الفهرس

فهرس الفصل الخامس

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

نظام الاجتماع في العصر العباسي

نضج التمدن الإسلامي وتكيّفت طبقاته على شكل خاص بهذا التمدن وكان على أتم أشكاله في مدينة بغداد قصبة العالم الإسلامي فهي أوضح نموذج يُمثّل به نظام الاجتماع في ذلك العصر.

كان الناس في العصر العباسي طبقتين الخاصة والعامة تحت كل منهما طبقات وأتباع وفروع.

طبقات الخاصة

كان الخاصة خمس طبقات (1) الخليفة. (2) أهله. (3) رجال دولته. (4) أرباب البيوتات. (5) توابع الخاصة.

فالخليفة صاحب السلطتين الدينية والسياسية فأحرى بمن كان هذا منصبه أن يعظّم الناس شأنه ويتقرّبوا إليه بالطاعة وبذل الخدمة ويتزلّفوا بالمدح والإطراء. وأهل الخليفة هم بنو هاشم وكانوا أرفع الناس قدراً بعده ويسمّونهم الأشراف وأبناء الملوك فإذا دخلوا على الخليفة جلسوا على الكراسي وسائر الناس دونهم على الوسائد أو البُسُط، وكانوا يرتزقون على الغالب برواتب يتقاضونها من بيت المال فضلاً عن النعم والهدايا على ما يتراءى للخليفة في أمرهم، فإذا خاف تطاول أحدهم للمُلك أغلَّ يديه بالهدايا وقطع لسانه بالعطاء. فمن أعجزهم كف أذاه بالمال عمدوا إلى الفتك به، باشر ذلك أبو جعفر المنصور وسار الخلفاء على خطته فكانوا يعطون أهلهم الرواتب الباهظة والهدايا الفاخرة يسهّلون عليهم أسباب القصف واللهو ليشتغلوا بذلك عن طلب الملك وتعجز هممهم عن النهوض.

فكان الهاشميون (أي العباسيون) في الغالب من أهل السعة والرخاء يتمتّعون بشرف الملك ولا يحملون أوزاره وأعباء تبعته فانغمس أكثرهم في الترف وانهمكوا بالشراب والغناء وابتنوا القصور الشمّاء والحدائق الغنّاء واستكثروا من الجواري وجمعوا إليهم المغنيين والقيان وقرّبوا الشعراء والأدباء. وأكثر مقامهم في البصرة بعيدين عن دور الخلفاء ودسائسها إلا من ولاّه الخليفة عملاً أو جنداً، واشتهر بعضهم بالثروة الطائلة كمحمد بن سليمان فقد بلغت أمواله نيفاً وخمسين مليون درهم غير الضياع والدور وكانت غلّته 100.000 درهم في اليوم، وبلغت ثروة خمنة بنت عبد الرحمن الهاشمي ما لا يسعه الديوان ومع ذلك فقد كانوا يؤخذون بغير ذنبهم ويخافون الدسائس على حياتهم.

وأما رجال الدولة فنريد بهم الوزراء والكتّاب والقوّاد ومن جرى مجراهم من أرباب المناصب العالية، وكان أكثرهم إبان الدولة العباسية من الموالي وخصوصاً الفرس كالبرامكة وآل الربيع وآل سهل وآل وهب وآل خاقان وآل الفرات وآل الخصيب وآل طاهر وغيرهم. وكانوا يختلفون نفوذاً وسطوة باختلاف الخلفاء وتفاوت أدوار التمدن، ولكن الوزارة كانت على الإجمال من أوسع أبواب الكسب.

أما أهل البيوتات فهم الأشراف من غير الهاشميين ومرجع شرفهم إلى اتصال حبل قرباهم بالنسب النبوي أو بقريش وكان الخلفاء يراعون جانبهم ويفرضون لهم الأعطية والرواتب ويقدّمونهم في مجالسهم، على أن هذه الأنساب كانت أكثر نفعاً لأصحابها في عهد بني أمية مما في أيام بني العباس ولاسيما بعد سقوط العنصر العربي بقتل الأمين فلما أفضى الأمر إلى المعتصم قطع رواتب الأشراف في جملة ما قطعه من أعطيات سائر العرب ولعلها أعيدت بعد ذلك على غير قياس.

أتباع الخاصة

وللخاصة أتباع أخرجوهم من طبقات العامة بما خصّوهم به من أسباب القربى أو الخدمة وهم أربع طبقات: (1) الجند. (2) الأعوان. (3) الموالي. (4) الخدم. فالجند فرق كثيرة تختلف أصلاً ونظاماً. أما الأعوان فهم خاصة الرجل ورفاقه ولا يراد بهم ما يُراد بالرفاق أو الأصدقاء اليوم فقد كان للخلفاء وسائر الخاصة من رجال الدولة والأشراف رفاق يصطحبونهم ويجالسونهم ويعيشون في منازلهم ويكون لهم رواتب يتقاضونها. أما الموالي فقد فصّلنا الكلام عنهم سابقاً في هذا الكتاب وبيّنا أحوالهم وشروطهم وتاريخهم ولا حاجة إلى المزيد.

أما الخدم فأكثرهم في ذلك العهد الأرقّاء السود والبيض من الذكور والإناث وقد اصطلحوا أن يسموا الأرقاء البيض مماليك، والسود عبيداً ويقسّم الكلام في الخدم إلى ثلاثة أقسام: الأرقاء والخصيان والجواري.

1 ـ الأرقاء

ونأتي في هذا المقام بما يختص من هذا الموضوع بنظام الاجتماع. لقد تكاثر الأسرى في أثناء الفتوح حتى كانوا يُعدون بالألوف ويباعون بالعشرات، اعتبر ما كان من ذلك في الصدر الأول وما تبعه من الفتوح البعيدة في أيام بني أمية فقد بلغت غنائم موسى بن نصير سنة 91هـ في أفريقية 300.000 رأس من السبي فبعث خمسها إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك 60.000 رأس ولم يسمع بسبي أعظم من هذا. وذكروا أن موسى هذا لما عاد من الأندلس كان معه 30.000 بكر من بنات شرفاء القوط وأعيانهم وقس على ذلك غنائم قتيبة في بلاد الترك وغيرها.

وبلغت غنائم إبراهيم صاحب غزنة سنة 472هـ من قلعة في الهند 100.000 نفس، وفي وقعة ببلاد الروم سنة 440هـ بقيادة إبراهيم بن ينال سبى المسلمون 100.000 رأس غير الدواب. وفي جملة غنائم الحرب فضلاً عن الأسرى من الرجال جماعات من النساء والغلمان مما يثقل نقله فكثيراً ما كانوا يبيعونهم بالعشرات رغبة في السرعة كما فعلوا في واقعة عمورية سنة 223هـ إذ نادوا على الرقيق خمسة خمسة أو عشرة عشرة. وربما بلغ ثمن الإنسان بضعة دراهم، ذكروا أن غنائم المسلمين في واقعة الأرك بالأندلس سنة 591هـ بلغت من الكثرة بحيث كان يباع الأسير فيها بدرهم والسيف بنصف درهم والبعير بخمسة دراهم وقد يقضون عدة أشهر وهم يبيعون الأسرى والغنائم.

تلك أمثلة من أسباب تكاثر الرقيق عند المسلمين غير ما كان يرسله بعض العمال إلى بلاط الخلفاء من الرقيق وظيفة كل سنة من تركستان وبلاد البربر وغيرهما. فهل يستغرب بعد ذلك إذا استكثر المسلمون من العبيد والمماليك فيبلغ عددهم عند بعضهم عشرة أو مائة أو ألف؟ فكيف بالأمراء والقواد حتى في صدر الإسلام فإن عثمان كان له ألف مملوك. فاعتبر كم يكون عددهم في أيام الثروة والترف فقد كان الأمير في الدولة الأموية إذا سار مشى في ركابه مائة عبد أو بضع مئات أو ألف عبد وبلغ عدد غلمان رافع بن هرثمة والي خراسان سنة 279هـ 4000 عبد ولم يملك أحد من ولاة خراسان قبله مثله. على أن الغالب في الغلمان إذا كثروا عند أمير أن يتخذهم جنداً يحرسونه فيعلمهم الحرب والقتال. فقد كان عند الأخشيد صاحب مصر 8000 مملوك يحرسه في كل ليلة ألفان. ثم صار الاستكثار من الغلمان سنّة عند الخلفاء فكان عند المقتدر بالله 11.000 غلام أو مملوك وفيهم البيض والسود.

2 ـ الخصيان

الخصاء عادة شرقية كانت شائعة قديماً بين الآشوريين والبابليين والمصريين القدماء وأخذها عنهم اليونانيون ثم انتقلت إلى الرومان فالإفرنج. ويقال أن أول من استنبطها سيراميس ملكة آشور نحو سنة 2000 قبل الميلاد. وللخصاء أغراض أشهرها استخدام الخصيان في دور النساء غيرة عليهن. فلما ظهر الإسلام وغلب الحجاب على أهله استخدموا الخصيان في دورهم وأول من فعل ذلك يزيد بن معاوية فاتخذ منهم حاجباً لديوانه اسمه فتح واقتدى به غيره فشاع استخدامهم عند المسلمين مع أن الشريعة الإسلامية أميل إلى تحريمه على ما يؤخذ من حديث رواه ابن مظعون.

فكان التجار من الإفرنج وغيرهم يبتاعون الأسرى من السلاف والجرمان من جهات ألمانيا عند ضفاف الراين والألب وغيرهما إلى ضفاف الدانوب وشواطئ البحر الأسود ـ ولا يزال أهل جورجيا والجركس إلى اليوم يبيعون أولادهم بيع السلع ـ فإذا عاد التجار من تلك الرحلة ساقوا الأرقاء أمامهم سوق الأغنام وكلهم بيض البشرة على جانب عظيم من الجمال وفيهم الذكور والإناث حتى يحطّوا رحالهم في فرنسا ومنها ينقلونهم إلى إسبانيا (الأندلس) فكان المسلمون يبتاعون الذكور للخدمة أو الحرب والإناث للتسري. ولما استخدموا الخصيان في دورهم عمد تجار الرقيق وأكثرهم من اليهود إلى خصاء بعض الأرقاء وبيعهم بأثمان غالية فراجت تلك البضاعة وكثر المشتغلون بها وأنشأوا (لاصطناع) الخصيان معامل عديدة أشهرها (معمل) الخصيان في فردون بمقاطعة اللورين في فرنسا، وكانوا يخصون أولئك المساكين وهم أطفال فيموت كثير منهم على أثر العملية فمن بقي حياً أرسلوه إلى إسبانيا فيشتريه الكبراء بثمن كبير.

3 ـ الجواري

للجواري شأن كبير في تاريخ التمدن الإسلامي لا يقل عن شأن العبيد والموالي. وأصل الجواري ما يسبيه الفاتحون في الحرب من النساء والبنات فهنَّ ملك الفاتحين ولو كنَّ من بنات الملوك أو الدهاقين يستخدمونهن أو يستولدونهن أو يتصرفون في بيعهن تصرف المالك بملكه ولما أفضت أحوال المسلمين إلى الترف والقصف وتدفّقت الأموال من خزائن الخلفاء والأمراء جعلوا يتهادونهنّ كما يتهادون الحلي والجواهر، فمن أحب التقرب من كبير أهدى إليه جارية أتقنت صناعة يعلم أنه راغب فيها. ذكروا أن جارية اسمها دنانير صفراء صادقة الملاحة كانت أروى الناس للغناء القديم وقد خرّجها رجل من أهل المدينة فاشتراها جعفر البرمكي وسمع الرشيد صوتها فألفها وصار يسير إلى جعفر لسماع غنائها ووهب لها هبات سنية. وعلمت امرأته زبيدة بخبرها فشكته إلى عمومته فلم ينجحوا في إرجاعه فرأت أن تشغله عنها بالجواري فأهدت إليه عشر جوارٍ منهن مارية أم المعتصم ومراجل أم المأمون وفاردة أم صالح.

وكثيراً ما كان العمال والأمراء يتقرّبون إلى الخلفاء بأمثال هذه الهدايا فأهدى ابن طاهر إلى الخليفة المتوكل هدية فيها 200 وصيفة ووصيف. وليس الاستكثار منهن حادثاً في الإسلام وإنما هو من بقايا التمدن القديم فقد كان ملوك الفرس والروم يتهادونهن وبلغت عدتهن عند بعض الأكاسرة 6000 جارية وكان لجماعة من بني العباس ألف جارية.

تعليم الجواري

وكان تعليم الجواري وتربيتهن من أبواب الكسب الواسعة في ذلك العصر فيذهب أحدهم إلى دار الرقيق يبتاع جارية يتوسّم فيها الذكاء فيثقفها ويرويها الأشعار أو يلقّنها الغناء أو يحفّظها القرآن أو يعلّمها الأدب أو النحو أو العروض أو فناً من فنون المنازل ثم يبيعها، وقد ينبغن في حفظ القرآن حتى كان منهن عند أم جعفر مائة جارية لكل واحدة ورد عُشر القرآن وكان يسمع في قصرها كدوي النحل من القراءة.

فتعددت الجواري في دور الكبراء وتسابق أهل الترف إلى التفنّن في تزيينهن. وأشهر من فعل ذلك أم جعفر المذكورة فإنها لما رأت ابنها يغالي في تخنيث الغلمان وإلباسهم ملابس النساء اتخذت طائفة من الجواري سمّتهن المقدودات عممت رؤوسهن وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق كأنهن من الغلمان واقتدى بها وجيهات قومها فاتخذن الجواري الغلاميات أو المطمومات وألبسوهن الأقبية والمناطق المذهبة.

نفوذ الجواري

وطبيعي في ربّات الحسن أن يكنّ نافذات الكلمة لأن الجمال قوة والحب سلاح وكثيراً ما كان الخلفاء والأمراء يشتغلون بالجواري عن رعاية الملك ولاسيما المغنيات ولذلك كان رجال الحيلة يستخدمونهن للجاسوسية أو نيل رتبة أو منصب وكان المأمون يدسّ الوصائف هدية ليطلعنه على أخبار مَن شاء.