الفهرس

فهرس الفصل الخامس

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

حضارة المملكة الإسلامية

نريد بالحضارة ما تبلغ إليه الدولة من الثروة وبسطة العيش والتوسع بأسباب الترف والرغد في أرقى درجات عمرانها، والدولة الإسلامية أدركت تلك الدرجات أولاً في العصر العباسي ببغداد من أواسط القرن الثاني للهجرة إلى أواسط الرابع وفي العصر الأموي بالأندلس في القرن الرابع، وفي العصر الفاطمي بمصر من أواسط القرن الرابع إلى أواسط السادس.

وأسباب الحضارة في ما نحن فيه تقسم إلى قسمين كبيرين:

الأول: العمارة، أي إنشاء المدن وبناء المصانع والقصور.

والثاني: الثروة وبها يتم ما يقتضيه الترف من الانغماس في النعيم والرخاء وبسطة العيش.

فنتكلم أولاً عن المدن، فالمباني. ثم نبين ما بلغت إليه الأمة من الثروة وأسباب الترف والرفاه.

عمارة المدن

إن المدن التي سكنها المسلمون وحواها التمدن الإسلامي تعد بالمئات وهي منتشرة في آسيا وأفريقيا وأوروبا ومنها ما كان عامراً قبل الإسلام ومنها ما بناه المسلمون لأنفسهم، ولنبدأ بالقطر المصري فهو اليوم في نهضة مالية تضاعفت فيها الثروة إلى حد استغربه الناس وخافوا رد الفعل لأنهم رأوا غلاء في الأسعار فجأةً لم يعهدوا مثله وزادت مساحة الأرض الزراعية ستة أضعافها في قرن واحد، فبعد أن كانت مساحتها في أيام المماليك نحو المليون فدان وبعض المليون صارت ثمانية ملايين فدان، وبعد أن كان الفدان يباع ببضعة عشر جنيهاً بيع بمائة جنيه أو مائة وخمسين جنيهاً أو أكثر، فكيف لو علموا أن مساحة الأرض الزراعية إبان التمدن الإسلامي زادت على 25.000.000 فدان؟

عدد السكان

ويقال نحو ذلك في عدد السكان فلو قيل في أواسط القرن الماضي أن القطر المصري سيبلغ عدد سكانه إلى عشرة ملايين أو 12 مليوناً لعدّوا قولنا من الخرافات أو كما قال الدكتور كلوت بك: (من عادات الشرقيين المبالغة) لأن عددهم في أيامه لم يكن يزيد على 3.000.000 نفس فكيف يصدق زيادته إلى أربعة أضعافه؟ وقياساً على ما تقدم لا نرى مانعاً من بلوغ سكان القطر المصري إلى 20.000.000 نفس، فلا غرابة إذا بلغوا هذا العدد إبان التمدن الإسلامي.

مدينة القاهرة

وأشهر مدن القطر المصري في الإسلام الفسطاط والقاهرة وقد ذكرنا عمارة الفسطاط، وأما القاهرة فقد بناها القائد جوهر في أواسط القرن الرابع للهجرة معقلاً لمولاه المعز لدين الله الفاطمي وجنده، فظلت في أثناء دولة الفاطميين لم تتسع عمارتها وإنما كانت العمارة للفسطاط والقطائع. وذكر المقريزي أنه كان في هاتين المدينتين غير القاهرة 100.000 بيت في بعضها مائة إنسان ومائتان إذ يكون البيت مؤلفاً من خمس طبقات أو ست أو سبع ومع ذلك فهي في تقديره لا تزيد على ثلث بغداد فكم تكون عمارة هذه؟ ولما أفضت الدولة إلى صلاح الدين أذن للناس بسكنى القاهرة فاتصلت بمدينة الفسطاط تسمى (مصر) فلما صارتا مدينة واحدة أطلقوا عليهما اسم (مصر والقاهرة) ثم قالوا: (مصر القاهرة) ولما خربت الفسطاط ظل هذا الاسم للقاهرة وحدها كما هو مشهور.

قرطبة

وكانت عامرة قبل الإسلام وكان محيط المدينة الأصلية 33.000 ذراع عليها سبعة أبواب فأنشأ المسلمون حولها 21 ربضاً وفي كل ربض عدد من المساجد والأسواق والحمامات، فصار طولها 24 ميلاً وعرضها ستة أميال أو 144 ميلاً مربعاً (ومساحة لندن 117 ميلاً) وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين على طول ضفة الوادي المذكور وقد أحصوا مباني هذه المدينة وأرباضها إبان عمرانها إحصاءات مختلفة خلاصتها أن عدد الأبنية فيها كما يأتي:

عدد:

113.000 دور الرعايا.

430 دور القصر الكبير.

6300 دور أهل الدولة.

3873 المساجد.

900 الحمامات.

المجموع: 124.503

وذكروا أن عدد الأبنية بلغ في أيام ابن أبي عامر 200.000 دار للرعية و60.300 دار لأهل الدولة و80.455 حانوتاً غير الحمامات والخانات.

غرناطة

وأما غرناطة فكانوا يسمونها دمشق الأندلس لكثرة ثمارها وأعنابها وفاكهتها وتمتاز عن سائر مدائن الأندلس بنهر يتوزع على دورها وأسواقها وحماماتها وأرجائها الداخلة والخارجة وبساتينها كما يتوزع نهر بردى في دمشق، وبلغت غرناطة قمة مجدها في الدولة النصرية وأشهر ملوكها ابن الأحمر في أواسط القرن الثامن للهجرة وهو الذي بنى قصر الحمراء فيها كما بنى عبد الرحمن الناصر قصر الزهراء في قرطبة، ونتقدم إلى ذكر القصور والمباني.

1 ـ مباني الأمويين في الشام

لم يصلنا من أخبار مباني الأمويين في الشام ما يستحق الذكر إلا الجامع الأموي الذي جدد بناءه الوليد بن عبد الملك بدمشق وكان قبل الإسلام كنيسة على اسم القديس يوحنا فلما فتح المسلمون دمشق صالحوا أهلها على أن تقسم الكنيسة مناصفة المسيحيون يصلون في نصفها الغربي والمسلمون في النصف الشرقي. فلما أفضت الخلافة إلى الوليد بن عبد الملك أخذ النصفين جميعاً وجدد بناء الجامع فاستقدم نحو 12.000 صانع من بلاد الروم تأنقوا في بنائه فأنزلوا جدرانه كلها بفصوص من الفسيفساء خلطت بأنواع الأصبغة الغريبة فمثلت أشجاراً وفرعت أغصاناً منظومة بالفصوص ببدائع الصنعة الأنيقة، فأنفق في ذلك نحو 11.200.000 دينار، وكان طول الجامع من الشرق إلى الغرب 300 ذراع وعرضه 200 ذراع قائم على 68 عموداً، وأعظم ما فيه قبة مصنوعة من الرصاص متصلة بالمحراب عظيمة الاستدارة والارتفاع.

2 ـ مباني العباسيين وغيرهم

أول من شيّد الأبنية منهم المنصور فبنى القبة الخضراء ليحوّل أذهان الناس عن الكعبة إليها وبنى الجوامع والحصون والقصور في بغداد كقصر الخلد وقصر باب الذهب وغيرهما وأخذ الخلفاء بعده في تشييد المصانع واقتدى بهم وزراؤهم وأمراؤهم فأقاموا قصوراً فخمة تعرف غالباً بأسماء بانيها، والمتوكل كان مغرماً بالعمارة بنى ثلاثة أبنية تعرف بالهاروني والجوسق والجعفري بذل في بنائها جميعاً أكثر من 100.000.000 درهم. ثم صار تشييد المباني عادة جرى عليها الخلفاء فضلاً عن المنتزهات فبنى إسماعيل بن علي منتزهاً أنفق فيه 50.000.000 درهم، وكان المعتضد بالله محباً للعمارة أيضاً فبنى قصراً في الجانب الشرقي من بغداد سماه (قصر التاج) لم يتم في أيامه فأتمه ابنه المكتفي، ولما كان المعتضد مشغولاً في بناء قصر التاج اتفق خروجه إلى آمد فلما عاد رأى الدخان يرتفع إلى الدار فكرهه وابتنى على ميلين منه قصراً سماه (قصر الثريا) طوله ثلاثة فراسخ أنفق فيه 400.000 دينار. وبنى المقتدر بالله في أول القرن الرابع داراً فسيحة ذات بساتين مونقة عرفت بدار الشجرة لشجرة كانت فيها مصنوعة من الذهب والفضة في وسط بركة كبيرة أمام إيوانها وبين بساتينها شجر له ثمانية عشر غصناً من الذهب والفضة لكل غصن منها فروع كثيرة مكللة بأنواع الجوهر على شكل الثمار، وعلى أغصانها أنواع الطيور من الذهب والفضة إذا مرّ الهواء عليها أبانت عن عجائب من ضروب الصفير والهدير، وفي جانب الدار من يمين البركة تماثيل خمسة عشر فارساً على خمسة عشر فرساً، ومثله عن يسار البركة قد أُلبسوا أنواع الحرير المدبج مقلدين بالسيوف وفي أيديهم المطارد يتحركون على خط واحد فيظن الناظر إليهم أن كل واحد منهم يقصد صاحبه.

وفي دولة آل بويه بنى معز الدولة قصره المعروف بالدار المعزية أنفق في بنائه 1.000.000 دينار وموّه سقفه بالذهب ـ ذكروا أنهم لما أرادوا هدمه بذلوا في حك الذهب من سقفه 8000 دينار ـ ولم يبق لهذه القصور أو الدور أثر الآن.

أما الأندلس فقد بنى بها آل مروان قصوراً سارت بذكرها الركبان ولا يزال بعض آثارها باقياً إلى اليوم وأكثرها في قرطبة وغرناطة فمنها في قرطبة القصر الكبير.

وهو آية من آيات الزمان شرع ببنائه عبد الرحمن الداخل في أواسط القرن الثاني للهجرة وأتمه من جاء بعده وبنوا القصور في داخله، وهذا القصر مؤلف من 340 داراً بينها قصور فخمة لكل منها اسم خاص كالكامل والمجدد والحائر والروضة والمعشوق والمبارك والرستق وقصر السرور والبديع، وقد غالوا في زخرفها وإتقانها وأنشأوا فيها البرك والبحيرات والصهاريج والأحواض وجلبوا إليها الماء في قنوات الرصاص على المسافات البعيدة من الجبال حتى أوصلوه إليها ووزعوه فيها وفي ساحاتها ونواحيها في تلك القنوات تؤديها إلى المصانع صوراً مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضة الخاصة والنحاس المموّه إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة ينصبُّ فيها الماء من أنابيب من الذهب أو الفضة بصور الحيوانات الكاسرة أو الطيور الجميلة على أشكال بديعة.

مسجد قرطبة

ومن عجائب قرطبة مسجدها الشهير ذكروا أنه لم يكن في بلاد الإسلام أعظم منه ولا أعجب بناءً ووصل اتساعه عرضاً بـ(285) ذراعاً وطولاً بـ(330) ذراعاً. وتحول الجامع المذكور بعد دخول قرطبة في حوزة الإفرنج إلى كنيسة ولا يزال على بنائه الإسلامي وعليه النقوش الشرقية والكتابة العربية.

قصر الزهراء

ومن قصورهم في قرطبة (الزهراء) بدأ بإنشائها الخليفة الناصر سنة 325هـ على أربعة أميال من المدينة وأتمها ابنه الحكم فاستغرق البناء أربعين سنة، وهي عبارة عن بلد كبير طوله من الشرق إلى الغرب 2.700 ذراع وعرضه 1.500 ذراع وعدد أعمدته أو سواريه 4.300 سارية بعضها حمل إلى قرطبة من رومية وأفريقية وتونس وبعضها أهداه صاحب القسطنطينية وفيها الرخام الأبيض والأخضر والوردي والمجزع، وكان في الزهراء مسجد فخم وعدة قصور وحدائق على نحو ما تقدم في وصف القصر الكبير إلى آخر ما ذكروا في وصفها وكان الناصر ينفق كل سنة لأجل القصر مليونين من الدنانير.

الزاهرة

واقتدى بالخليفة الناصر المنصور بن أبي عامر فابتنى سنة 368هـ قصراً لإقامته سماه (الزاهرة) ليكون معقلاً له يحميه من أعدائه فأقامه في طرف البلد على نهر قرطبة الأعظم وحشد له الصناع والعمال وبالغ في رفع أسواره وجعل فيه أبنية كثيرة من جملتها اهراء ودواوين وأقطع ما حولها لوزرائه وكتّابه وقواده فابتنوا الدور والقصور وغرسوا الحدائق فقامت الأسواق وتنافس الناس بالنزول في أكنافها تقرّباً من صاحب الدولة حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة واتصلت بهما الزهراء من الجهة الأخرى فأصبح الناس يمشون بين هذه المدن عشرة أميال على ضوء السراج.

قنطرة قرطبة

ويجدر بنا في هذا المقام الإشارة إلى القنطرة الفخمة التي أقامها المسلمون على نهر قرطبة وكانت مبنية قبل الإسلام ثم سقطت فأعاد المسلمون بناءها على يد عبد الرحمن الغافقي وطولها 800 ذراع وعرضها عشرون ذراعاً وارتفاعها 60 ذراعاً وعدد حناياها 18 حنية وأبراجها 19 برجاً.

قصر الحمراء وأمثاله

الحمراء قصر شهير في غرناطة لا يزال شكله محفوظاً إلى الآن يقصده السياح من كل مكان بناه ابن الأحمر في أواسط القرن الثامن للهجرة في أرض مساحتها 35 فداناً على مرتفع فسيح ويُقال أنها سُميت (الحمراء) نسبة إلى لون قرميدها. وفي هذا القصر كانت بركة السباع وفي وسطها تماثيل أُسود تقذف المياه من أفواهها على شكلٍ جميل إلى غيرها من القصور الكثيرة الفخمة لهم ولغيرهم.

3 ـ مباني آل طولون بمصر

أنشأ بنو طولون في مصر أبنية فخمة أشهرها الجامع الذي بناه أحمد بن طولون ولا تزال آثاره إلى الآن بالقاهرة، والقصر الذي بناه في القطائع وجعله ميداناً كبيراً، ولما توفي أحمد زاد فيه ابنه خمارويه وجعل الميدان كله بستاناً زرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر ونقل إليه الودى اللطيف الذي ينال ثمره القائم ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل، وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعّم العجيب وأنواع الورد وزرع فيه الزعفران وكسا أجسام النخل نحاساً مذهباً حسن الصنعة وجعل بين النحاس وأجساد النخل مزاريب الرصاص وأجرى فيها الماء المدبر فكان يخرج من تضاعيف قائم النخل عيون الماء فتنحدر إلى فساق معمولة ويفيض منها الماء إلى مجارٍ تسقي سائر البستان وغرس فيه من الريحان المزروع على نقوش معمولة وكتابات يتعهّدها البستاني بالمقراض حتى لا تزيد ورقة على ورقة إلى آخر الأوصاف العجيبة.

وعمل في داره مجلساً برواقه سماه بيت الذهب طلى حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول في أحسن نقش وأظرف تفصيل وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صوراً في حيطانه بارزة من خشب معمول إلى آخر الأوصاف العجيبة فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا، وجعل بين يدي هذا البناء آنية ملأها زئبقاً، وذلك أنه شكا إلى طبيبه كثرة السهر فأشار عليه بالتدليك فأنف من ذلك فقال: (لا أقدر على وضع يد أحد عليَّ) فقال له: (تأمر بعمل بركة من زئبق) فعمل بركة يقال أنها خمسون ذراعاً طولاً في خمسين ذراعاً عرضاً وملأها بالزئبق فأنفق في ذلك أموالاً عظيمة. وجعل في أركان البركة سككاً من الفضة الخالصة وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من الفضة وعمل فرشاً من أدم يُملأ بالهواء حتى ينتفخ فيحكم حينئذ شدّه ويلقى على تلك البركة وتشد زنانير الحرير التي في حلقة الفضة بسكك الفضة وينام على هذا الفرش فلا يزال الفرش يرتج ويتحرك بحركة الزئبق ما دام عليه، وكانت هذه البركة من أعظم ما سمع به من الهمم الملوكية يرى لها في الليالي المقمرة منظر بهيج إذا تألق نور القمر بنور الزئبق.

4 ـ مباني الفاطميين

ولما أفضى الأمر إلى الفاطميين بنوا في القاهرة الجامع الأزهر وهو عامر إلى اليوم وقصوراً أشهرها القصران الشرقي والغربي وأنفقوا على الأخير منهما 2.000.000 دينار فقس على ذلك ما أنفقوه في سائر القصور والدور كدار الفطرة ودار الديباج وغيرهما.

5 ـ مباني الأيوبيين والمماليك

ولما انتقلت الدولة إلى الأكراد كان أعظم آثارهم البنائية قلعة القاهرة بناها صلاح الدين ليعتصم بها من الشيعة ولا تزال قائمة إلى اليوم.

الثروة والرخاء

إن اشتغال الخلفاء والأمراء بإنشاء المدن وبناء القصور والمنتزهات إنما هو من ثمار الثروة وتكاثر النقود في بيوت الأموال.

ولما كان الخلفاء يتولون شؤون الدولة بأيديهم كانوا أكثر الناس ثروة فلما عهدوا بها إلى الوزراء تحولت الثروة إليهم وأصبح الخلفاء أحياناً مثل سائر الفقراء. ونأتي هنا ببعض التفصيل على سبيل المثال ذكروا أن المكتفي خلّف 100.000.000 دينار.

وأول من أثرى من الوزراء البرامكة في عهد الرشيد فكثرت ضياعهم (الأبعديات والجفالك) حتى بلغت غلة يحيى وابنه جعفر فقط 20.000.000 دينار في السنة، ولما نكبوا وقبضت أموالهم بلغ مقدار ما قبض منها 3.076.000 دينار غير الضياع والدور والرياش، ويشبه الوزراء ببغداد الكتّاب بمصر وقد أثرى منهم جماعة كبيرة كآل المارداني في أواسط القرن الثالث للهجرة فملك أحدهم وهو محمد بن علي المارداني ما قيمته 3.000.000 دينار من الضياع بالشام ومصر والأمتعة مع كثرة ما كانوا ينفقونه على الناس من الرواتب. وكانت غلته 400.000 دينار في السنة وهو مع ذلك لا يعد شيئاً بالنظر إلى البرامكة، ومثلهم آل المغربي وآل الكتامي بمصر أيضاً. وخلف يعقوب بن الليث الصغار في بيت ماله 50.000.000 درهم و4.000.000 دينار وقس على ذلك أموال السلاطين المماليك بمصر ورجالهم، وكانت مخالفاتهم من الجواهر والحلي تقدر بالأرطال والقناطير والصناديق، مثال ذلك ما خلفه الأمير سيف الدين تنكز التستري منها 19 رطلاً من الزمرد والياقوت وستة صناديق جواهر وفصوص ألماس و1250 حبة لؤلؤ كبار مدورة مما زنته درهم إلى مثقال و240.000 مثقال ذهب و10.000.000 درهم فضة وأربعة قناطير مصرية من المصاغ والعقود ونحوها كالحلق والأساور وستة قناطير فضة و1200.000 دينار، فقس عليه ثروة الخلفاء الفاطميين والسلاطين المماليك وغيرهم من سلاطين المسلمين وملوكهم، وإبراهيم الموصلي مغني الرشيد توفي عن 24.000.000 درهم.

نتائج الثروة

1 ـ التأنّق في الطعام

قد رأيت في كلامنا عن أطعمة العرب أنها كانت ساذجة قليلة فبعد أن كانوا يحسبون الكافور ملحاً والرز طعاماً مسموماً والخبز المرقق رقاعاً وبعد أن أكلوا العلهز والخنافس والعقارب وعجنوا الحنطة بنخالها، فاقوا الفرس والروم في التأنّق والتنعّم فتفنّنوا في معالجة اللحوم واصطناع التوابل المنبهة لشهوة الطعام التماساً للمزيد من اللذة، فكان الخلفاء والملوك ـ من بني هاشم (العباسيون) ـ إذا جلسوا إلى الطعام يقف الأطباء بين أيديهم ومعهم البراني والأدوية الهاضمة المسخنة الطابخة المقوية للحرارة الغريزية في الشتاء على اصطلاحهم في ذلك العصر، ويقفون في الصيف ومعهم الأشربة الباردة والجوارشنات الموافقة لذلك الفصل.

وكانوا يربّون الطيور الداجنة على أطعمة مغذية يتوهمون أنها تزيد في لذة طعمها أو نفعها أو تسهل هضمها، فكانوا يعلفون الفراريج الجوز المقشر ويسقونها اللبن الحليب، وبلغت علوفة البط وحدها على أيام المقتدر العباسي 30 قفيزاً من الشعير كل شهر، فاعتبر كم يحتاج إليه أحدهم إذا أراد نقل مطبخه من الدواب لحمله؟ ذكروا أن عمرو بن الليث الصغار كان مطبخه يُحمل على 600 جمل وكان للخليفة المقتفي العباسي ثمانون جملاً تحمل الماء من دجلة لشرب عياله وأما مقدار المطبوخ من كل طعام فلا قياس له على أنهم كانوا يجعلونه أضعاف ما يحتاجون إليه مخافة أن يطرقهم الأضياف فكانت الأطعمة تفيض بمقادير كبيرة يحملها الخدم ويبيعونها ويرتفقون بأثمانها فنتج من الانغماس في الأكل والتفنن في التشويق إليه كثير من علل القناة الهضمية توالت على أهل الترف في ذلك العهد كالقولنج وتلبك المعدة والدوزنطاريا وغيرها من عواقب النهم في اللحوم كالنقرس والروماتزم ونحوهما، وتسلطت السويداء على أمزجتهم وتولتهم حدة المزاج فجرهم الغضب إلى سرعة الفتك والقتل من تغلب السويداء كما يتضح من مراجعة أخبارهم وعلّة ذلك في الغالب فساد الهضم، واشتهر من الخلفاء والأمراء غير واحد من الأكلة منهم (في أيام بني أمية) معاوية بن أبي سفيان وعبيد الله بن زياد والحجاج بن يوسف وسليمان بن عبد الملك واشتهر من بني العباس محمد الأمين.

2 ـ البذخ في الألبسة

كان المسلمون في صدر الإسلام يتوخّون الخشونة في العيش والتعفّف بالمطعم والملبس، وأول من اتخذ زي الملوك من أمراء المسلمين معاوية منذ كان أميراً في الشام، وأحب الأمويون الوشي كما تقدم وأكثرهم رغبة في لبسه هشام بن عبد الملك فاجتمع عنده 12.000 قميض وشي و10.000 تكة حرير. وكانت كسوته إذا حج تحمل على 700 جمل، وكان الصناع يتبارون في إتقان هذه الصنائع ويغالون في زيادة ثمنها لما يلاقونه من البذل في ابتياعها لتوفر الثروة بين أيدي الناس ولاسيما الخليفة وأهل دولته فكان هؤلاء يتهافتون على اقتناء الألبسة لا يبالون كم يكون ثمنها حتى بلغت قيمة العمامة من الريبقي خمسمائة دينار وهم مع ذلك يكثرون من اقتنائها، وربما لبس الواحد 9 أقبية كل قباء بلون خاص للمفاخرة في البذخ، وقد تزيد على أضعاف حاجتهم إليها فيجتمع عند أحدهم عشرات أو مئات أو ألوف من القطعة الواحدة ولاسيما الخلفاء مثاله ما خلفه المكتفي بالله من الألبسة وهو:

4.000.000 من الثياب المقصورة سوى الخامات.

63.000 من الأثواب الخراسانية المروية.

8000 من الملاءات.

13.000 من العمائم المروية.

1.800 من الحلل الموشاة اليمانية وغيرها منسوجة بالذهب.

18.000 من البطائن التي تحمل من كرمان في أنابيب القصب.

18.000 من الألبسة الأرمنية.

وتوفي ذو اليمينين وفي خزانته 1300 سروال لم يستعملها ووجدوا في كسوة بختيشوع الطبيب 400 سروال ديبقي ولما قتل برجوان خادم الوزير بمصر وجدوا في تركته ألف سروال ديبقي بألف تكة حرير. ولما جهّز خمارويه ابنته قطر الندى إلى الخليفة المعتضد العباسي كان من جملة الجهاز ألف تكة ثمن الواحدة عشرة دنانير، وقس عليه سائر الملابس.

3 ـ الأثاث والرياش والمجوهرات

كان الخلفاء الأربعة يجلسون على الأرض مثل سائر الناس وكذلك عمالهم، وأول من اتخذ السرير في الإسلام معاوية بن أبي سفيان، ويريدون بالسرير المقعد أو الكرسي الكبير، ولم يقدم معاوية على ذلك إلا بعد استئذان المسلمين واعتذر بثقل جسمه فزعم أنه بدين فأذنوا له فاتخذه واقتدى به من جاء بعده من الخلفاء.

ولما خرج المسلمون للفتح في زمن الخلفاء الأربعة كان أكثر ما رأوه من الفرش الفاخر والمجوهرات الثمينة في فارس عند فتح المدائن فدهشوا منه ولم يعرفوا قيمته، مثلاً وقع لهم بساط يسمونه القطيف طوله 60 ذراعاً في 60 مطرزاً بالصور وعليه فصوص كالأنهار أرضها مذهبة وخلال ذلك فصوص كالدر وفي حافاته كالأرض المزروعة والأرض المقبلة بالنبات في الربيع والورق من الحرير على قضبان الذهب وزهرة الذهب وثمرة الجوهر، وحُمل هذا البساط إلى عمر في المدينة فقطّعه وفرّقه في أصحابه مثل سائر الغنائم. ولما انتقلت الخلافة إلى العباسيين اشتغل السفاح والمنصور بتأسيس الدولة وتأييدها فلما تأيّد سلطانهم مالوا إلى الترفّه فأخذوا بتقليد الدول السابقة حتى غالوا في الأثاث والرياش كل مغالاة، كالبساط الذي كان لأم المستعين وعليه صورة كل حيوان من جميع الأجناس وصورة كل طائر من ذهب وأعينها يواقيت وجواهر أنفقت في صنعه 130.000.000 درهم. وغالى الخلفاء العباسيون في اقتناء المجوهرات وأكثر ما تناقله المسلمون من الحجارة الكريمة في أوائل دولتهم مأخوذة من غنائم الفرس لأنهم غنموا ما يفوق الحصر من الجواهر التي قضى الفرس أجيالاً وهم يجمعونها ويتوارثونها فقبضها المسلمون صفقة واحدة ولم يعرفوا قيمتها كما بيّناه آنفاً، وأصابوا نحو ذلك لمّا حاربوا الأكراد فإنهم غنموا سفطاً فيه جواهر حملوه إلى عمر في جملة الغنائم فأمر ببيعه وقسمة ثمنه في المسلمين فباعه وقسّمه وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفاً، ولما تحضّروا صاروا يشترون الجواهر بالأثمان الغالية فاشترى الرشيد فص ياقوت أحمر بأربعين ألف دينار، واشترى فصاً آخر بمائة وعشرين ألف درهم وعرض أحد تجار المصوغات ببغداد على يحيى بن خالد سفط جوهر فساومه على ثمنه بسبعة ملايين درهم، وإن المأمون أعطى بوران في مهرها ليلة زفافها ألف حصاة من الياقوت وقد أوقد الشموع العنبر في كل واحدة مائة منّ وثلثان وبسط لها فرشاً كان الحصير منها منسوجاً بالذهب مكللاً بالدر والياقوت، وكان للفاطميين في القاهرة دور يختزنون بها أدوات الترف والبذخ يسمونها (خزائن) بعضها للفرش والبعض الآخر للجوهر وآخر للطيب وهكذا، فمما أخرجوه من خزانة الجوهر في أيام الشدة على عهد المستنصر بالله (توفي سنة 487هـ) صندوق فيه سبعة أمداد زمرد سألوا الصيّاغ عن قيمتها فقالوا إنما نعرف قيمة الشيء إذا كان مثله موجوداً.

واستخرجوا خريطة فيها جوهرة قال الصاغة أنه لا قيمة لها وأصل ثمنها 700.000 دينار بيعت يومئذ بعشرين ألف دينار، ووجدوا ما لا يحصى من أقداح البلور المنقوش والمجرود وصحوناً من الميناء منها ما يساوي مئات من الدنانير وفي مكان آخر 18.000 قطعة من بلور تتراوح أثمانها بين عشرة دنانير وألف دينار لكل قطعة، وصوانٍ من الذهب المجراة بالميناء وغير المجراة المنقوشة بأنواع النقوش و17.000 غلاف خيار مبطن بالحرير محلاة بالذهب، ومما خلّفته رشيدة بنت المعز وحفظ هناك ما قيمته 1.700.000 دينار، ووجدوا في خزائن الفرش من أصناف الأثاث والرياش ما يعدُّ بالألوف، من ذلك 100.000 قطعة خسرواني أكثرها مذهب ومراتب خسرواني وقلموني ثمن الواحدة 3500 دينار وأجلة معمولة للفيلة من الخسرواني الأحمر المذهب و3000 قطعة خسرواني أحمر مطرز بأبيض من هدبها لم يفصل من كساء البيوت، وكان في خزانة السلاح للفاطميين سيف الحسين بن علي (عليه السلام) ودرقة حمزة بن عبد المطلب (عليه السلام) وسيف جعفر الصادق (عليه السلام). وقس على ذلك سائر ملوك الإسلام في عصر الترف فقد كان عند سنجر بن ملكشاه 1030 رطلاً من الجوهر ولم يسمع بمثله عند الملوك.

4 ـ التسري

هو اقتناء الجواري للتمتع بهن أو استيلادهن، وكانت العرب في كل حال تحتقر أبناء الجواري حتى نبغ منهم ثلاثة من كرام الرجال أمهاتهم من بنات يزدجرد فرغب الناس في التسري، وزادت رغبة المسلمين في التسري إبان الحضارة حتى أصبح أكثر أبناء الخلفاء من أولاد الجواري وأكثر نساء أهل الدولة منهنَّ واقتدى بهم سائر الوجهاء والأغنياء، فعمدوا إلى اقتناء السراري ومن ولدت له تزوجها أو أعتقها، فبلغ عددهنَّ عند بعض الخلفاء عدة آلاف، ذكروا أنه كان للمتوكل العباسي 4000 جارية وطأهن جميعاً وعلم الأمراء برغبته فيهنَّ فتقرّبوا إليه بالهدايا منهنّ فأهداه عبد الله بن طاهر 400 وصيفة وكان لنصر الدولة صاحب ميافرقين 360 سرية على عدد أيام السنة غير ما كانوا يقتنونه من الجواري للغناء فقد كان عند الرشيد 2000 جارية منهن 300 قينة للغناء والضرب على آلات الطرب.

وأصبح الاستكثار من الجواري عادة مألوفة حتى صار النساء يقتنينهنَّ للزينة، فكان عند أم جعفر البرمكي 400 وصيفة يخدمنها، وقس على ذلك سائر دول المسلمين في المشرق والمغرب وقد فاق الفاطميون سواهم في الإكثار من الجواري أيضاً فكان في قصر الحاكم بأمر الله 10.000 جارية وخادم وكان عند أخته السيدة الشريفة ست الملك 8000 جارية منها 1500 من البنات الأبكار، ولما قبض صلاح الدين على قصورهم وجد في القصر الكبير 12000 نسمة ليس فيهم فحل إلا الخليفة وأهله وأولاده، غير الخدم والغلمان والأمتعة والتحف وأطلق صلاح الدين البيع فيهم فاستمروا يبيعون عشر سنين، ويختلف ثمن الجارية من بضع مئات إلى بضعة آلاف أو مائة ألف دينار، وأول من بذل في هذا السبيل إلى هذا المقدار سعيد أخو سليمان بن عبد الملك فابتاع الزلفاء الجارية الشهيرة بمليون درهم، وابتاع الرشيد جارية بمائة ألف دينار وجارية أخرى اشتراها من إبراهيم الموصلي بمبلغ 36.000 دينار فباتت عنده ليلة ثم أرسلها إلى الفضل، وطلب محمد الأمين إلى جعفر بن الهادي أن يبيعه جارية له اسمها بذل فأبى فأمر فأوقروا قاربه ذهباً فبلغت قيمة ذلك 20.000.000 درهم، وقس عليه ما دون ذلك وما فوقه واعتبر مقدار ما كانوا ينفقونه من الأموال في اقتنائهن.

5 ـ السخاء

وتدرّج المسلمون فيه بتدرّجهم في الحضارة والمدنية وزادت جوائزهم بزيادة الثروة واتساع الأرزاق فكان الأمويون يعطون بالألف درهم أو بضعة آلاف يلحقونها ببعض الماشية أو الكسوة أو الخيل وإذا توسّموا في العطاء مصلحة جعلوا الصلة عشرة آلاف أو عشرات الألوف أو مائة ألف أو مئات الألوف، أما العباسيون فكانت الثروة في أيامهم أوفر فبلغت أعطياتهم عشرات الملايين والغالب أن يكون سخاؤهم لغرض سياسي يعود نفعه على الدولة كما فعل المنصور إذ أعطى في يوم واحد عشرة ملايين درهم فرّقها في أعمامه ووجوه قواده ليقطع ألسنتهم عن مقاومته، ولما تولى ابنه المهدي استكتب أسماء أولاد المهاجرين والأنصار وجلس مجلساً عاماً فرّق فيه 3.000.000 درهم وقرر لكل واحد من أهل بيته 6000 درهم كل سنة، وأعطى المغيرة بن حبيب ألف فريضة يضعها حيث يشاء، وفرّق الرشيد في يوم واحد 13.500.000 دينار وطرب يوماً فنثر على الناس 6.000.000 درهم، وأعطى الهادي لعبد الملك بن مالك صاحب شرطة أبيه مالاً أرسله إليه على 400 بغل موقرة دراهم، وأعطى الأمين إلى سليمان بن أبي جعفر مليون درهم، واختص الأمين في أساليب السخاء بأنه كان يأمر بإيقار زورق الطالب ذهباً أو فضة وكان قصره على شاطئ دجلة فإذا جاء شاعر أو طالب في زورق وأخذته الأريحية أو استخفّه الطرب قال: (أوقروا زورق هذا ذهباً أو فضة). وأجاز المأمون طبيبه بمليون درهم وألف كر حنطة وفرّق المأمون في ساعة 26.000.000 درهم.

ومدحه أعرابي فأجازه بثلاثين ألف دينار وكان المتوكل يهب القطائع جوائز على المدح.

سخاء البرامكة

على أن العصر العباسي الأول إنما زها بالبرامكة وهم الذين رغّبوا الخلفاء بالسخاء وأولهم خالد بن برمك وزير المنصور والثروة لم تنضج في أيامه ومع ذلك فالوافدون على الخلفاء للاستجداء كانوا يسمونهم السُؤّال فقال خالد: (هذا والله اسم استقِلّه لطلاب الخير وأرفع قدر الكريم على أن يسمى به أمثال هؤلاء المؤملين لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدباً ولكننا نسمّيهم الدوار) وكان ابنه يحيى بن خالد إذا ركب أعطى كل من تعرّض له 200 درهم ويروون من أخبار سخائه ما هو أشبه بالخرافات منه بالحقائق، فقد ذكرنا في ما تقدم أن غلتهم بلغت 20.000.000 دينار في السنة فلما قُتل جعفر وقُبضت أموالهم وجدوا 12.000.000 دينار في بدر مختومة وعليها صكوك لأناس على سبيل الرواتب أو الصلات أو نحو ذلك، ومن فنون سخائهم أن الفضل بن يحيى كان يكتب رقاعاً بخطه فحواها: (أمعن إلى فلان الصيرفي وخذ منه كذا وكذا ديناراً) حسبما يجريه الله على يده ويركب في الليل أو في القائلة ويخترق شوارع البلد وينثرها فيها. وسُئل عن ذلك فقال: (أردت أن يصل برّي إلى من لا يصل إليَّ ولا أعرفه ولا يعرفني) فإذا وجد أحد رُقعة من هذه الرقاع مضى بها إلى الصيرفي فيأخذها منه ويعطيه ما فيها وعند الصيرفي أمين جالس لئلا يصالحه على بعضها، ولا يعطي لأحد غير رقعةٍ واحدة ولا يسأل عنه ولا يثبت اسمه وربما جاءت بيد الصبي والمرأة والذمي فيأخذ ما فيها واعتبر ذلك في سخائهم على الشعراء فقد أعطوا على القصيدة في مدحهم 100.000 درهم وأول من نال هذه الصلة منهم مروان بن أبي حفصة وصلهُ بها المهدي على قصيدة مدحه بها مطلعها:

(طرقتك زائرة فحيّ خيالها)

ومدحه سالم الخامس بقصيدة مطلعها:

(حضر الرحيل وشدت الأحراج)

فأراد أن ينقص له من جائزة مروان فحلف أنه لا يأخذ إلاّ 100.000.000 درهم ويقال أنه أعطاه إياها. أما الرشيد فأعطى مروان كما كان يعطيه المهدي أي مائة ألف درهم وأعطاه مرة 5000 درهم وعشرة من الرقيق وكان يعطي أبا العتاهية راتباً سنوياً مقداره 50.000 درهم غير الجوائز والمعونات وفاقهم المتوكل في ذلك لأنه أعطى حسين بن الضحاك ألف دينار عن كل بيت من قصيدة قالها وهو أول من أعطى ذلك وكان المعتصم إذا أعجبه قول الشاعر ملأ فمه جوهراً وقد سبقه إلى ذلك يزيد بن عبد الملك.

ويقال نحو ذلك في سخائهم على المغنين فقد أعطى المهدي دحمان المغني في ليلة واحدة 50.000 دينار لأنه أطربه. وأعطى الأمين إسحاق الموصلي 1.000.000 درهم لأنه غنّاه شعراً في مدحه فحملها إلى داره مائة فراش.

أما الرشيد فكان إذا طرب وهب وجاد حتى ولّى إسماعيل بن صالح مصر لأنه أطربه بغنائه.

6 ـ المسكر

كان المسكر شائعاً قبل الإسلام فلما جاء الإسلام ورد النصُّ بتحريمه وأقيمت الحدود في منعه ومع ذلك فاختلاط المسلمين بأهل البلاد المفتوحة عوّدهم إياها حتى شربها جماعة من الصحابة وأبنائهم فوقعوا تحت طائلة العقاب. وأول من عوقب على شربها وحشي بن حرب قاتل حمزة (عليه السلام). ومما ساعد على نشر الخمر بين المسلمين أن بعض الخلفاء الأمويين كانوا يشربونها كيزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان ويزيد بن عبد الملك والوليد بن يزيد، والوليد هذا أول من وصف الخمر وتغزّل بها فسرق الشعراء معانيه وأدخلوها في أشعارهم. وتهتّك الوليد في المسكر حتى حدّثته نفسه أن يسكر فوق الكعبة فخوّفه أصحابه من الناس فأمسك، وقد يطول مجلس الشراب فيسكر الشاربون ويعربدون. وربما أتوا في سكرهم بما لا يأتيه غير المجانين وأفظع ما يروى من هذا القبيل أن الملك الناصر بن الملك المعظم الأيوبي كان إذا سكر يقول: (أشتهي أن أرى غلامي فلاناً طائراً في الهواء) فيرمى ذلك المسكين بالمنجنيق ويراه في الهواء فيضحك ويشرب ويقول: (أشتهي أن أشم رائحة فلان وهو يشوى) فيحضر ذلك الرجل ويقطع لحمه ويشوى. أما العامة فانغمسوا في المسكر وشربوه على أنواعه شأنهم في كل زمان وإن لم يشربه حكامهم، فكيف إذا كانوا يشربون؟

7 ـ التهتّك

وطبيعي في ما قدّمناه من الحضارة والترف أن يعتريها شيء من التهتّك والفحشاء وإن كان ذلك لا يخلو منه قوم مهما بلغ من بعدهم عن الحضارة ولكنه يكثر غالباً في المتحضّرين لسكون خواطرهم وتوفّر أسباب الرغد والتنعّم عندهم، كان في جاهلية العرب جماعة من البغايا لهنّ رايات ينتحيها الفتيان وكان بعض الناس يُكرهون إماءهم على البغاء يبتغون عرض الدنيا حتى صار البغاء صناعة عليها رئيس يحتكم إليه البغّاؤون عند الحاجة وتفنّنوا في ترويج تلك البضاعة بتصوير النساء على جدران الحمامات، وأقبح ما ظهر من التهتّك في أثناء هذا التمدن مغازلة الغلمان وتسريهم وظهر ذلك على الخصوص في أيام الأمين وتكاثر بتكاثر غلمان الترك والروم من أيام المعتصم وفيهم الأرقاء بالأسر أو بالشراء. وتسابق الناس إلى اقتنائهم ـ كما تسابقوا إلى اقتناء الجواري ـ وغالوا في تزيينهم وتطييبهم. وكانوا يخصونهم ليأمنوا تعدّيهم على نسائهم وجواريهم. وفشا حب الغلمان في أهل الدولة بمصر وتغزّل بهم الشعراء حتى غارت النساء من ذلك فعمدن إلى التشبه بالغلمان في اللباس والقيافة ليستملن قلوب الرجال.

وكثرة الجواري في بعض القصور جرّهن إلى التفنّن بأساليب الفحشاء وربما اتخذت كل جارية خصّياً لنفسها كالزوج كما فعلت جواري خمارويه صاحب مصر حتى النساء الشريفات فإن قعودهن عن الزواج لعدم وجود الأكفاء أو لأسباب أخرى كان يجرهنّ إلى مثل ذلك فتكاثر الفساد فيهن لقلة التزويج. ذكروا أن ابنة الإخشيد صاحب مصر اشترت جارية لتتمتع بها وبلغ المعز لدين الله الفاطمي ذلك وكان لا يزال في الغرب يتحفّز للوثوب على مصر ويخاف الفشل فلما بلغه ما فعلته ابنة الإخشيد استبشر وقال: (هذا دليل السقوط) وجنّد على مصر وفتحها ـ والعفاف سياج العمران ـ .

1 ـ مجالس الخلفاء

تدرّج الخلفاء والأمراء في مظاهر الأُبهة واتخاذ الحُجّاب، بدأ بذلك معاوية بن أبي سفيان وأعانه عليه أمراؤه في العراق ومصر وعملوا مثل عمله وأشاروا عليه بضروب من الفخامة كان عليها ملوك تلك البلاد قبلهم واقتدى بهم سائر خلفاء بني أمية. وزاد العباسيون أسباب الأبهة بمن قرّبوهم من الفرس فأدخلوا في الدولة كثيراً مما كان عليه الأكاسرة في مجالسهم وسائر أحوالهم وبعد أن كانت مصالح الدولة تجتمع في بناء واحد اختصت كل منها بدائرة. وأصبح لبعض كبار الرجال دوائر خاصة بأعماله تشبه ما للخلفاء من دوائر الكتّاب والحسّاب والأطباء وغيرهم، وكان لمجلس الحكم في العصر العباسي داران دار خاصة ودار عامة يجلس الخليفة في الأولى مع رجال الدولة أو من يفد عليه من كبار الأمراء أو الملوك، وينظر في الثانية في سائر الشؤون ويعقد بها المجالس الاعتيادية. وفي وسط القاعة سدّة أو سرير يجلس عليه الخليفة يصنع من العاج أو الأبنوس أو الصندل ينزل بالذهب. وقد غالى الفاطميون في النفقة على الأسرة حتى يدخل في الواحد منها 110.000 مثقال من الذهب الإبريز الخالص. ولما كان الخلفاء يحتجبون عن الناس كانوا يعلقون في وسط القاعة ستراً بينهم وبين الجلساء.