الفهرس

   

المؤلفات

   

أ ) حاجة إنسانية ملحة.................   ب) إقرار السلام واستمالةالأعداء....

ج ) تشريع حكم جديد...............


الأسباب والأدلة الخاصة

وحيث أتينا على استعراض طائفة من الأسباب والأدلة العامة التي تدل على عزوف النبي الكريم عن النساء، وعلى الشواهد الدالة على أن الرسول إنما اضطر أدبياً إلى اختيار واتخاذ عدة نساء، يلزم علينا أن نشير أشارة مقتضبة الى أسباب أخرى خاصة كانت هي السبب في تعدد زوجات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد يتداخل بعض الأسباب الخاصة في البعض الآخر، وقد عمدنا الى ذكر أقوى الأسباب الخاصة:

حاجة إنسانية ملحة

يقول القرآن الكريم في شأن الرسول العظيم، ((وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ)) ويمدحه في مكان آخر: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) ويبين النبي نفسه للناس بقوله (إنما أنا رحمة مهداة).

فالرسول جاء لينتشل العالم من الشقاء في جميع المجالات، وبعث ليدعم الإنسانية في كافة مظاهرها بما أوتي من قوة مادية ومعنوية، ومن المعلوم إن إيواء الأرامل اللاتي فقدن أزواجهن في ساحة القتال، أو في المنفى من أهم المطاليب الإنسانية التي تحتاج إلى الاستجابة، خصوصاً: إذا كان الرجل هو الذي سبب خسارة الزوجة لبعلها، وفقدانها له.

وفي ظل هذه الحقيقة القائمة، نجد تفسيراً واضحاً، وجواباً محدد المعالم، لما قام به النبي الكريم من تزويج النساء التاليات:

أ-   سودة بنت زمعة التي كانت أرملة متقدمة في السن، هاجرت مع زوجها (السكران بن عمرو بن عبد شمس) الى الحبشة، مع جماعة من المسلمين والمسلمات، فراراً عن بلدهم (مكة المكرمة) لئلا يحدق بهم البلاء، وأذى قريش أكثر... فأكثر...

وفي الرجوع فقدت زوجها في بعض الطريق، إذ مات قبل أن يوافي البلد الحرام، وعند ذاك: خسرت ركنها الركين، وملاذها القويم، ولم تجد رجلاً آخر من بين المسلمين يمكنه ايواؤها كزوجة كريمة.

وعند ذلك: أحبت أن تعيش في كنف الرسول، فسألته أن يتزوجها، فما كان منه إلا القبول استجابةً إنسانيّة رحيمة!!!

ب- حفصة بنت عمر بن الخطاب.. فقدت زوجها (خنيس بن عبد الله) في معركة بدر الكبرى، فأصبحت أرملة بلا مأوى ولا ملجأ، وحاول أبوها عمر في إقناع كل من أبي بكر، وعثمان على تزويجها، ولكنهما أبيا، ولعل ذلك كان بسبب من حدة كانت في مزاجها ـ كما يحدثنا التاريخ ـ.

وعند ذلك ما كان من الرجل العظيم إلا أن يتزوجها، ويظللها برحمته ورأفته الكبيرتين، جبراً لكسر خاطرها، وتسلية لقلبها، بعد أن طلب عمر ذلك من الرسول الكريم في إصرار، كما ذكر في السيرـ.

ت- زينب بنت خزيمة بن الحرث المكناة بـ (أم المساكين) قتل زوجها الكريم (عبد الله بن جحش) في وقعة أُحد، وكان أحد أُمراء المسلمين في الحرب، وقد ترأس أولى سرية خرجت للغزو في الإسلام.

وحيث لم تجد ـ بعد استشهاد زوجها ـ رجلاً لائقاً بها، تختاره كزوج لائق، تزوجها الرسول، وأغدق عليها الكثير من حنانه وعطفه!!!

ث-هند بنت أمية المخزومية المكناة بـ (أم سلمة)، هاجر زوجها (أبو سلمة) الى الحبشة ضمن قائمة من المسلمين المهاجرين، وابلى بلاء حسناً في سبيل الإسلام، وعندما مات تقدم لخطبتها جماعة من المسلمين، فأبت وقالت (إني امرأة مسنة، وصاحبة أيتام).

ولكن الرحمة المهداة الى العالمين تزوجها رحمة بها، وتقديراً وإكباراً لأعمال زوجها في سبيل الإسلام!!!

ج- رملة بنت أبي سفيان المكناة بـ(أم حبيبة) هاجرت مع زوجها (عبيد الله بن جحش) الى الحبشة في قافلة الهجرة المقدسة، وفي الحبشة خرج زوجها عن الإسلام، واعتنق النصرانية، وافترق عن الجالية الإسلامية، وبعد مدة مات مرتداً بالحبشة ودفن بها، وعند موته أصبحت أم حبيبة تحس بخسارة الزوج، مع ما كانت تحس به كأمرأة مطاردة مشردة عن بلدها الى بلاد أجنبية. وقبل أن يموت عبيد الله كان هناك بصيص أمل في رجوعه الى الإسلام، وثم الى بنت أبي سفيان، ولكن بعد أن مات مرتداً انطفأ ذلك الأمل، وغاب عن قلب أم حبيبة حتى ذلك البصيص!!!

عند ذاك: تحتم على الرسول العظيم أن يتزوجها، ويضللها برعايته الكريمة، جبراً لكسر خاطرها كأمرأة مطاردة في سبيل الإسلام، ثم كأرملة فقدت زوجها، وفي الأخير كأمرأة لم تجد لها زوجاً في المسلمين، وربما كانت لان لا يطلب يدها زوج كافر فيؤثر على إسلامها.

فلهذه الأسباب تزوجها الرسول العطوف وهي لا تزال في الحبشة، وكان وكيله في عقد الزواج (عمرو بن أمية الضميري) وفي السنة السابعة من الهجرة وافت أم حبيبة المدينة المنورة، وعاشت في جوار الرسول...

إقرار السلام واستمالة الأعداء

كان هدف الرسول هو: أن يصبح الناس كلهم مسلمين متدينين، لا يعبدون صنماً، ولايعرفون ظلماً، ولهذه الغاية النبيلة جاهد وكافح، وما سكن وما استقر منذ البعثة حتى الوفاة!!!

وكان يستند ويركن في الدعاء الى الإسلام، الى الحكمة الرشيدة، والموعظة الحسنة، والبعد والتجافي عن الغلظة والشدة والعنف، حتى وصفه الله تعالى بقوله ((وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)) وكان يتذرع بالسلم، ويفزع الى الصلح دائما وأبداً... الا في حالات عصيبة معقدة كان السيف فيها هو الدواء الوحيد، وحامي السلام الأول...

فالرسول العظيم كان محباً للصلح، ومدافعاً عن السلم طوال الثلاث والعشرين عاماً التي اكتنفت دعوته الرشيدة الى الإسلام.

ومن هنا: نجد العلة في زواج الرسول من عدة نساء كان لزواجه منهن أكبر الأثر في دعم السلام، وانتشار السلام، وصد هجمات الأعداء، واستمالة قلوب القبائل المعادية المحيطة بالمدينة المنورة، وغيرها...

فقد حقق الرسول بهذه الزيجات، أهدافاً سياسية بالغة الخطورة، ما كان له أن يصل اليها الا بهذه الوسيلة أو السيف: يضعه في رقاب جماهير من الأعداء، وبالحروب: يشنها الى هنا...

وهناك... وبالرجال من الفريقين: يسقطون صرعى بلا حساب ولا تعداد. واليك هذه القائمة

1 ـ جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار

بنو المصطلق: اسم قبيلة يهودية كانت بجوار (المدينة المنورة) وكانت تتربص الدوائر بالإسلام منذ هجرة الرسول العظيم من مكة المكرمة، حتى إنها استعدت في العام الخامس الهجري للهجوم على المدينة المنورة، وسحق الإسلام بعد القضاء على النبي وكبار المؤمنين، ولكنها بائت بالفشل الذريع: إذ علم النبي بالخبر، ووافاهم بالجيش الإسلامي بغتة، ونشبت الحرب بين الجبهتين، وعقد النصر براية الرسول ـ كبقية الغزوات ـ وقتل من اليهود جماعة، وأسر آخرون...

وكان في الأسرى مائتا (200) امرأة كانت من بينهم (برة بنت الحارث بن أبي ضرار) رئيس القبيلة، وكانت زوجة صفوان بن مالك حامل راية الكفار في هذه الحرب، والذي قتل هو وأبوه مالك، اللذان كانا من زعماء القبيلة وشجعانها، بيد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

وعند تقسيم الغنائم: أصبحت برة بنت الحارث من سهم: (ثابت بن قيس بن شماس) الذي كاتبها هو بدوره على أن تقدم اليه ثمنها لقاء الحرية.

ورأت برة بنت الحارث عدم تمكنها من دفع الثمن، وحيث كانت قد سمعت: أن الرسول على جانب كبير من الخلق العظيم زارته في أمر الكتابة وقالت له:

(يا رسول الله! أنا برة بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما قد علمت، فوقعت في سهم ثابت بن قيس، وكاتبني على تسع أوراق، فأعنى في فكاكي).

فقال لها الرسول الكريم:

(أو خير من ذلك؟)

فقالت: (وما هو؟)

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله):

(أؤدى عنك كتابك، وأتزوجك)

فقالت:

(نعم... يا رسول الله!)

فقال:

(قد فعلت).

وغيَّر الرسول اسمها عند ذلك، وسماها: (جويرية).

وانتشر الخبر بسرعة الضوء، وقالت الصحابة بصوت واحد، وفي لهجةاستنكارية:

(أصهار رسول الله يسترقون؟).

وأعتقوا ما كان في أيديهم من نساء ورجال بني المصطلق، فكان خير جويرية ـ بذلك ـ على قومها عظيماً!!!

وبهذا الزواج المبارك، وضع النبي العظيم حداً لاعتداءات اليهود المتكررة، ومؤامراتهم المستمرة، وخط خطوة واسعة نحو السلام، بعد أن ألف قلوب طائفة كبيرة من اليهود، وجرب أفئدتهم بسبب من يكرمه لهم بواسطة الأصهار.

2 ـ ريحانة بنت عمرو

بنو قريضة: قبيلة يهودية أخرى كانت تسكن قريباً من المدينة المنورة، وكانت تحيك المؤامرات ضد الإسلام في بادئ الأمر، ولكن الرسول عاهدهم بعد ذلك على أن لا تتعدى احدى الطائفتين على الأخرى، فأمن شرهم برهة من الزمان.

وعندما اتحدت القبائل، واجتمعت على غزو المدينة المنورة في (معركة الخندق) انحازت بنو قريضة الى أعداء الرسول، وانخرطت في (حرب الأحزاب) كعضو فعال.

وانتهت المعركة الرهيبة بانتصار الإسلام واندحار الكفر، وقتل عمرو بن عبد ود العامري ـ أسد الجزيرة المخيف ـ بيد بطل الإسلام الخالد: أمير المؤمنين (عليه السلام)، وانهزمت جيوش الشرك، وسرت موجة من الفرح والسرور في قلوب المسلمين جميعاً!!!

وبعد انتهاء الحرب مباشرة: هبط الأمين جبرئيل من عند الله تبارك وتعالى على الرسول يأمره بملاحقة بني قريضة الذين نقضوا العهد، وتعاونوا مع الأعداء في سحق الإسلام.

وتحرك النبي مع جيش الإسلام المتعب من المدينة المنورة، ووافى حصن بني قريضة، وعقد له النصر ـ مرة أُخرى ـ بعد حصار طويل وكانت في نساء بني قريضة المأسورات (ريحانة بنت عمرو) أحد زعماء بني قريضة التي صارت من نصيب الرسول.

وعرض النبي عليها الإسلام ـ بما فيه من محاسن وفضائل ـ فأسلمت في الساعة، وتزوجها الرسول لكي يجعل بين الإسلام وبين اعتداءات بني قريضة، سداً منيعاً بتأليف قلوبهم، واستمالة أفئدتهم...

يقول أحد الكتاب المعاصرين: (وكان لزواجه منها اكبر الأثر في نشر الدعوة للإسلام بين قبائل اليهود الذين هدأت ثائرتهم، وهز مشاعرهم إكرام الرسول لإحدى سيداتهم بزواجه منها).

3ـ صفية بنت حُيَيّ بن أخطب

بنو النضير: قبيلة يهودية ثالثة، كانت تعيش في منطقة غير بعيدة عن المدينة المنورة، وكانت من ألد القبائل عداوة للإسلام، وقد كانت العلة المباشرة لمعركة الخندق التي كادت أن تقضي على الإسلام قضاءاً مبرماً لولا مشيئة الله ـ عز وجل ـ.

وخيبر: اسم للمنطقة التي عاشوا فيها، وكان لهم بها سبعة حصون قوية تحميهم في حالة الطوارئ، وتقيهم عن بأس المهاجمين لدى الغارة، وفي يوم الحرب.

وكجواب حاسم لكل اعتداءاتهم المتلاحقة، ومؤامراتهم المتسلسلة، قصدهم الرسول العظيم في السنة السابعة من الهجرة على رأس جيش كبير لأجلائهم عن أراضيهم، وتأمين منطقة المدينة المنورة عن الاعتداءات المباغتة.

ويصل النبي الى أرض خيبر، ويطول الحصار، وتفتح القلاع واحدة بعد أُخرى حتى تسقط عن آخرها، وينهزم اليهود بعد قتل أُمرائهم الشجعان، على يد وصي رسول الله الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): مرحب، ربيع بن أبي الحقيق، عنترة، مرة، وياسر، ومن اليهم ويصير كل شيء في حوزة المسلمين!!!

وكانت في الأسرى (صفية) بنت حُيَيّ بن أخطب رئيس قبيلة بني النضير، فأعتقها رسول الله، وتزوجها استمالةً لقومها، وحفظاً لحرمتها، وكرامتها كبنت رئيس قبيلة، وجلباً لقلوب اليهود، وأهواءِ أعداء الإسلام.

وقد نتج عن ذلك: دخول جماعة من اليهود في الإسلام.

4و5ـ مارية القبطية... وريحانة القرطية..

وعندما فرغ رسول الله من تركيز حكم الإسلام في الجزيرة العربية، توجه الى الدول الكبرى، فأرسل إلى الملوك الرسائل، والرسل يدعوهم الى اعتناق الإسلام، والتمسك بالدين الحنيف.

وما ترك ملكاً من الملوك ـ الكبار والصغار على حد سواء ـ إلا وقد أرسل اليه كتاب الدعوة الى الإسلام، حتى أنه أرسل الى (كسرى) ملك الفرس، و (قيصر) ملك الروم، و (هرقل) عظيم الحبشة، و (المقوقس) عظيم القبط، وغيرهم...

وكان رد بعضهم عنيفاً شديداً وصل احياناً الى التآمر على حياة الرسول، وتمزيق الكتاب الكريم، بخلاف المقوقس الذي كان رده مسالماً، وديعاً، حتى أنه بعث الى النبي هدايا كثيرة، كانت تشتمل على هدايا ثمينة ونفيسة.

وكانت في جملة الهدايا سيدتان جليلتان هما (مارية بنت شمعون القبطية) و (ريحانة بنت زيد القرطية) لتكونا له كسريتين.

وما كان على الرسول العظيم الذي كان على جانب كبير من الحكمة والسداد ـ تجاه رد المقوقس الجميل ـ الا أن يقبل الهدايا برحابة صدر، وان يضم الجاريتين الى بقية ازواجه لتعيشا تحت كنفه، وتتنعما بظله ورأفته ورعايته، استمالة لقب المقوقس، ولقلوب الأقباط كافة!!!

أما إذا كان النبي يرد الجاريتن على المقوقس فماذا كان يحدث للإسلام؟ ألم يكن له رد فعل عنيف في نفوس الأقباط، بعد أن رأوا ما فعل بملكهم وعظيمهم من رد هداياه..؟ ثم هل يليق بمثل هذا التكريم الصادر عن الكافر أن لا يهتم الرسول بشأن الجاريتين، ويبيعهما أو يهديهما الى شخص آخر؟

6ـ ميمونة بنت الحارث

في العام الثامن الهجري فتح الله لرسوله (مكة المكرمة) التي كانت في تلك الأيام مركز انطلاق المؤامرات المعادية للإسلام، وأقوى حصون الشرك والضلال..

وبسقوط مكة سقطت الجزيرة العربية كلها، وفقد الكفر آخر القلاع التي كانت تمونه بالقوة طوال الأعوام الثمانية الماضية من الهجرة والأعوام الثلاثة عشر قبلها!!!

وفتحت مكة بخطة سياسية رشيدة، جعلت الرسول موضع تقدير وإعجاب السياسيين من لدن يوم الفتح الى اليوم، فقد سقطت في يد المسلمين بلا حرب ولا قتال، وقد استولى الرعب على قلوب زعماء القبائل المكية وأمرائها، حتى أنهم لم يجدوا وقتاً كافياً للتفكير في اتخاذ خطة معاكسة، ولم يجدوا أمامهم أمراً أحسن من الاستسلام!!!

في هذه المرحلة الحاسمة: أراد الرسول أن يخفف من وطأة الحادثة المباغتة حتى يجعلها في مذاقهم أمراً مستساغاً لا يتطلب جهداً فكرياً، ولا شيئاً علمياَ، فعمد ـ في معاملاته الأولى معهم ـ الى أعمال تأتي في قمة الإنسانية شموخاً وسمواً، وتكون أقرب الى (عالم الملائكة) منها الى (عالم البشر) بالنظر الى جلالتها، وكثرة روعتها الروحية!!!

وانتزعت هذه الأعمال ألباب المكيين، فأسلم الواحد منهم تلو الآخر طوعاً ورغبة، وكانت من بين المسلمات (ميمونة بنت الحارث) التي كانت من عائلة محترمة فيها الشجعان والزعماء.

وتزوج الرسول من ميمونة تكريماً لها ولعائلتها، ولقومها، ولأهل مكة جميعاً، وتخفيفاً من ألم الفتح الظافر، واستمالة للأعداء القدامى الالداء: صانعي المؤامرات، وباعثي الفتن.

واعتبر هذا الزواج المبارك: (فتحاً عاطفياً) لمشاعر المكيين يضاهي بل يفوق: (الفتح العسكري) في تأثيره ومفعوله العجيبين، فقد أسلم كبار عائلتها وقومها واحد بعد آخر، وباسلامهم أسلمت الجماهير الكافرة على حد تعبير الحكمة الشهيرة: (الناس على دين ملوكهم).

تشريع حكم جديد

وعندما نتوغّل في أسباب زواج الرسول من بعض النساء نجد: إنها كانت لتشريع أحكام جديدة فيما يتعلق بـ (الأحوال الشخصية).

وبعد أن نعلم: أن للإسلام مصدرين: القرآن الكريم، والسنة المنقولة عن النبي وأهل بيته (عليهم السلام) نعرف تماماً أن الرسول كان ملزماً بالزواج من بعض النساء ليبين للمسلمين ـ بالطريقة العملية ـ أحكاماً إسلامية نزلت على قلبه الشريف تخالف وتضاد الأحكام الجاهلية السائدة آنذاك فيما يخص الموضوع.

والى القارئ الكريم نموذجين من ذلك:

الأول: زينب بنت جحش الأسدية

كان (زيد بن حارثة) مولى لرسول الله، قد اشتراه بعد زواجه من السيدة خديجة بنت خويلد ـ لحسابها ـ من سوق عكاظ لما رآه غلاماً كيساً حصيفاً..

وعندما بعث النبي دعاه الى الإسلام فأسلم، فكان يدعى (زيد مولى محمد)، وبطلب من أبيه حارثة بن شراجيل الكلبي، ووساطة من أبي طالب أعتقه النبي، ولكن زيد لم يفارق النبي، واصر على ملازمته!!

وكانت (زينب) بنت عمة النبي: ميمونة بنت عبد المطلب، وقد طلب الرسول من زينب الزواج من مولاه المعتق: زيد بن حارثة، ولكنها أبت لأن زيداً عبد معتق وهي سيدة محترمة شريفة من بيت كريم، وكانت تحب ـ هي وأقاربها ـ أن تصبح زوجة للرسول العظيم نفسه. عند ذلك نزلت الآية الشريفة: ((وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)).

فقبلت زينب، وأقرباؤها الزواج من زيد بن حارثة، فزوجها الرسول منه، وبهذا الزواج ألغى رسول الإسلام عادة جاهلية تقضي بعدم الزواج إلا بالأمثال قبيلة وبطناً!!!

ولكن الزواج أخذ يتعثر يوماً بعد يوم، وعرضت المشكلة على رسول الله علها تحل، وزاد تفاقم الأمر، وانتهت القضية الى الطلاق، ووقع الفراق بين زيد بن حارثة وبين زينب بنت جحش.

وحيث إن زيد بن حارثة كان قد تبناه الرسول قبل البعثة المقدسة، وحيث إن الجاهليين كانوا يعتقدون: إن الرجل إذا تبنى غلاماً كان كابنه الحقيقي، وكما يحرم نكاح (زوجة الإبن الحقيقي) كذلك يحرم نكاح: (زوجة الإبن المتبنى) لذلك كله: تزوج الرسول زينب المطلقة من زيد ـ بأمر الله تعالى ـ لينسف بذلك قاعدتين جاهليتين، وليشرع حكمين جديدين هما: الأول إن التبني ليس في الإسلام، وان زوجة الأبن المتبنى (في عهد الجاهلي) يجوز أن تصبح ـ بعد الطلاق طبعاً ـ زوجة للأب المتبني (في العهد الإسلامي).

يقول القرآن الكريم في حكاية هذه القصة: ((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)).

وحيث كان الجاهليون يعيرون الرسول العظيم بزواجه من زوجة ابنه المتبنى (زيد بن حارثة) وحيث كانوا يقولون: محمد أب زيد، فلماذا تزوج بزوجته، جاء القرآن الكريم لينسف هذه التخيلات قائلاً ((ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً* الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً * ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيماً)).

االثاني: خولة بنت حكيم السلمي

تذكر كتب الفقه الإسلامي: إن رسول الله يختض بأشياء من دون أمته جمعاء، فهناك أحكام واجبة علية لوحده غير واجبة على بقية المسلمين، (كصلاة الليل مثلاً) وهناك أمور تحرم عليه، في حين لا تحرم على غيره من المؤمنين التي من جملتها: خطف البصر (خائنة الأعين).

وبالنظر الى هذه الناحية: كان تحل للرسول العظيم: (المرأة التي تهب نفسها له) بلا عقد فيما كانت تحرم على سائر المسلمين فلا نكاح الا بعقد.

وهذا حكم اٍسلامي جديد كان على النبي أن يبينه للمسلمين، بطريقة عملية لا تدع للشكوك مجالاً. ولعل عدم جواز مثل ذلك لسائر المؤمنين كان لأجل أن لا يدع التشريع الإسلامي مجالاً لما لا يحمد عقباه من العلاقات الجنسية الضارة.

وهناك اختلاف كبير في المرأة التي وهبت نفسها للنبي، حتى بلغت الأقوال الى ستة كل واحد منها يقول: إنها كانت فلانة... وقيل: الحكم ثابت في الشريعة ولكن ليس هناك امرأة قد وهبت نفسها للرسول فعلاً وخارجاً. وتفصيل الواقعة ـ كما في تفسير علي بن ابراهيم القمي ـ هي كما يلي: إن امرأة من الأنصار ـ خولة بنت حكيم السلمي ـ أتت رسول الله وقد تهيئت وتزينت، فقالت: يا رسول الله هل لك في حاجة فقد وهبت نفسي لك؟ فقالت لها عائشة: قبحك الله ما أنهمك للرجال! فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا عائشة! فإنها رغبت في رسول الله إذ زهدتن فيه، ثم قال رحمك الله، ورحمكم يا معشر الأنصار! نصرني رجالكم، ورغبت في نساؤكم، ارجعي رحمك الله فاني أنتظر أمر الله. فأنزل الله ((وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)).

وبعد:

فهذه هي: فلسفة تعدد زوجات الرسول العظيم، وقد رأيت ـ جملة وتفصيلاً ـ: أن النبي لم يتزوج امرأة لغاية جنسية قط، بل تزوج ما تزوج من النساء، واصطفى ما أصطفى من الجواري والإماء لمصالح عليا وغايات سامية، وأهداف بعيدة المرمى لا تتصل ـ من قريب أو بعيد ـ بالأمور الجنسية...

العراق ـ كربلاء المقدسة

مجتبى بن المهدي الحسيني الشيرازي