الفهرس

فهرس الفصل الخامس

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

فرغنا من طبقات الخاصة وأتباعهم ونحن متكلمون عن العامة وهم أكثر عدداً وأبعد عن الحصر لأنهم لفيف من أمم شتى ولاسيما في بغداد إبان عمارتها. على أننا تسهيلاً للبحث نقسّم العامة على الإجمال إلى طبقتين كبيرتين الأولى طبقة المقرّبين من الخاصة والثانية طبقة الباعة وأهل الحرف والرعاع وغيرهم.

الطبقة الأولى

المقربون من الخاصة

نريد بهذه الطبقة نخبة العامة الذين تسمو بهم نفوسهم أو عقولهم إلى التقرّب من الخاصة بما يعجبهم أو يطربهم فيستظلون بهم ويعيشون من عطاياهم أو رواتبهم أو يرتزقون من بيع سلعهم عليهم وهم أربع فئات أهل الفنون الجميلة والأدباء والتجار والصنّاع.

1 ـ أهل الفنون الجميلة

المصوّرون

الفنون الجميلة ويسمّيها العرب (الآداب الرفيعة) ثلاثة: التصوير والشعر والموسيقى. فالتصوير لم يكن له شأن كبير في التمدن الإسلامي لورود القول بتحريمه وإنما كانوا يصوّرون ما يصوّرونه في الدولة الأموية والعباسية يقلّدون به ما بين أيديهم من تصوير الروم والفرس أو ما جاء به السلاجقة من صناعة المغول من أواسط تركستان، على أن التصوير ازدهر وارتقى في بلاد فارس بعد اجتماع كلمة الفرس تحت سيطرة المغول على أثر دخول هولاكو بغداد سنة 656هـ فإن تلك الصناعة أخذت بالارتقاء من ذلك الحين. وأما الشعر والموسيقى فقد راجا وتقرّب أصحابها من الخلفاء وسائر طبقات الخاصة واكتسبوا بهما الأموال الطائلة.

الغناء والدين

كان الغناء في صدر الإسلام مكروهاً إن لم نقل محرّماً ولما تولى الخلافة أصحاب اللهو والقصف أخذ الغناء في الانتشار وأول من أباحه ونشّط أهله يزيد بن معاوية ففي أيام يزيد هذا (سنة 60 ـ 64هـ) ظهر الغناء في مكة واستعملت الملاهي لأنه كان صاحب لهوٍ وطرب وتفشّى الغناء الجديد في الحجاز ولاسيما المدينة، ومازال محصوراً فيها تقريباً حتى أفضت الخلافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك (سنة 125 ـ 126هـ) وكان صاحب شراب ولهو مع تهتّك وخلاعة فبعث إلى المدينة في استقدام المغنين إليه في دمشق فأخذ الغناء بالانتشار في بلاد الإسلام من ذلك الحين. فالمسلمون لما تحضّروا وأخلدوا إلى السكينة والراحة عمدوا إلى الرخاء وفي جملتها الغناء والمرجع في ذلك إلى الخلفاء والأمراء لأن الناس على دين ملوكهم ولاسيما في الحكم المطلق فإذا أحب الخليفة الغناء أحبه رجال دولته، فراجت بضاعته وكثر المغنون والمغنيات حتى اشتغل الخلفاء وأهلهم به وتعلّموا الضرب على آلاته حتى كانوا يحملون المغنين وآلاتهم في أسفارهم ولو إلى القتال فقد وجدوا في معسكرهم لما ظفر به العباسيون بنواحي أصبهان سنة 131هـ ما لا يحصى من البرابط والطنابير والمزامير.

2 ـ العلماء والأدباء والفقهاء

هم طائفة من العامة تقرّبوا إلى الخلفاء بما يلذ لهم من سماع الأخبار والنوادر أو النظر في علوم تلك الأيام الدينية واللسانية أو الأدبية أو التاريخية، ويدخل في ذلك الفقهاء والمحدثون والنحاة والأدباء من أصحاب الأخبار كالأصمعي وأبي عبيدة والكسائي والفراء وغيرهم، وكان للخلفاء رغبة في مجالستهم وسماع أبحاثهم فكانوا يقرّبونهم ويعظّمون شأنهم ويجزونهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب. وقد تكلّمنا عن الفقهاء ومنزلتهم في أماكن كثيرة من هذا الكتاب.

واقتدى بالخلفاء وزراؤهم وأمراؤهم كالبرامكة وآل الفرات فإنهم أغدقوا الأموال على هؤلاء فنشّطوا العلم وأهله ريثما صار العلم صناعة يرتزق بها أصحابها من الناس.

3 ـ التجار

نريد بالتجار باعة السلع الثمينة التي تقتضيها الحضارة كالمجوهرات والمصوغات والرياش والثياب الفاخرة والآنية والرقيق. وأكثر ارتزاقهم من الخليفة وأهله وأهل دولته وسائر الخاصة من جلسائه وأعوانه. وكانوا يقيمون في بغداد والبصرة وغيرهما من المدن الإسلامية وأكثرهم من جالية الفرس والروم وغيرهم من الأمم الراقية. كانوا يحملون إلى دار السلام أصناف التجارة للارتزاق مما يتدفق من خزائن الدولة في عصر الثروة. وكان لهذه التجارات قوافل أو سفن تنقلها من الشرق إلى الغرب والشمال والجنوب وتبيعها في أسواق بغداد وغيرها من المدن الإسلامية. وأكثر الناس اشتغالاً بنقلها في البر طائفة من التجار اليهود الراذانية كانوا يتقنون اللغات الرائجة في ذلك العصر وهي العربية والفارسية والرومية والإفرنجية والأندلسية والصقلبية ويسافرون بين الأقاليم العامرة يحملون التجارات من إقليم إلى آخر كما كان الفينيقيون إبان دولتهم.

تجار المسلمين

فلما نضج التمدن الإسلامي واشتغل المسلمون أنفسهم بالتجارة لم يقصّروا في شيء من شروطها وأتقنوها علماً وعملاً حتى ألّفوا الكتب فيها وفي الاقتصاد السياسي، وبين أيدينا نسخة من كتاب (الإشارة إلى محاسن التجارة) للشيخ أبي الفضل جعفر بن علي الدمشقي من أهل القرن الخامس للهجرة فيه فوائد اقتصادية لم يسبقه أحد إليها وأبحاث في معنى النقود والسلع والمال الصامت والأعراض وتحقيق أثمان الأشياء ما لا تقلُّ قيمته عما بلغ إليه علماء الاقتصاد في هذا العصر، يدل ذلك على ما بلغ إليه المسلمون من الرقي في علم التجارة ناهيك عن أهل الرحلة منهم إلى أطراف المعمورة في ذلك العصر فقد طافوا العالم براً وبحراً من القرن الرابع للهجرة ودوّنوا رحلاتهم تسهيلاً لأسباب التجارة واكتشفوا طرقاً تجارية في البحر المحيط والبحر الهندي والبحر الأحمر في أواسط أفريقيا وآسيا لم يسبقهم إليها أحد.

وكان لابن الجصّاص بيت كبير في بغداد لبيع المجوهرات فلما كانت النكبات والمصادرات على عهد المقتدر بالله العباسي في أوائل القرن الرابع للهجرة كان ابن الجصّاص في جملة الذين صودروا، فصادره المقتدر بالله على 16.000.000 دينار وبقي له شيء كثير من الدور والقماش والأموال والضياع وغيرها. ويقال مع ذلك أنه كان أحمق أبله فاعتبر مقدار ما كان يصل إلى التجار أهل النباهة والدهاء وقس على ذلك ثروة تجار الفرش والأثاث ولاسيما في البصرة فقد اشتهر فيها جماعة من أهل اليسار وأكثر غناهم من تجارة البحر فقد كانت سفن بعضهم تُعد بالمئات وتحمل بها التجارة إلى أنحاء العالم، ذكروا واحداً منهم اسمه الشريف عمر كان دخله 2.500.000 درهم في السنة وبلغت ثروة صاحب مراكب في البصرة 20.000.000 دينار، ومنهم رجل اسمه أحمد بن عمار كان طحاناً بالبصرة فقصد بغداد في أيام المعتصم فاتسعت حاله حتى صار يخرج من الصدقة كل يوم مائة دينار، فإذا اعتبرتها عشر ماله كان دخله ألف دينار في اليوم واستوزره المعتصم لأمانته ولكنه كان جاهلاً.

4 ـ الصنّاع

أما الصناعة فقد أخذ المسلمون منها بنصيب كبير لأنهم كما برعوا بالاتجار في السلع برعوا أيضاً باصطناعها وارتقت الصناعة عندهم بتوالي الأجيال حتى فاقوا في بعضها البلاد الأخرى وامتازوا بصناعات خاصة بهم. فهم الذين نشروا السكر في العالم حيث نقلوه من مواطنه في الهند إلى بلاد فارس وأنشأوا له المعامل واستخرجوا منه أصنافاً لم يكن لها مثيل وهم أتقنوا صناعة الورق ونشروها في العالم وعنهم أخذها أهل أوربا بطريق الأندلس وقد امتازت بعض مدن الأندلس بصناعات كانت تفاخر بها صنائع المشرق فكان لهم في الميكانيكيات صنائع حسنة كالساعة التي اشتهرت في جامع دمشق وذكرها ابن جبير في رحلته بالقرن السادس للهجرة.

وقس على ذلك كثيراً من الآلات المائية وغير المائية المركّبة من البكر والأكر والأنابيب والأمخال وغيرها للدفع والجر والنقل ولهم فيها مؤلفات طوى الزمان بعضها، فيدل هذا وغيره على ما بلغ إليه المسلمون من إتقان فن الميكانيكيات مما يحتاج وصفه إلى كتاب برأسه.

الطبقة الثانية من العامة

نريد بهذه الطبقة سائر من بقي من الأمة وهم السواد الأعظم وفيهم الزارع والصانع والعيار والشاطر واللص والمخنث والصعلوك وغيرهم مما لا يحصى، ولسهولة الإحاطة بهم نقسّمهم إلى قسمين: أهل القرى وهم المزارعون، وأهل المدن وهم الصناع والباعة والرعاع.

1 ـ المزارعون أهل القرى

فالمزارعون أو الأكرة يتألف منهم معظم سكان المملكة وهم أصل ثروتها وأكثرهم من أهل الذمة يقيمون في القرى إلا من أسلم منهم فينزل في المدن، وكانوا يتكلمون لغات البلاد الأصلية السريانية والآرامية واليونانية في العراق والشام، والقبطية بمصر، والفارسية في بلاد فارس، والتركية في تركستان ما وراء النهر، وأخذ العنصر العربي يتغلّب على عناصرهم واللغة العربية تتغلّب على ألسنتهم والإسلام يتغلّب على أديانهم حتى ساد الإسلام عليهم جميعاً وعمّت العربية البلاد الواقعة غربي دجلة وهي العراق والشام ومصر وأفريقية والسودان وصارت تعدّ بلاداً عربية وأكثر أهلها مسلمون. وانقرضت اللغات التي كانت منتشرة فيها إلا بقايا قليلة من السريانية في بعض القرى المتباعدة من الشام والعراق. أما شرقي دجلة بفارس وتركستان والهند فقد ساد الإسلام أيضاً وانتشرت اللغة العربية بين أهل العلم ولكن ألسنة أهل البلاد ظلت حية يتفاهمون بها إلى الآن.

2 ـ العامة سكان المدن

هم نفيُ مَن يأمُّ المدن من أهل المطامع وطلاب المكاسب بالتجارة أو الجندية أو الأدب أو الشعر وتقعد بهم نفوسهم عن اللحاق بأهل الهمم وأصحاب القرائح فيضطرون إلى احتراف ما يتعيّشون به مما لا تعوزه همة أو رأي.

وعامة المدن طبقتان: الطبقة الأولى المرتزقون بالصناعة والتجارة وهم طائفتان:

(1) الصنّاع أصحاب الصناعات اليدوية كالحدادين والحياكين والخياطين والحلاقين والنجارين والصيادين والخبازين والطحانين ومن جرى مجراهم.

(2) الباعة الذين يبيعون البقل واللحم وغيرهما من أصناف المأكولات على أنواعها وبعض المنسوجات والسلع الدنيئة، وهم طوائف كثيرة كالزياتين والبقالين والجزارين وباعة الأقمشة والطحين والخضر ونحوها.

والطبقة الثانية المرتزقون بالدعارة والنهب واللصوصية وهم أصناف كثيرة نشأت في بلاد الإسلام على أثر الفتن والانشقاق بين أهل الدولة لا يستطيع أهل هذا الجيل تصور أمثالهم لبُعد ذلك عن مألوفهم إلا الذين أدركوا متشرّدي بيروت المعروفين بالزعران وهم طائفة من أهل البطالة كانوا يحترفون السرقة والتحرش بأبناء السبيل. والزعران مثال صغير لرعاع ذلك العصر فقد كان في بغداد وغيرها من مدن الإسلام طوائف كثيرة تُعرف بالعيارين والشطار والصعاليك والزواقيل ونحوهم، وكثيراً ما استفحل أمر بعضهم حتى تعجز الحكومة عنهم وقد تستنجدهم في بعض حروبها.

العيارون

ظهر العيارون ببغداد في أواخر القرن الثاني للهجرة وكان لهم في الفتنة بين الأمين والمأمون شأن كبير لأن الأمين لما حوصر في تلك المدينة وعجز جنده عن الدفاع استنجد العيارين وكانوا يقاتلون عراة في أوساطهم الميازر وقد اتخذوا لرؤوسهم دواخل من الخوص سمّوها الخود ودرقاً من الخوص والبواري قد قرنت وُحشيت بالحصى والرمل. ونظّموهم نظام الجند على كل عشرة عريف، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء قائد، وعلى كل عشرة قواد أمير، ولكل ذي مرتبة على مقدار ما تحت يده، ومعهم أناس عراة قد جعل في أعناقهم الجلاجل والصدف الأحمر والأصفر ومقاود ولجماً من مكانس ومذاب. وبلغ عددهم نحو خمسين ألف عيار وساروا للحرب يضربون الأعداء بالمقلاع والحصى وكانوا أهل مهارة بذلك فأبلوا بلاءً حسناً لكنهم لم يثبتوا أمام المجانيق والجنود المنظّمة فعادت العائدة عليهم وقتل منهم خلق كثير.

وحدث نحو ذلك من العيارين في حرب المستعين والمعتز سنة 251هـ إذ حُصِر المستعين بالله ببغداد ـ نحو حصار الأمين فيها ـ فاستعان بالعيارين وفرض لهم الأموال وجعل عليهم عريفاً اسمه ببنونه وعمل لهم تراساً من البواري المقيّرة وأعطاهم المخالي ليجعلوا فيها الأحجار. على أنهم كانوا كلما حدثت فتنة أهلية اغتنموا اشتغال الدولة بها وهمّوا بالمنازل والحوانيت وأخذوا الأموال. وكثيراً ما كانت تحدث أمثال هذه الفتن في بغداد من القرن الثالث للهجرة وما بعده. وكانوا يزدادون قوة كلما ازدادت الدولة ضعفاً وتكاثرت تعدياتهم على بغداد كلما تكاثرت الفتن فيها إما بين الحكام في التنازع على السلطة أو الأموال وإما بين العامة تعصّباً لبعض المذاهب ولاسيما بين السنة والشيعة أو الحنفية والشافعية. فلم ينقضِ النصف الأول من القرن الخامس للهجرة حتى تسلّط العيارون على بغداد وجَبوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذه رجال الدولة وانتظموا انتظام الشرطة أو الجند واشتهر من رؤسائهم في ذلك العصر رجل اسمه الطقطقي وآخر اسمه الزيبق بطل القصة المشهورة.

وظهر العيارون في سائر المدن الإسلامية وعظم شأنهم وكثيراً ما كان الوزراء وغيرهم من أرباب الحل والعقد يقاسمونهم ويسكتون عنهم.

الشطّار

هم طائفة أخرى من أهل الدعارة كانوا يمتازون بملابس خاصة بهم ولهم مئزر يأتزرون به على صدورهم يعرف بأزرة الشطار وكانوا أكثر انتشاراً في المملكة الإسلامية من العيارين وأطول بقاء منهم وظهروا في الأندلس ولهم فيها نوادر ونكات وتركيبات وأخبار مضحكة تملأ الصحف الكبار لكثرتها وتضحك الثكلى على أن اسمهم كان يختلف باختلاف البلاد فهم يُعرفون في العراق بالشطار وفي خراسان يسمّونهم سر بداران وفي المغرب الصقورة وسماهم ابن بطوطة (الفُتاك) وذكر تفشيهم في أيامه (القرن الثامن للهجرة) وأشار إلى اجتماعهم على الفساد وقطع الطرق وتكاثرهم في نواحي سبزوار حتى هجموا على مدينة بيهق وملكوها وملكوا غيرها وجنّدوا الجنود وركبوا الخيل وولوا أحدهم سلطاناً عليهم وانحاز إليه العبيد يفرّون من مواليهم فكل من جاء من هؤلاء أعطاه ذلك السلطان مالاً وفرساً إذا ظهرت منه شجاعة أمّره إلى آخر ما ذكر.

ولم يكن الشطار وغيرهم من أهل الشرور يعدون اللصوصية جريمة وإنما كانوا يعدونها شطارة وصناعة. وكان أولئك اللصوص إذا شاخ أحدهم ربما تاب فتستخدمه الحكومة في مساعدتها على كشف السرقات. وكان في خدمة الدولة العباسية جماعة من هؤلاء الشيوخ يقال لهم (التوابون) على أنهم كثيراً ما كانوا يقاسمون اللصوص ما يسرقونه ويكتمون أمرهم.

طوائف أخرى من الرعاع

وهناك طوائف أخرى من رعاع العامة أو من في معناهم تكاثروا في عصر الانحطاط بالمملكة العباسية كالصعاليك والزواقيل والحرافيش وغيرهم، كان طلاب السلطة يستعينون بهم في حروبهم بعضهم على بعض ويعدون بالآلاف فقد كان مع أبي دلف عشرون ألفاً من الصعاليك ويدخل في معنى هذه الطوائف ممن تجمهروا للارتزاق بالتعدي على أصحاب الأموال (العبيد) وكانوا كثيرين لا يخلو منهم منزل كما رأيت. فلما اختلت الأحوال وضعف أسيادهم ذهبت الهيبة من قلوبهم حتى إذا سنحت لهم فرصة نهضوا مع الناهضين. وربما انتحلوا لنهوضهم دعوة دينية يقومون بها كما فعل صاحب الزنج في أواسط القرن الثالث للهجرة فإنه قام قرب البصرة باسم الشيعة العلوية وكان في ضواحيها جماعة من العبيد يكسحون السباخ فدعاهم إلى النهوض معه على أن يحررهم من الرق ويريحهم من التعب وكانوا قد شاهدوا رفاقهم الأرقاء البيض (المماليك الأتراك) يتمرّدون على الخلفاء فاقتدوا بهم. فكل عبد سمع بهذه الدعوة تبعها حتى استفحل أمرهم وضربوا أسيادهم بالسياط واجتمع منهم مئات الألوف وحاربوا الدولة العباسية بضع عشرة سنة قتلوا في أثنائها 2.500.000 نفس من الرجال والنساء والأطفال مما تقشعر له الأبدان. وانتهت تلك الدعوة بقتل زعيمها وتفرّق أصحابه. وأراد البجة بمصر أن يفعلوا مثل الزنج بالعراق فلم يفلحوا، وقد يُعد من هذا القبيل أيضاً الحشاشون وهم طائفة من الفوضويين ظهروا في القرن الخامس للهجرة وجعلوا دأبهم الفتك بأهل السلطة غدراً وكان لهم شأن كبير في تاريخ الإسلام.

ومن طبقات العامة (المخنّثون) وكانوا في الحجاز قبل الإسلام وهم جماعة من أهل الخلاعة انتشروا بالمدينة بعد الإسلام على أثر ظهور اللهو والقصف وكثرة الأموال وكثيراً ما كانوا يفسدون النساء يتوسطون بينهن وبين الرجال، ولما انتشر الغناء في المملكة الإسلامية انتشر المخنثون معه وتكاثروا في بغداد والشام ومصر والأندلس وسائر المغرب. وفي ما خلا ذلك فقد كان في المدن من طبقات العامة ما لا يحصيه عَدّ من أهل الاحتيال للمعايش بأساليب الخداع والشعوذة أو نحوهما ولكل صنف من هذه الأصناف اسم خاص، وربما زاد عددها جميعاً على عشرين نوعاً كقولهم المخطراني والكاغاني والبانوان والقرسي والعواء والمشعبذ والفلور والاسطيل والمزبدي وغيرهم.

أخلاط العامة

العامة في المدن أخلاط من غوغاء ولفيف من أمم شتى وصناعات شتى وهم جهال أتباع من سبق إليهم من غير تمييز بين الفاضل والمفضول، ومع ذلك فطلاب السلطة كانوا يراعون جانبهم ويقرّبونهم بما يرضيهم. ذكروا من دهاء معاوية أن رجلاً من أهل الكوفة دخل على بعير له إلى دمشق في حال منصرفهم عن واقعة صفين فتعلق به رجل من أهل دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني في صفين فارتفع أمرهما إلى معاوية وأقام الدمشقي خمسين رجلاً بينه يشهدون أنها ناقته فقضى معاوية على الكوفي وأمره بتسليم البعير إليه فقال الكوفي: (أصلحك الله إنه جمل وليس بناقة) فقال معاوية: (هذا حكم قد أمضي) ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فأحضره وسأله عن ثمن بعيره ودفع إليه ضعفيه وبرّه وأحسن إليه وقال له: (ابلغ علياً أني أقابله بمائة ألف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل).

وبلغ من أمرهم في طاعته أنه صلّى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء وأعادوه رؤوسهم عند القتال وحملوه بها وركنوا إلى قول عمرو بن العاص أن علياً هو الذي قتل عمار بن ياسر حين أخرجه لنصرته، ثم ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن علي سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير.

وذكروا عن عامة بغداد إبان التمدن الإسلامي أن رجلاً منهم رفع إلى بعض الولاة وشاية برجل من علماء الكلام زعم أنه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل فقال: (إنه مرجئ قدري أباضي رافضي يبغض معاوية بن الخطاب الذي قاتل علي بن العاص) فقال له الوالي: (ما أدري على أي شيء أحسدك على علمك بالمقالات أو على بصرك بالأنساب؟).

وكان جماعة من علماء ذلك العصر يجتمعون في بغداد للمناظرة في أبي بكر وعمر وعلي (عليه السلام) ومعاوية وكان بعض العامة يأتون فيستمعون فتصدّى أكبرهم لحية ذات يوم لبعض المباحثين وقال له: كم تطنبون في علي ومعاوية وفلان وفلان؟

فقال له الرجل: فما تقول أنت في علي؟

قال: أليس هو أبا فاطمة؟

قال: ومن هي فاطمة؟

قال: امرأة النبي (صلّى الله عليه وآله) بنت عائشة أخت معاوية.

قال: فما كانت قصة علي؟

قال قتل في غزاة حنين مع النبي. وقد كان عبد الله بن علي حين خرج في طلب مروان إلى الشام وكان من قصة مروان ومقتله ما قد ذكر ونزل عبد الله بن علي الشام ووجه إلى أبي العباس السفاح أشياخاً من أهل الشام من أرباب النعم والرياسة فحلفوا لأبي العباس السفاح أنهم ما علموا لرسول الله قرابة ولا أهل بيت يرثونه غير بني أمية حتى وليتم الخلافة.