الوجودي، فهو خارج عن الفرض، وان كان الأمر العدمي، فلا يحكم عليه بـ (لا ضرر)(1). أقول: فيه: ان معنى التلازم، هو صحة كون كل من المتلازمين منشأ للضرر، ونسبة الضرر إلى كل منهما خصوصاً والمسألة عرفية ـ لا دقية عقلية ـ ويصح في العرف نسبة المعلول إلى كل من المتلازمين، مثلاً: لو حبس شاةً فمات ولدها، يصح نسبة الضرر بموت ولد الشاة إلى عدم ضمان الحابس، ويصح نسبته إلى حرمة المطالبة والمقاصة، وهما وجوديان، فيخصصهما (لا ضرر). وأما الثالث: وهو ما ورد من (لا ضرر) في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) في قصة سمرة والشفعة، فأورد عليه في البشرى: بأنه لم يعلم حكومة (لا ضرر) على عدم تسلط الأنصاري منع سمرة، بل لعله حاكم على جواز تسلط سمرة على المرور بغير إذن الأنصاري. وكذا الشفعة، فلم يعلم حكومة (لا ضرر) على عدم تسلط الشريك الأخذ بالشفعة، بل لعله حاكم على نفوذ (اوفوا بالعقود) وما لم يعلم ذلك، فلا دليل على حكومة (لا ضرر) على العدميات. أقول: فيه: يكفينا صلاحية الحكومة، على العدميات، وصحة النسبة عرفاً لأنا لا نريد نفي حكومة (لا ضرر) على الوجوديات، بل نريد إثبات حكومته على العدميات أيضاً. وأما الرابع: هو الاستدلال بآيات المقاصة: فأورد عليه في البشرى: بأن غاية ما تدل عليه أدلة المقاصة هو جواز مقاصة المتضرر، أما ضمان الضار فلا، قال: ويثمر فيما لو مات الضار، فإن كان ضامناً، قدّم حق المتضرر على تقسيم الورثة، لأنه دين وان جازت المقاصة لم يقدم، لأنه حق في ذمة الضار لا في ماله حتى يقدم على الإرث. أقول: فيه. ان جواز المقاصة فرع الضمان، ولا مقاصة إذا لم يكن ضمان، ولم اعرف وجهاً لهذا الفرق. وأما الخامس ـ وهو ما ذكره بعض المراجع: من أن عدم جعل الحكم في موضع قابل جعل العدم ـ: فقد يقال عليه: بأنه أول الكلام، وحديث: (ان الله لم يترك شيئاً بلا حكم) يراد به الأعم من الأصول العملية، ولا شك في كون كل مسألة بلا دليل خاص مورداً لأصل من الأصول العملية، مثلاً: الأصل العملي فيمن فتح القفص فطار الطائر هو البراءة الوضعية. أقول: فيه: لاشك ان المولى الحكيم إذا ترك مسألة قابلة لحكم واقعي بلا حكم كذلك، فهو بمثابة جعل العدم نظير الاطلاق الذي مبتن على الأمر العدمي، وهو عدم التقييد، فكما أنا نستفيد من عدم التقييد في مقام البيان الاطلاق، كذلك نستفيد من عدم جعل الحكم في مقام البيان والجعل، جعل العدم، وهل مقام البيان إلاّ كون المحل قابلاً للجعل؟ وأما السادس: وهي روايات (من اضر بطريق المسلمين فهو له ضامن) ونحوها. فقال في البشرى: انها لا مساس لها بقاعدة (لا ضرر) لاختصاصها بالاضرار بالمسلمين في طريقهم، واين هذا من نفي الأحكام الضررية؟(2). أقول: فيه أولاً: ظاهر صحيح أبي الصباح، هو عدم خصوصية الطريق: لظهوره في كون ملاك الضمان التضرر، لا الطريق، ولا مجموع الطريق والضرر كما لا يخفى. وثانياً: بقية الروايات لا تخلو من ظهور في كون منشأ الضمان الضرر لا غيره من الخصوصيات الموردية خصوصاً رواية الدعائم المذكورة(3). بعد جبرها بالعمل. قال في الجواهر بعد ذكر روايات الضمان في الطريق ونحوه: (إلى غير ذلك من النصوص... المعلوم عدم خصوصية الطريق فيها، كمعلومية عدم خصوصية لما ذكر فيها من الأفراد...)(4). ومما ذكره في الجواهر من الروايات ولم نذكرها قبلاً، معتبر السكوني ـ على الأصح ـ عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (من اخرج ميزاناً أو كنيفاً، أو اوتد وتداً، أو اوثق دابة، أو حفر بئراً في طريق المسلمين فأصاب فعطب، فهو له ضامن)(5). وصحيح(6) زرارة: (لأن كل من حفر بئراً في غير ملكه فعليه الضمان)(7)، وموثق سماعة: (وما حفر في الطريق أو غير ملكه فهو ضامن لما يسقط فيها)(8). وأما السابع: وهو ان ذيل (في الإسلام) مشعر بأن كل ما من شأنه ان يؤخذ من الإسلام، فالضرر فيه منفي. فأورد عليه في البشرى (ج 6 / ص 614) بأنه: مبنيّ على نوع من التسامح حتى يصحّ اعتبار العدميات من الإسلام، والتسامح نوع مجاز والأصل الحقيقة وهو الوجوديات فقط. أقول: فيه أولاً: ليس تسامحاً، إذ لو كان العدمي أيضاً من شأنه ان يؤخذ من الإسلام ـ كسائر الأنظمة التي من شأنها أخذ العدميات التي لها آثار من تلك الأنظمة ـ فيشمله (لا ضرر). وثانياً: لو كان تسامحاً واقتضاه ظهور الإطلاق وحكمة المولى، وكون التشريع الإسلامي كاملاً لا نقص فيه، فهذه تكفي قرائن للالتزام بهذا التسامح. وثالثاً: ان المنفي موضوع الضرر حيثما تحقق سواء تحقق في أمر وجودي أو أمر عدمي. وأما الثامن: وهو كون (لا ضرر) امتنانياً يقتضي شمول العدميات. وكذا التاسع: وهو التنظير بلا حرج، حيث لم يتوقفوا في حكومته على العدميات. فلم أر من تعرض لهما، ولا للجواب عنهما، والظاهر متانتهما، والله العالم.
اشكال العدميات ثم إن ها هنا اشكالات على أصل شمول (لا ضرر) للعدميات، بحيث لو كان (لا ضرر) صريحاً في الشمول، أوجب الجواب عن هذه الاشكالات، نذكرها مع أجوبتها بإذن الله تعالى. |
|
1 ـ تأسيس فقه جديد |
|
الإشكال الأول ـ ما ذكره صاحب الجواهر في مسألة عدم ضمان عمل الحر ـ: من تأسيس فقه جديد، وتبعه المحقق النائيني في ـ لا ضرر ـ ففي شرح عبارة الشرائع: ـ (ولو حبس صانعاً لم يضمن اجرته ما لم ينتفع به) قال صاحب الجواهر: (كما أن قاعدة نفي الضرر والضرار وغيرها مما ذكره (أي صاحب الرياض الذي مال إلى الضمان) من الآيات لو اقتضت الضمان على وجه يشمل الفرض، لاثبتت فقها جديداً ضرورة اقتضائها الضمان بالمنع عن العمل أو (بالمنع عن) الانتفاع بماله، وغير ذلك مما عرفت عدم القول به من العامة الذين مبنى فقههم على القياس والاستحسان، فضلاً عن الإمامية الذين مبنى فقههم على القواعد المقررة الثابتة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام...)(9). وبه صرح المحقق النائيني ـ كما في رسالته في لا ضرر ـ وحاصله: (إن كل ضرر يقع في الخارج، فإن كان المضر إنساناً لزمه الضمان، وان كان غير إنسان لزم الضمان في بيت المال. ويلزم عدم كون (الطلاق بيد من أخذ بالساق) لكونه أحياناً ضرراً على الزوجة، فيتولاّه الحاكم... وهكذا، وهذا يستلزم تأسيس فقه جديد)(10).
لا تأسيس لفقه جديد أقول: فيه أولاً: لا يستلزم تأسيس فقه جديد، كما سنذكره في جواب صاحب الجواهر، بقولنا: أولاً. وثانياً: لو كان المضر غير إنسان فلا ضمان في بيت المال، لأنه ضر سماوي وقضاء وقدر، أو عن تقصير المتضرر نفسه، ولا ضمان فيها بلا إشكال. وما يحتمل من ان اطلاق (لا ضرر) نفي للضرر عن صفحة الوجود، فيجب الضمان بكل ضرر حتى السماوي مدفوع بظهور (لا ضرر) ـ ولو للانصراف ـ إلى الاضرار المنتسب إلى حكم شرعي، أو شخص إنساني، لا مطلقاً. وثالثاً: ان سقوط حق الزوج في الطلاق، ينحل إلى مسألتين: الأولى: أصل سقوط حق الزوج في الطلاق، وهو أي الطلاق أمر وجودي يحكم عليه (لا ضرر) إذا صار ضررياً، فلا حق للزوج في الطلاق ان كان ثبوت هذا الحق له ضررياً على الزوجة، وليس أمراً عدمياً. الثانية: ثبوت حق الطلاق للحاكم، وهو ثابت بأدلة ولاية الفقيه، لا بـ (لا ضرر) نعم المسألة الثانية مترتبة على الأولى، باعتبار عدم ثبوت حق في الطلاق لغير المعصوم عليه السلام مادام هذا الحق ثابتاً للزوج. إذن: فمن أين استلزم تأسيس فقه جديد؟ |
|
تأملات في الجواهر |
|
أما كلام صاحب الجواهر ففيه أولاً: من أين يلزم تأسيس فقه جديد؟ بل نلتزم بعموم لا ضرر لامتنانه إلاّ فيما يخرج باجماع ونحوه. وثانياً: قوله (عدم القول به من العامة) فيه:ـ إن العامة قالوا بالضمان ففي ـ بداية ابن رشد كتاب الغصب، قال: (مثل ان يفتح قفصاً فيه طائر، فيطير بعد الفتح، فقال مالك: يضمنه، هاجه على الطيران أم لم يهجه، وقال أبو حنيفة: لا يضمن على حال، وفرّق الشافعي بين ان يهيجه على الطيران أو لم يهجه... ومن هذا من حفر بئراً فسقط فيه شيء فهلك...)(11). وثالثاً: ان صاحب الجواهر بنفسه ـ قدس الله نفسه ـ التزم بنظيره واستدل له، بـ (لا ضرر) في موارد: منها: فيمن اطلق غريماً من يد صاحب الحق، وانه ضامن قال: لقاعدة (لا ضرر ولا ضرار)(12) وقال بعده بقليل: ـ (وقاعدة الضرر لا تقتضي ازيد من التخيير المزبور بين احضار الغريم أو أداء ما عليه). ومنها: فيمن اطلق قاتلاً ولم يستدل بـ (لا ضرر)(13) بل برواية عن الصادق عليه السلام تلزمه الدية، ولا خصوصية في القتل، ولذا استدل بنفس هذه الرواية (فيمن اطلق غريماً). ومنها: في كتاب احياء الموات: قال: (فيمكن ان يقال بمنع التصرف في ماله على وجه يترتب عليه الضرر في مال الغير مثلاً بتوليدية فعله... وقاعدة التسلط على المال لا تقتضي جواز ذلك ولا يرفع الضمان الحاصل بتوليد فعله)(14). ورابعاً: ان صاحب الجواهر نفسه صرّح بشمول (لا ضرر) لتفويت منافع الحر، ولكنه لم يضمنه للاجماع، قال: (ومن هنا لم تضمن منافع الحر اجماعاً مع أن قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) تأتي فيه)(15). |
|
القول بالضمان في العدميات |
|
وخامساً: التزم جمع من الفقاء بالضمان في العدميات حتى مثل عمل الحر ولم يلزم منه تأسيس فقه جديد. مثل المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة، ومال إليه الوحيد البهبهاني، وصاحب الرياض ـ كما في الجواهر(16) ومفتاح الكرامة(17). وكذا المحقق في النافع: فيما لو مات الحر المغصوب بدون سبب الغاصب قال في ضمانه قولان. وفي المفاتيح: نسبة عدم الضمان إلى القيل. وفي الكفاية: إلى المشهور. هذا هو دليل التزام جمع من الفقهاء بالضمان(18). وعن السبزواري في الكفاية في مسألة تصرف شخص في داره بما يضر الآخرين قال: (ويشكل هذا الحكم (أي جواز هذا النوع من التصرف) في صورة تضرر الجار تضرراً فاحشاً نظراً إلى تضمن الأخبار نفي الضرر والإضرار، وهو الحديث المعمول به بين الخاصة والعامة المستفيض بينهم...)(19). وعن المسالك الضمان على من منع شخصاً سكنى داره أو رعاية دابته فتلفتا(20). وفي الجواهر: (وهو (أي الضمان) المحكي عن الشهيد في بعض فتاواه، والكركي، واستحسنه في الرياض لعموم لا ضرر ولا ضرار)(21)، ثم نقل عن الرياض ما يلي: (ومن هنا يتجه الحكم بضمان نقص القيمة السوقية للمتاع إذا حصل بمنع المالك عن بيعه... لاتحاد وجه الحكم بالضمان هنا وفيما مضى وهو: صدق الإضرار المنفي شرعاً... ولعله لذا اختار الشهيد في بعض فتاواه الضمان هنا...). وفي اجتماع السبب والمباشر وكون الضمان على المباشر فقط دون السبب، ناقش الرياض ـ كما في الجواهر ـ: (بأن قوة المباشرة لا تدفع الضمان عن السبب بعد وجود ما يقتضي ضمانه وهو ما مر من حديث نفي الضرر، ولا امتناع في الحكم بضمانهما معاً، وتخيّر المالك في الرجوع إلى ايهما شاء كالغصب)(22). ويدل هذا على حكومة (لا ضرر) على عدم الضمان في السبب. والحاصل: انه لا يلزم من تحكيم (لا ضرر) على العدميات تأسيس فقه جديد. |
|
2 ـ إشتراط عمل الأصحاب |
|
الإشكال الثاني: ـ ما في الجواهر والبشرى من ان العمل بلا ضرر، مشروط بعمل الأصحاب به في كل مورد مورد، قال في الجواهر ـ: (فيما لو منع المالك عن دابته، أو داره، أو بساطه، فتلفت): (على أن استفادة الضمان من القاعدة المزبورة (أي لا ضرر) متوقفة على الانجبار بتفوى الأصحاب، إذ لا اقتضاء لها إلاّ عدم مشروعية ما فيه الضرر والضرار في الإسلام على معنى النهي عن ايجاده، وهو إنما يقتضي حرمة ذلك لا الجبر بالضمان...) ثم قال في السطر الأخير: (إلا أن ذلك كله كما ترى لا يصلح دليلاً لذلك (أي للضمان) من دون انجباره بفتوى الأصحاب...)(23). وقال في البشرى: (ان العمل بهذه القاعدة ـ كنظائرها ـ مشروط بانجبارها، بعمل الأصحاب في المورد الذي يراد التمسك به فيه لكثرة التخصيصات الواردة عليها، ولا ريب في أن أحداً من زمن الشيخ إلى يومنا هذا لم يعمل بها في باب الضمان. نعم، يتراءى بعض الأواخر العمل بها، نظراً إلى عمومها مع الغفلة عن شرط العمل بها فلا عبرة به)(24). |
|
ما ربما يلاحظ على الجواهر |
|
أقول: أما كلام صاحب الجواهر ـ قده ـ فربما يلاحظ عليه من وجوه ـ: الأول: عمل نفس صاحب الجواهر بها في مسألة عدم الحريم في المعمورة، وان اضر أحدهما بالآخر قال: (على أن المنساق من العاميّن من وجه يعني قاعدة لا ضرر، وقاعدة السلطنة) تحكيم قاعدة الضرر كما في جميع نظائره وان كان بينهما تعارض العموم من وجه)(25). إلى أن قال ـ في الصفحة الثانية ـ: (وقاعدة التسلط على المال لا تقتضي جواز ذلك، ولا رفع الضمان الحاصل بتوليد فعله). فقد عمل صاحب الجواهر بـ(لا ضرر) مع عدم جبره هنا بعمل الأصحاب، بل قال قبلها ـ بصفحتين ـ مازجاً بالشرائع: (أما ما يعمل في الأملاك المعمورة فلا (أي فلا حريم وان كان مضراً بالجار) بلا خلاف اجده فيه ـ كما عن الشيخ وابني زهرة وأدريس الاعتراف به ـ بل في الكفاية نسبته إلى الأصحاب مشعراً بالاجماع عليه...). الثاني: ان المتقدمين الذين عملوا في فروع كثيرة من أول الفقه إلى آخره بـ (لا ضرر) من أمثال الشيخين والسيدين، وغيرهم ـ قدست أسرارهم ـ هل تقدمهم عمل الأصحاب بها؟ وكذا المتأخرين الذين فرعوا فروعاً جديدة وعملوا بلا ضرر فيها دون ذكر تلك الفروع من قبل المتقدمين هل كان سبقهم عمل الأصحاب؟ الثالث: وأما كون (لا ضرر) مجرد تحريم تكليفي لا وضعي، ففيه: ان الجواهر وغيره من الكتب مشحونة بالاستدلال للأحكام الوضعية بـ (لا ضرر) خصوصاً أبواب المعاملات. فخيار الغبن، وخيار الشرط، والشفعة، وغيرها أحكام وضعية استند الفقهاء فيها إلى (لا ضرر) حتى احتمل بعضهم اختصاصه بالمعاملات دون العبادات كما سبق نقله. |
|
ما ربما يقال على البشرى |
|
وأما كلمات البشرى فربما يقال فيها أمران: الأمر الأول: ما قاله من أن: (كثرة التخصيصات لـ (لا ضرر) منعت عن العمل به إلاّ بعد الانجبار بفتوى الأصحاب) ففيه: انا لم نجد كثرة تخصيص توجب استهجان العموم بحيث لا يبقى له ظهور في العموم، بل لعل (رفع ما لا يعلمون) و (الناس مسلطون) أكثر تخصيصاً ومع ذلك لم يقولوا بانخرام عمومهما. فحديث الرفع استثنى منه: كل الجهل التقصيري، وكل الجهل بالحكم قصوراً وقتصيراً بالنسبة للأحكام الوضعية، وكل الضمانات والديات، ونحوها. وقاعدة السلطنة استثنى منها: المحرمات، وهي كثيرة تعد بالعشرات والمئات في النفس، والمال، والغير، من الإنسان والحيوان والنبات والجماد، وغيرها. وعن شيخ الشريعة أيضاً في رسالة (لا ضرر): ان اخبار الشفعة تدل على عدم جواز العمل بـ (لا ضرر) إلاّ في موارد عمل الأصحاب به. وحاصل استدلاله هو: جعل الشارع الشفعة وتعليلها بلا ضرر في الأخبار، مع نسبة الاخص من وجه بين الشفعة والضرر، قرينة على عدم إرادة العموم من (لا ضرر) وإلا ثبتت الشفعة في كل ما كان ضرر حتى في الشركاء الكثيرين، ولم تثبت الشفعة في الشريكين، إذا لم يكن ضرر. وفيه أولاً: أدلة لا ضرر لم تكن منحصرة بروايات الشفعة، بل الاطلاقات كانت وافرة كما سبق. وثانياً: في الشفعة لو لم تكن اطلاقات الشفعة، لكنّا نخصصها بموارد الضرر للشفيع، لا مطلقاً، وفي مورد التضرر في الشركاء الكثيرين، وان لم نلتزم بالشفعة، لكن نلتزم بنفي الضرر بصور أخر، كما في قصة سمرة. |
|
استناد القدماء في الضمانات |
|
الأمر الثاني في ما قاله المامقاني ـ قده ـ من أنه: (لا ريب ان من زمن الشيخ إلى زماننا هذا، لم يعملوا بـ (لا ضرر) في باب الضمانات) فيقال فيه: أولاً: ما أكثر ما استند القدماء بـ(لا ضر) في باب الضمانات وإليك بعضها: 1 ـ قال في مفتاح الكرامة ـ كتاب الشفعة ـ: (ولذا استدل بعض الأصحاب وفاقاً للمرتضى على ثبوت الشفعة في لمسألة (أي ما لا يقبل القسمة، كبئر ماء ونحوها) بالضرر، فقال: ان المقتضي لثبوت الشفعة ـ وهو إزالة الضرر عن الشريك ـ قائم في غير المقسوم، بل هو أقوى، لأن المقسوم يمكن التخلص فيه من ضرر الشريك بالقسمة بخلاف غيره)(26). 2 ـ وقال أيضاً: ـ بعده بقليل ـ (وفي الروضة: ان في حكم الضيق قلة النصيب بحيث يتضرر صاحب القليل بالقسمة). 3 ـ وقال أيضاً: (فإن ادعى (أي الشريك): غيبة الثمن... في بلد آخر اُجّل بقدر وصوله منه، وثلاثة أيام بعده ما لم يستضر المشتري، قد صرّح به في النهاية وكثير ممّن تأخر عنها، وفي الغنية، الاجماع عليه، قال: هذا إذا لم يكن الصبر عليه مؤدياً إلى ضرر، فإن ادى إلى ذلك، بطلت الشفعة بدليل اجماع الطائفة، وفي مجمع البرهان: ان ظاهر الرواية عدم التقييد بعدم الضرر، وكانهم قيدوه به، لأنه منفي عقلاً ونقلاً...)(27). 4 ـ وفيه أيضاً: في أن من ادخل اعمى في بيته فسقط في حفرة ولم يعلمه بها... ضمنه، قال: وفي المسالك: (انه المشهور ولعلهم استندوا على أدلة نفي الضرر وخصّصوا بها اطلاق الأخبار)(28). أي: الأخبار الدالة علىأن من سقط في حفرة فهدر. 5 ـ قال في القواعد: (ولو بنى مسجداً في الطريق، ضمن ما يتلف بسببه) قال الشارح: (لعل معناه انه بناه حيث يضرّ بالمارة)(29) وظاهر ان دليله (لا ضرر). 6 ـ قال في التحرير: (وكذا أي يضمن لو بنى في الطريق الواسع وان كان مسجداً)(30) وظاهر ان دليله (لا ضرر). إلى غير ذلك من النصوص التي يجدها المتتبع. وثانياً: عدم عملهم بلا ضرر، إنما هو للاستغناء عنه بالأدلة الخاصة، والاجماعات، ونحوها، وإلا فلاك يكشف عدم عملهم من اعراضهم عن دلالة (لا ضرر) في باب الضمانات. مضافاً إلى أنه على مبنى القوم ـ من عدم وهن الدلالة وجبرها بالعمل ـ لا يضر عدم عملهم وان كشف عن أعراضهم، وان كنا لا نرتضي ذلك كلياً، والله العالم. وثالثاً: يمكن التزام ان مصلحة الشفعة غير مطردة في مورد الشريكين إذ لو حدد بثلاثة وأربعة، لكان مجال السؤال بأنه لماذا هذا التقييد؟ وان اطلق في الشركاء حتى العشرة وأكثر، فربما يكون استجازة الشريك من شركائه في بيع حصته، أو مطالبتهم بسهامهم لو أخذوا بالشفعة أكثر ضرراً على البائع من تضررهم بشريك جديد، والله العالم. |
|
3 و 4 ـ نفي الحكم الضرري، والتعارض |
|
الاشكالان الثالث والرابع: ما اشكله بعض الأجلاء(31) على حكومة لا ضرر على العدميات بأمرين: 1 ـ ظهور (لا ضرر) في نفي الأحكام الشرعية الموجبة للضرر، والضرر هنا ناشئ عن الأمور التكوينية، كالتلف، وفتح القفص، وسجن الحر، ونحوها... وفيه: ان حكم الشارع في موارد نشأ فيها الضرر عن الأمور التكوينية بتحمل الضرر، ضرر على المكلف. وبعبارة أخرى: الموارد أمور تكوينية، أما حكم الشارع فيها ـ أو عدم حكمه بالضمان ـ فحكم شرعي ضرري يرتفع بلا ضرر. 2 ـ يعارض (لا ضرر) المتضرر مع (لا ضرر) الضامن، ولا يشمل عام مورد التعارض كما حقق في محله. وفيه: انه لا تعارض بين السببي والمسببي، لارتفاع المسببي بشمول الحكم للسببي ـ كما في سائر نظائره من باب الاستصحاب وغيره ـ فعدم الحكم بضمان الضار ان كان ضرراً على المتضرر فيرتفع بـ (لا ضرر) فلا يبقى موضوع لضرر الضار. وله نظائر كثيرة مبثوثة في مختلف أبواب الفقه من: احياء الموات، والغصب، وموجبات الضمان في كتاب الديات وغيرها. |
|
5 ـ الفرق بين المذهبين |
|
الإشكال الخامس: ما ذكره الشيخ محمد حسين الأصفهاني في شرح المكاسب: من الفرق بين مذهب الشيخ في تفسير لا ضرر: بأنه نفي الحكم، وبين مذهبه تبعاً لشيخه الآخوند: بأنه الحكم بنفي موضوع الحكم الضرري، قال ما محصله: أ ـ على مذهب الشيخ يمكن التزام شمول (لا ضرر) للعدميات، بتقرير: ان المراد من عدم الوجوب وعدم الحرمة هو انشاء عدم الوجوب بقوله: (لا يجب) وانشاء عدم الحرمة بقوله: (لا يحرم) ومرجعه إلى ابقاء العدم على حاله انشاءً وتسبيباً، فالعدم ـ بهذا المعنى ـ أمر مجعول، وعليه: فعدم الضمان بهذا المعنى أمر مجعول، فيدخل تحت عموم (لا ضرر)(32). |
|
ايراد المحقق النائيني |
|
لكن المحقق النائيني أورد على ذلك: بأن عدم الحكم وان كان قابلاً لتعلق جعل الشارع به أبقاءً أو رفعاً، لكنه ما لم يتعلق به جعل الشارع فليس حكماً حتى يرد عليه حكومة (لا ضرر). ثم قال: (لا يقال): ان الملاك لجريان الاستصحابات العدمية، هو الملاك لصحة اسناد هذا العدم إلى الشارع. فإنه يقال: فرق بينهما، فالاستصحاب العدمي هو حكم الشارع بالعدم ـ أي المتيقن السابق ـ يستصحب بخلاف ما نحن فيه، فإنه لا حكم للشارع بعدم الضمان، بل غايته هو عدم حكم الشارع بالضمان، وفرق بين عدم الحكم، والحكم بالعدم. ثم قال: ولو سلمنا صحة اسناد هذا العدم للحكم، إلى الشارع مسامحة، بأن يقال: كان للشارع ان يحكم في مثل المورد أما بالضمان أو عدمه، فإذا لم يحكم بعدم الضمان، فكأنه حكم بالضمان. لكنا نقول: ان هذا الضرر لا يمكن رفعه (بلا ضرر) إلاّ إذا كان معنى (لا ضرر) هو: (لا ضرر غير متدارك) وقد اسلفنا انه اردء المعاني الأربعة لـ (لا ضرر) والثلاثة الباقية هي: 1 ـ لا حكم ضرري ـ للشيخ واتباعه. 2 ـ نفي الحكم بلسان الموضوع ـ للآخوند واتباعه ـ. 3 ـ النهي عن الإضرار ـ لصاحب الجواهر وشيخ الشريعة واتباعهما ـ. انتهى كلام المحقق النائيني ـ قدس سره ـ بتلخيص منا(33). أقول: في كلامه وجوه للتأمل: فأولاً: ان عدم الحكم في المحل القابل يعامل معه بالنسبة للحكيم معاملة الحكم بالعدم تنجيزاً واعذاراً، ومنه حكومة العناوين الثانوية عليه. وثانياً: الاستصحابات العدمية أعم من استصحاب حكم الشارع بالعدم، ومن جملة استصحابات عدم حكم الشارع هو: استصحاب التخيير العقلي، واستصحاب البراءة العقلية أو الشرعية، ونحوها. وثالثاً: لا تلازم بين كون (لا ضرر) حاكماً على عدم الحكم، وبين كونه بمعنى لا ضرر غير متدارك؟ فلا ضرر نفي للضرر ـ هذا الموضوع العرفي المعين ـ عن الإسلام دون تقييده بـ (غير متدارك). نعم، اللازم العرفي لنفي الضرر، هو تداركه ليتحقق موضوع عدم الضرر، لا لكونه قيد معناه. والحاصل: ان (لا ضرر) معناه: نفي الضرر عما في دائرة الإسلام، وعدم الضمان في الإسلام ضرر في أمثال المقام، فهو منفي، فيكون الضمان والله العالم. ب ـ وأما على مذهبه تبعاً لشيخه الآخوند، فيشكل شمول (لا ضرر) للعدميات، إذ معنى (لا ضرر) حينئذ هو: ان الموضوع الضرري مما ينفي الحكم عنه، فيجب تحقق موضوع ضرري، وعدم الحكم ليس موضوعاً ضررياً إلاّ ان يتحقق معه التسبيب، أو الاستيفاء، أو التفويت، أو كان العمل بأمر الآمر، ونحو ذلك من الموضوعات الوجودية، وبه صرح بعض المراجع في شرح المكاسب(34). لكن فيه أولاً: مبنى نفي الموضوع الضرري عن عدم الحكم ليس إلاّ عدم الصدق العرفي لكنه ظاهراً على خلاف العرف، إذ العرف يرى تحقق موضوع الضرر ـ عرفاً ـ في بعض الموارد بعدم الضمان. ولزوم كون موضوع الضرر ـ عرفاً ـ دائماً وجودياً غير واضح للعرف، والعرف ببابك، واطلاق (لا ضرر) اعم من الوجودي. وثانياً: ان التسبيب والاستيفاء والتفويت والعمل بأمر الآمر ونحوها لها أدلتها الخاصة، فلا حاجة معها إلى (لا ضرر) والله العالم. |
|
6 ـ الاستعمال في معنيين |
|
الإشكال السادس: ما ذكره بعض من لزوم استعمال (لا ضرر) في معنيين بلا جامع، وذلك غير صحيح، بيانه: انه ان كان المنفي هو الحكم الضرري فلا جامع للحكم بين وجود الحكم، وعدم الحكم، وان كان المنفي هو موضوع الضرر، والضرر منفي، فكيف يصح نفي الجامع، لأن نفي الجامع معناه: عدم ثبوت جامع؟(35). وفيه أولاً: نختار ـ كاختيار الشيخ ـ ان المنفي هو الحكم الضرري. قوله: (لا جامع للحكم بين وجود الحكم وعدم الحكم) فيه: أنه قد سبق أن عدم الحكم ـ من الحكيم فيما من شأنه ان يكون فيه حكم ـ إنما هو حكم بالعدم. والجامع بين الحكم الخارجي، والحكم بالتأمل العقلي هو مطلق الحكم الأعم منهم، نظير: (اطيعوا الله) الشامل لإطاعة الأحكام الخارجية، ولتنجزات الأصول العملية. وثانياً: نختار ـ كالآخوند ـ ان المنفي هو موضوع الضرر. قوله: (لأن نفي الجامع معناه عدم ثبوت جامع). ففيه: انه يشبه المغالطة، إذ معناه هكذا، (الضرر الخارجي الجامع الشامل للوجود المضر، وللعدم المضر منفي في شريعة الإسلام). وليس المعنى: نفي الضرر تكويناً حتى يلزم ما قاله (، فتأمل). |
|
7 ـ لزوم ما لا يمكن التزامه |
|
الإشكال السابع: ما ذكره المحقق النائيني من لزوم ما لا يمكن التزامه فإنه قال: (لو كان (لا ضرر) حاكماً على العدميات أيضاً، لزم ما لم يلتزموا به في الفقه من بطلان العلقة الزوجية بمجرد كونها ضررية على الزوجة، وبطلان العلاقة الرقّية، بمجرد كونه تحت الشدة، ونحو ذلك. بل يلتزمون بطلاق الحاكم، ويقولون انه نازل منزلة طلاق الزوج، فالزوجية ثابتة، وبالتنزيل يطلّقون. وهذا دليل عدم ابطال (لا ضرر) لهذه العلائق، مع أنه لو كان (لا ضرر) حاكماً، لزم بطلانها بنفسها(36). أقول: فيه: أولاً ـ ان الزوجية والرقية، لم تكونا ضرريتين، حتى نرفعهما بالحكومة، بل الضرري هو لزوم بقاء الزوجية والرقية، أو عدم كون الطلاق بيد الزوجة والتحرير بيد العبد، حتى في مثل هذه الحال. ولا ضرر حاكم على ذلك، فيكون لزوم بقاء العلقة الزوجية والرقّية ـ لا أصل العلقة ـ ضررياً، فينتفي هذا اللزوم بـ (لا ضرر) فيختار العبد والزوجة نقض هذا اللزوم، وحيث إن الحاكم الشرعي ـ بأدلة الولاية ـ مجعول لمثل هذه الأمور فهو يتولى الطلاق، ويتولى التحرير ـ ان لم ينفع النصح ونحوه ـ. وثانياً: قولهم: (طلاق الحاكم نازل منزل طلاق الزوج) ليس معناه: كون الطلاق بيد الزوج حتى في هذه الحالة، كيف ولازمه انفلات الطلاق عن الزوج، وإلا لم يتولّه الحاكم، بل معناه: ان كل ما يترتب على طلاق الزوج من الأحكام يترتب على طلاق الحاكم في حال الضرر. |
|
8 ـ ليس الضرر من موجبات الضمان |
|
الإشكال الثامن: ما ذكره المحقق النائيني ـ أيضاً ـ في رسالة لا ضرر قال: (ليس الضرر في حدّ نفسه من موجبات الضمان، ولذا لم يعدوه منه)(37). أقول أولاً: مضى ذكر أمثلة عديدة من كلمات المتقدمين والمتأخرين الصريحة أو الظاهرة في أن مستندهم في الضمان، كان (لا ضرر) لا غير. وثانياً: عدم عدّهم (لا ضرر) عند عدّ موجبات الضمان في كتاب الديات ليس دليلاً على عدم موجبّيته للضمان مطلقاً، فكم من موجب للضمان لم يذكروه في عد موجبات الضمان، وذكروه في موارده. 1 ـ مثل موجبية تملك اللقطة للضمان، قال في الشرائع: (ثم هو مخيّر بين تملكها وعليه ضمانها). 2 ـ موجبية تصدق اللقطة للضمان مع كراهة المالك أيضاً، قال في الشرايع: (الصدقة بها عن مالكها ولو حضر المالك وكره الصدقة لزم الملتقط ضمانها، أما مثلاً أو قيمة...)(38). 3 ـ موجبية القرابة لضمان الدية في قتل الخطأ وقد صرحوا به، قال في الشرايع: (وهي (أي دية الخطأ) على العاقلة لا يضمن الجاني منها شيئاً) يعني: العاقلة ضامنة كلاً. 4 ـ ضمان من اخرج شخصاً ليلاً ولم يعد، فإنه ضامن مطلقاً ـ حتى مع عدم التسبيب ولا المباشرة، ولا الاتلاف ـ كما لو فارقه فقتله آخر، ولم يقدر الذي أخرجه من إقامة البينة، بل حتى ولو وجد ميتاً وعلم أنه لم يقتله، قال في الروضة: (وإلى الضمان ذهب الأكثر)(39) يعني فيما لو وجد ميتاً وعلم عدم قتل أحد له. 5 ـ ومن موجبات الضمان التدليس، فإنه موجب لضمان المدلس مهر المرأة، وقد نقل صاحب الجواهر(40) مسائل في ذلك وبها روايات وفتاوى الفقهاء رضوان الله تعالى عليهم. 6 ـ ومن موجبات الضمان: مطلق التغرير، فإنه موجب لضمان الغار لقاعدة(المضرور يرجع إلى من غرّه) وقد استدل بها الفقهاء في مسائل عديدة في أبواب البيع، والنكاح، وسائر العقود. |
|
أسباب عديدة للضمان |
|
وقد ذكر الفقهاء السابقون في كتاب الديات أسباباً عديدة للضمان، ولم يحصروها في الثلاثة: ـ الاتلاف والتسبيب والمباشرة ـ. كالشيخ الطوسي في ديات النهاية(41)، قال: (باب ضمان النفوس وغيرها) ثم ذكر من أسباب الضمان: أ ـ من دعا غيره ليلاً. ب ـ الضئر، تضمن الدية لو فقدت الولد. والاطلاق يقتضي الدية حتى مع العلم بعدم قتلها له لا مباشرة ولا تسبيباً. ج ـ ومن آجر دابته إنساناً فركبها، فوطأت شيئاً كان ضمان ما تطأه على صاحب الدابة دون الراكب. واطلاقه يقتضي حتى فيما لم يكن مباشرة، ولا تسبيب. وهكذا ابن سعيد في الجامع(42) عقد فصلاً لموجبات الضمان في كتاب الجنايات، وذكر الكثير من أسباب الضمان غير الثلاثة. وهكذا ابن زهرة في الغنية ـ في فصل الجنايات ذكر العديد من أسباب الضمان قال: (ومن اخرج غيره من منزله ليلاً ضمن ديته في ماله حتى يرده أو يقيم البينة بسلامته أو برائته من هلاكه، وكذا حكم المرضعة مع الصبي الذي تحضنه...)(43). ومثله سلار في المراسم قال: (ذكر ضمان النفوس)(44) وذكر الكثير من أسباب الضمان التي لا يرجع كلها إلى الثلاثة ـ المباشرة والاتلاف والتسبيب ـ. وهكذا المحقق في نكت النهاية شرح أسباب الضمان الواردة في كلام النهاية، فقال في وجه ضمان من أخرج شخصاً ولم يرجعه: (وحينئذ يكون جهالة مآله، منضمة إلى الإخراج، سبباً للضمان) ثم قال: (لأن سبب الضمان متحقق وهو اخراجه من منزله ليلاً)(45). ومثله ابن حمزة في الوسيلة قال: (فصل في بيان ضمان النفوس. والاشتراك في الجنايات، وغيرها)(46) وذكر بعض ما ليس من المباشرة ولا من التسبيب ولا من الاتلاف سبباً للضمان. وهكذا المفيد في المقنعة، قال: (باب ضمان النفوس: من اخرج إنساناً من منزله ليلاً إلى غيره، فهو ضامن لنفسه إلى ان يرده إليه...)(47) وذكر ما ليس من أسباب الضمان الثلاثة. أقول: إنما ذكر هذه العبارات لبيان عدم انحصار أسباب الضمان في الثلاثة، كما أن المحقق الأصفهاني ذكر من أسباب الضمان: أمر الآمر، وهو غير الثلاثة المعروفة أيضاً مع أن الفقهاء ذكروا (لا ضرر) من أسباب الضمان، فإن مضافاً إلى ما مرّ سابقاً من نقل لعبارات الفقهاء في ذلك: 1 ـ صرح المحقق النائيني بتمسك صاحب العروة بالضرر والحرج لاثبات الضمان، قال الخوانساري في لا ضرر تقرير المحقق النائيني: (نعم تمسك السيد الطباطبائي في ملحقات العروة بقاعدة الحرج والضرر لجواز طلاق الحاكم الشرعي كل امرأة تتضرّر ببقائها على الزوجية...)(48). 2 ـ وتمسك الشيخ في بيع الفضولي وضمان البائع خسائر المشتري الجاهل بالفضولية ـ بقاعدة لا ضرر قال: (فالظاهر عدم الخلاف في المسألة، للغرور... ولقاعدة نفي الضرر) إلى أن قال: (... وأما غير ذلك فالضمان أو قرار الضمان فيه، يحتاج إلى دليل مفقود، فلابد من الرجوع بالاخرة إلى قاعدة الضرار أو الاجماع المدعى...)(49). 3 ـ وكذلك استدل للضمان بعض المراجع في موارد عديدة بالضرر: منها: قال: (لو حفر في طريق المسلمين ما فيه مصلحة العابرين، فاتفق وقوع شخص فيه فمات، قيل: يضمن الحافر وهو قريب). ثمّ قال في الشرح: (والوجه فيما ذكرناه ان الإمام عليه السلام جعل الموضوع للضمان في صحيحة الحلبي المتقدمة هو الاضرار، مع أن السؤال فيها كان عن مطلق وضع شيء في الطريق ولو لمصلحة عامة... فالمناط في الضمان هو الاضرار). أقول: وصحيحة الحلبي المتقدمة هي: (سألته عن الشيء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره، فقال: كل شيء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه)(50). ومنها: قوله: (ان الضمان يدور مدار الاضرار والتفريط، فلا ضمان بدونه). ومنها: (ان الموضوع للضمان في الروايات السابقة هو التعدي والتفريط بالاضرار.. أما مورد المعتبرة... هو الاضرار به...). ومنها: (لو القى قشر بطيخ أو موز أو نحوه في الطريق،أو أسال الماء فيه، فزلق به إنسان فتلف، أو كسرت رجله مثلاً، ضمن... وذلك لأنه اضرار في طريق المسلمين وقد تقدم انه يجب الضمان) ـ مباني التكملة / ج 2 / ص 6 ـ 242 ـ والكتاب مشحون بالاستدلال بـ (لا ضرر) في موجبات الضمان. |
|
روايات في الباب |
|
وأما الروايات في الباب، فكثير منها قد ذكر فيها من أسباب الضمان ليس اتلافاً، لا مباشرة ولا تسبيباً: 1 ـ مثل صحيح زرارة وأبي بصير ـ على الأصح في ابن هاشم ـ عن الصادق عليه السلام ـ (قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل له غلام فاستأجره منه صائغ أو غيره، قال: ان كان ضيّع شيئاً أو ابق منه، فمواليه ضامنون)(51). وهو ظاهر في أن من موجبات الضمان: اجارة الغلام. 2 ـ ومثل خبر وهب بن وهب عن الصادق عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: (من استعار عبداً مملوكاً لقوم، فعيب فهو ضامن، ومن استعار حراً صغيراً فعيب، فهو ضامن) وهو ظاهر في أن الاستعارة من موجبات الضمان اجمالاً. 3 ـ صحيح علي بن جعفر عن الكاظم عليه السلام: (سألته عن رجل استأجر دابة فاعطاها غيره فنفقت عليه، قال: ان كان شرط ان لا يركبها غيره فهو ضامن لها. وان لم يسم فليس عليه شيء)(52) وهو ظاهر في أن من موجبات الضمان تخلف الشرط في الإجارة، مع أن المستاجر لم يباشر الاتلاف ولا سببه بالمعنى الأقوى من المباشر، ولا أمر بالاتلاف ـ الذي عدّه الشيخ محمد حسين الأصفهاني من موجبات الضمان ـ. وفي الباب طائفة من الروايات تدل على أن الزيادة عن المكان ـ في اجارة الدواب إلى مكان معين ـ موجبة للضمان(53) فليراجع. 4 ـ صحيح جميل عن الصادق عليه السلام: (في شهادة الزور ان كان قائماً، وإلاّ ضمن بقدر ما اتلف من مال الرجل) يعني: ان كان الشيء موجوداً(54) رد على صاحبه والا ضمن، وروايات أخر في هذا الباب. وهو ظاهر في أن من موجبات الضمان شهادة الزور، وقد صرّح في الشرايع والجواهر ـ كتاب الشهادات في أواخره ـ بترتب القصاص، والدية، وغيرهما على شهادة الزور. 5 ـ صحيح الحلبي عن الصادق عليه السلام: (من وطأ امرأته قبل تسع سنين فأصابها عيب فهو له ضامن)(55) مع روايات أخر في الباب. وهو ظاهر في أن من موجبات الضمان، الوطي قبل تسع سنين، وأما بعدها فلا ضمان. 6 ـ ومن موجبات الضمان ـ كما قالوا به ـ قرب المقتول من إحدى القريتين، لموثق سماعة عن الصادق عليه السلام: (سألته عن الرجل يوجد قتيلاً في قرية أو بين قريتين؟ قال عليه السلام: يقاس ما بينهما فايهما كانت اقرب ضمنت). 7 ـ من موجبات الضمان عارية الذهب والفضة ففي صحيح عبد الله بن سنان عن الصادق عليه السلام: (لا تضمن العارية إلاّ أن يكون قد اشترط فيها ضمان إلاّ الدنانير، فانها مضمونة وان لم يشترط فيها ضماناً)(56)، وقال في الجواهر في المسألة: (بلا خلاف اجده فيه في الدراهم والدنانير منهما ـ أي من الذهب والفضة ـ بل الاجماع بقسميه عليه والنصوص)(57). 8 ـ ضمان صاحب الدابة إذا دخلت على دابة أخرى في مستراحها فقتلتها، حتى مع عدم تقصير صاحب الدابة القاتلة كخبر مصعب عن الصادق عليه السلام عن علي عليه السلام في ثور قتل حماراً، قال عليه السلام: (ان كان الثور دخل على الحمار في مستراحه ضمن أصحاب الثور، وان كان الحمار دخل على الثور في مستراحه فلا ضمان..)(58). 9 ـ من موجبات الضمان العقل، فالعاقلة تضمن دية قتل الخطأ، وعبر بالضمان في النص والفتوى، ففي موثق أبي بصير ـ بعلي بن أبي حمزة البطائني ـ عن الباقر عليه السلام: (لا تضمن العاقلة عمداً، ولا اقراراً، ولا صلحاً) يعني: (وإنما تضمن الخطأ)(59). 10 ـ ومن موجبات الضمان، ولاء المعتق، فالمولى المعتق ضامن لقتل الخطأ الذي يصدر عن المعتق ـ بالفتح ـ قال في الشرائع والجواهر: (ويعقل المولى... من اعلى اجماعاً بقسميه عليه ونصاً...)(60). إلى غير ذلك من موجبات الضمان التي ذكرت في ثنايا أبواب الفقه، ولم تذكر في (موجبات الضمان في الديات). |
|
3ـ مستدرك الوسائل / الديات / موجبات الضمان / الباب 1 / الحديث 1. 5ـ وسائل الشيعة / الديات / موجبات الضمان / الباب 11 / الحديث 1. 6ـ على الأصح من وثاقة (مثنى) في السند وانه ابن الوليد الحناط، كما عبر بالصحة الجواهر (ج 37 / ص 47) ومباني التكملة (ج 2 ص 241)، والوجه عندنا رواية ابن أبي عمير عنه، وعند غيرنا غير ذلك. ولم أعرف وجه التعبير عنه بالخبر في الفقه / الديات / ص 129، والله العالم. 7ـ وسائل الشيعة / الديات / موجبات الضمان / الباب 8 / الحديث 1 و 3. 8ـ وسائل الشيعة / الديات / موجبات الضمان / الباب 8 / الحديث 1 و 3. 9ـ جواهر الكلام: ج 27، كتاب الغصب، ص 40. 10ـ رسالة (لا ضرر) ص 221، السطر الأخير. 11ـ بدايةالمقتصد ونهاية المجتهد: ج 2 ص 316. 12ـ جواهر الكلام: ج 26، ص 198. 13ـ جواهر الكلام: ج 26، ص 199. 17ـ مفتاح الكرامة: ج 6، ص 218. 18ـ انظر جواهر الكلام: ج 37، ص 36. 28ـ مفتاح الكرامة: ج 10 ص 293، 298، 299. 29ـ مفتاح الكرامة: ج 10، ص 293، 298، 299. 30ـ مفتاح الكرامة: ج 10، ص 293، 298، 299. 31ـ ارشاد الطالب في حاشية المكاسب: ج 2 / ص 147. 32ـ شرح المكاسب: ص 80. 33ـ بحث (لا ضرر) المطبوع في آخر حاشيته على المكاسب لمقرره الشيخ موسى الخوانساري، ج 2، ص 220. 34ـ منهاج الفقاهة / ج 3 / ص 92. 36ـ شرح المكاسب للخوانساري: ج 2 ص 221. 37ـ رسالة لا ضرر: ص 221، السطر الآخير. 38ـ جواهر الكلام: ج 38، ص 295. 40ـ جواهر الكلام: ج 30، ص 366 إلى آخر الجزء. 41ـ كتاب النهاية في (الجوامع الفقهية) ص: 405. 42ـ الجامع: ص 583، من كتاب (الجوامع الفقهية). 43ـ الغنية: ص 55، السطر الأخير. 45ـ نكت النهاية: ص 690، الأسطر الأواخر. 48ـ قاعدة لا ضرر: ص 221، وسط الصفحة.س 49ـ المكاسب: البيع الفضولي: ص 147. 50ـ وسائل الشيعة: ج 19، ص 9، أبواب موجبات الضمان، ح 4. 51ـ وسائل الشيعة: ج 19، ص 183، ح 1 و ج 13، ص 251، باب 11، ح 2. 52ـ وسائل الشيعة: كتاب الإجارة، ج 13، باب 16، ص 355. 54ـ وسائل الشيعة: ج 18، ص 239. 56ـ وسائل الشيعة: ج 13، ص 239. 57ـ جواهر الكلام: ج 27، ص 184. 58ـ وسائل الشيعة: ج 19، ص 191، ح 1. |