الفهرس

 

المؤلفات

 

سلسلة المعاليل

ثم إنَّه قد أشكلّ بعض على العنوان الخامس ـ وهو إنَّ قبح الفعل المتجرّى به عقلاً يستنتج منه الحرمة الشرعيَّة:

بأنَّ التجرّي وقع في سلسلة المعاليل وما كان كذلك لا يلازمه الحكم الشرعي فإنَّ قاعدة الملازمة خاصة بما إذا وقع الحكم العقلي في سلسلة العلل، ولا تشمل ما إذا كان في سلسلة المعاليل.

وتوضيحه: إنَّ الأحكام العقلية قسمان: قسم لا يتوقف على حكم شرعي كما في المستقلات العقلية كالتحسين التقبيح والعقليين، وقسم يتوقف عليها كغير المستقلات العقلية.

فإنَّ كان الأول ـ وهو ما يُعبَّر عنه بسلسلة العلل، لكونها مناطات الأحكام الشرعيَّة وعللهاـ، فتجري قاعدة الملازمة حينئذٍ ـ وإنْ خالفها جمع ـ.

وإنْ كان الثاني المعبَّر عنه بسلسلة المعاليل فإنَّ الحكم حينئذٍ يستلزم التسلسل.

مثلاً إطاعة المولى واجبة عقلاً، فلو حكمنا بوجوبها شرعاً لقاعدة الملازمة فينقل الكلام إلى هذا الحكم الشرعي، فالعقل يحكم بوجوب إطاعته، وبالملازمة يحكم الشرع بالوجوب وهكذا.

ولذا قالوا: إنَّ الأوامر الشرعيَّة الواقعيَّة في سلسلة المعاليل تكون إرشاديات إلى حكم العقل، فقوله تعالى ((أَطِيعُوا اللهَ)) ليس حكماً مولوياً وإنَّما هو إرشادي.

أقول:

إنَّ هذا الدليل ينقسم إلى شقَّين:

الأول: ليست هناك ملازمة بين أطع مثلاً عقلاً أو أطع شرعاً؟ مع وجودها في سلسلة العلل.

الثاني: أطع الشرعي إرشادي لا مولوي.

ويمكن الإشكال على كلا الشقّين:

إمّا الشقّ الأول:

فيَرِدُ عليه: أولاً: إنَّه أي مانع في كون الملازمة في الأول فقط، أي أنَّ وجوب إطاعة الله مثلاً يدلُّ عليه العقل، فبملازمته يدلُّ عليه الشرع أيضاً ـ مع قطع النظر عن الأمر الوارد ـ ولا حكم عقلي آخر كي يلزم التسلسل.

لكن يمكن أنْ يقال: إنَّ حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فإذا كان (صلَّ) يتبعه (أطِع عقلاً) فيتبعه (أطِع شرعاً). فبنفس ملاك (أطِع عقلاً لصلِّ) يقول (أطع عقلاً لـ (أطع شرعاً) وهكذا.

وثانياً: في تلك الموارد العقلاء عالمون أم أكثرهم جاهلون؟

فإنَّ كان الأول: فيكون الإرشاد لغواً، أو لا معنى له.

وإنْ كان الثاني: فأيُّ مانع مع الأمر المولوي باعتبار الأغلب بل وحتى البعض.

لكن يمكن الجواب أيضاً بأنَّه يكون تأكيداً في صورة العلم، فإنَّ كثيراً من الناس لا يهتم بحكم العقل فلو قام هناك أمرٌ شرعي ارتدع.

وثالثاً: إنَّه إنْ قلنا بأنَّ ملاك استحالة التسلسل هو حصر المتناهي لغير المتناهي، فإنَّ الملاك جار هنا أيضاً لو سلمنا التسلسل فيه، لكنْ في كون هذا ملاكاً نظراً.

وإنْ قلنا بأنَّ الملاك استحالة وجود علل ومعلولات غير متناهية، لاستلزامه الخلف، حيث إنَّه إذا أخذنا جملة العلل والمعلولات إلى ما لا نهاية، ووضعناها جملة ثم قطعنا بعض إحداهما، ثم أطبقنا إحدى الجملتين بالأخرى، بحيث يكون مبدأهما واحداً، فإنَّ استمرا إلى غير نهاية كانت الزائدة كالناقصة، وهذا خلف، وإن انقطعت الناقصة تناهت، ويلزم تناهي الزائدة، لأنَّ ما زاد على المتناهي بمقدارٍ متناهٍ فهو متناهٍ، فإذا قلنا بأنَّ الملاك ذلك فنقول ههنا:

إنَّه حيث لا توجد عليّة، ومعلوليّة بين حكمي العقل والشرع، فلا استحالة في وجود أحكام غير متناهية إذ هنا: إمّا إطاعات غير متناهية، وأمّا أوامر كذلك.

والأول من الأمور الاعتبارية التي ينقطع فيها التسلسل بانقطاع المعتبر، والثاني يمكن عقلاً من الله لكونه غير متناه.

ولأجل ذلك أجاز الأصفهاني في النهاية كون أوامر الطاعة مولوية حيث قال:

إنَّ ما اشتهر من أنَّ الأمر بالإطاعة لو كان مولوياً للزم التسلسل أو التخصيص من غير مخصص، فإنَّه مندفع: بأنَّ الأمر بالإطاعة لو كان بنحو القضية الطبيعية لأمكن أنْ يعمَّ نفسه.

مع أنَّه لا محذور هنا من وجود أوامر غير متناهية، لأنَّ محذور التسلسل حقيقية لا يتحقق، إلاّ إذا كان بين الأمور غير المتناهية ترتّب عِلّي ومعلولي وليس كذلك، لا بين الأوامر ولا بين الاطاعات والموافقات غير المتناهية:

أمّا الاطاعات والموافقات غير المتناهية:

فلأنَّ عنوان الموافقة وإنْ كان ينتزع من الصلاة الخارجية، بالنسبة إلى الصلاة العنوانية التي تعلق بها الأمر بلحاظ موافقة العنوان والمعنون، فكذلك من الموافق بالحمل الشائع ينتزع عنوان الموافقة لعنوانه، لموافقة أي عنوان كان لمعنونه وهكذا إلى ما لا نهاية، لكنه تسلسل في الأمور الاعتبارية وينقطع بانقطاع الاعتبار.

وأمّا الأوامر:

فلأنَّ الأوامر وإنْ كانت خارجيّة، لكنّه ليس شيء منها معلولاً للآخر بنحو من أنحاء العليّة، وإنْ كان بين عنوان الأمر ومعنون أمر آخر ترتّب طبعي، لكون عنوان موافقة الأمر موضوعا لحكم ولكنه ليس بين الخارجيات منها ترتب عِلّي ومعلولي، وذهاب الأوامر إلى غير النهاية مع صدورها ممّن هو غير متناهٍ في القوة والقدرة غير ضائر، وليس مقتضية لامتثالات غير متناهية لأنَّ الاطاعات والموافقات كلّها منتزعة من فعل واحد وهي الصلاة الخارجية فالاستناد إلى التسلسل أو إلى ذهاب الأمر إلى غير النهاية لاوجه له.

أقول: كلامه صحيح، إلاّ أنَّ ذهاب الأوامر إلى غير النهاية وإنْ أمكن من غير المتناهي، لكنّه لغو لا يصدر من الحكيم.

ورابعاً: إنَّ غير المستقلات العقليَّة تشمل مثل (مقدمة الواجب واجبة)، فلو كان العقلي منها مستلزماً لوجوب شرعي فلا تسلسل، فلا يجري المحذور في كلّ غير المستقلات العقلية.

وخامساً: ما ذكره السيّد العم (دام ظلُّه) على تأمل: بأنَّ العليَّة والمعلوليَّة هي التي توجب التسلسل أمّا الكاشفيّة فلا، فإذا قال المولى: (أقمْ الصلاة) فالعقل معلولاً له حكم بأنَّ التجرّي على المولى قبيح، والحرمة الشرعيَّة ليست معلولة لحكم العقل، وإنَّما من حكمه نكشف الحرمة الشرعيَّة، بمعنى أنَّ الحكم العقلي يكون مرآةً للحكم الشرعي، ولم نجد مَنْ تعرَّض إلى هذا الجواب، وهو بحاجة إلى تأمل، وإنْ تمّ فيجري في جميع موارد سلسلة المعاليل، فلا فرق حينئذٍ بين سلسلة العلل والمعاليل إنْ تمّت الملازمة. انتهى.

وأمّا الشق الثاني:

فيَرِدُ عليه أولاً: إنَّ ظاهر نحو أطيعوا ونحوه المولوية، وحفظ الظاهر ـ بعد دفع المحذور العقلي ـ أولى من الحمل على الإرشاد.

إلاّ أنْ يقال بأن ذلك خلاف الظاهر عرفاً، ولذا إذا صلَّى العبد رأى العرف أنَّه يستحق على المولى ثواباً واحداً لا ثوابين، أحدهما لإطاعة أمر صلِّ والآخر لإطاعة أمر أطيعوا.

وثانياً: إنَّه لو قلنا بأنَّ (أطيعوا الله) مولوي، فكيف يلزم التسلسل لو أنكرنا الملازمة؟.

فأطيعوا مثل صلُّوا، والعقل يقول (أطِع صلِّ) و (أطِعْ أطيعوا)، ومنتهى القضية عند هذا الحد عند منكر الملازمة.