الفهرس

فهرس الفصل الرابع

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

الخلافة والسلطة

لما ظهر الإسلام كان النبي (صلّى الله عليه وآله) رئيس المسلمين في أمور الدنيا والدين وهو حاكمهم وقاضيهم وصاحب شريعتهم وإمامهم وقائدهم. وكان إذا أولى أحد أصحابه بعض الأطراف خوّله السلطتين السياسية والدينية وأوصاه أن يحكم بالعدل وأن يعلّم الناس القرآن. ولكن الارتباط بين الدين والسياسة في الإسلام يختلف عما في النصرانية لأن النصرانية انتشرت أولاً في عامة الناس ثم انتقلت إلى رجال الدولة. وأما الإسلام فإنه ظهر أولاً في رجال الدولة وانتقل منهم إلى العامة لأن أقدم أهل الإسلام الصحابة وهم جند المسلمين وأمراؤهم وقد نشروا الإسلام في الأرض وجاهدوا في سبيل نصرته بأنفسهم، فلما تأيّد الدين وقامت دولة المسلمين ورغب الأمراء في السلطة الدنيوية كان منصب الخلافة من أكبر أسباب تغلبهم لتأثير الدين على أذهان الناس في تلك الأيام فقد كانوا لا يجتمعون إلا تحت رايته وخصوصاً في الشرق ولا يزالون على ذلك حتى الآن على أن أهل التقوى من المسلمين كانوا يجعلون حداً فاصلاً بين الخلافة والسلطة فلما طلب معاوية السيادة كما يطلبها أهل المطامع بالدهاء والقوة خالفوه وأبوا مبايعته فلما قُتل علي (عليه السلام) وتنازل الحسن (عليه السلام) عن الخلافة لمعاوية لم يرَ المسلون بداً من مبايعته على الطاعة كما يبايعون الملوك لكنهم استنكفوا من أن يسموه (خليفة) أو يعترفوا له بسلطة دينية فسموه (ملكاً) وهو يأبى أن لا يجمع الرئاستين لعلمه أن الرئاسة الدنيوية وحدها لا تفيده شيئاً ـ ذكروا أن سعد بن أبي وقاص دخل على معاوية بعد أن استقر له الأمر وقال: (السلام عليك أيها الملك) فضحك معاوية وقال: (ما عليك لو قلت يا أمير المؤمنين؟) فقال: (تقولها جذلان ضاحكاً؟ والله ما أحب إني وليتها بما وليتها به) ـ .

فيظهر من ذلك أنهم كانوا ينزّهون الخلافة عن السياسة والدهاء ويعتقدون أن بني أمية نقلوا الإسلام من الدين إلى العصبية بالمال والسيف ثم إلى الملك البحت.

الخلافة لازمة للسلطة المطلقة

وفي اعتقادنا أن الحكم المطلق لا يتأيّد ويتسع نطاقه ويطول مكثه إلا بالدين أو ما يقوم مقامه، فما من دولة مطلقة طال حكمها واتسعت مملكتها إلا وفي سلطتها صبغة دينية تحميها من طمع الطامعين بأن تجعل لملوكها مزية على سائر الناس. وإذا أريد فصل الدين عن السياسة فلابد من تقييد الحكومة بالشورى وهي أفضل الحكومات وأطولها عمراً وإلا فإنها تختل سريعاً ويكفي لانحلالها أن يتولى شؤونها ملك قليل التدبير ناقص الاختبار فيغتصب ملكه بعض وزرائه أو قواده. وإذا تدبرت تاريخ الدول الإسلامية رأيت للسلطة الدينية تأثيراً كبيراً في طول بقائها واتساع نطاقها ولذلك كان بين الخلفاء الأولين وعلماء الدين الإسلامي كالحفاظ والمحدثين والفقهاء علاقة متبادلة وكل منهم يتقوّى بالآخر، ومعنى ذلك أن الخليفة هو صاحب السيادة الدينية والسلطة الدنيوية فهو أمير الناس في السلم وقائدهم في الحرب وإمامهم في الصلاة وهو قاضيهم وفقيههم كما كان النبي (صلّى الله عليه وآله) في أول الإسلام. فلما اتسعت الفتوح ودعت الحاجة إلى تقسيم الأعمال بمقتضى سنّة العمران عمد الخليفة إلى إنابة مَن يتولى تلك الأعمال عنه. فالوالي إنما هو نائب الخليفة في العمل الذي يتولاه والقاضي نائبه في القضاء وقائد الجند يتولى قيادته بالنيابة عن الخليفة. وقس على ذلك سائر المناصب الإدارية والسياسية والقضائية وكذلك في المهن الدينية فالقراء والمفسرون والمحدثون والفقهاء يتولون أعمالهم بالنيابة عن الخليفة. فكما يحتاج الخليفة إلى نصرة العمال والقوّاد والقضاة في تأييد سلطته الدنيوية فهو يفتقر أيضاً إلى نصرة الفقهاء والعلماء لتأييد سيادته الدينية، ولذلك ترى الخلفاء يقرّبون أهل العلم ولاسيما في أوائل الإسلام، فلما طمع بنو أمية بالخلافة والتمسوها عن طريق الدهاء والبطش كان في جملة ما أهملوه الأخذ بأقوال أهل العلم لأنهم لو أطاعوهم ما تيسّر لهم الملك، فقاسى العلماء في أوائل دولة الأمويين عذاباً شديداً من المقاومة والضغط فاضطر بعضهم للإفتاء بما يرضي أهل الدولة وأبى البعض الآخر إلا الحق فاضطهدوهم وضيّقوا عليهم، بدأوا بذلك من أيام عثمان والعمال يومئذ من بني أمية وقد أخذوا يمهّدون السبيل لسلطانهم بجمع الأموال والاستئثار بالنفوذ. وفي حكاية أبي ذر الغفاري مع معاوية بن أبي سفيان دليل ناطق على ما كان من جرأة أهل العلم على الخلفاء وإنكار الأمويين ذلك، فلما استتب الأمر لبني أمية حبست الأفكار وتقيّدت الألسنة ولم يتقدم من العلماء في مناصب الدولة إلا المتملقون، فظل الأحرار من الفقهاء في زوايا الإهمال معظم أيام بني أمية. فلما تسلّط العباسيون وأظهروا أنهم يريدون إحياء السنّة وتقويم ما اعوجّ من سُبُل الدين في عهد الأمويين ظهر أهل الأفكار المستقلة من الفقهاء والعلماء والزهاد وقرّبهم الخلفاء وأكرموهم فعادوا إلى جرأتهم في خطاب من يأنسون منه إصغاءً. فالفقهاء واسطة السيادة الدينية بين الخليفة والعامة مثل توسط الأمراء والقواد في تأييد السيادة الدنيوية وقد يغني الفقهاء عن الواسطتين جميعاً لأن عامة المسلمين ينقادون إلى فقهائهم ويستسلمون إليهم كما ينقاد عامة النصارى إلى كهنتهم. فالخلفاء العباسيون كانوا يحتاجون إلى الفقهاء للاستعانة بهم على إخضاع العامة وامتلاك قلوبهم وكذلك كان يفعل السلاطين والأمراء لنفس هذا السبب أو لسبب آخر. والنفع متبادل بين الفئتين لأن الفقهاء كانوا يكتسبون بتقرّبهم من الخلفاء مالاً وجاهاً ولكن ما يكتسبه الخلفاء منهم أعظم وأبقى، فرسخ احترام الخلفاء في قلوب العامة وتمسّكوا بهم وعظّموهم باسم الدين.

وكان الخلفاء يذعنون للعامة باسم الدين أيضاً، ولم يكن للخلفاء بد من إظهار التقوى والقيام بالفروض الدينية لئلا تفسد عليهم العامة ويحتقروا سلطانهم ولو كان الخليفة لا يعتقد ذلك. ذكروا أن الوليد بن يزيد الأموي مع اشتهاره بالخلاعة والتهتك كان إذا حضرت الصلاة يطرح ما عليه من الثياب المصبّغة والمطيبة ثم يتوضّأ فيحسِن الوضوء ويؤتى بثياب بيضٍ نظيفة من ثياب الخلافة فيصلي فيها أحسن صلاة بأحسن قراءة وأحسن سكوت وسكون وركوع وسجود فإذا فرغ عاد إلى تلك الثياب.

الدول الإسلامية والخلافة

فلهذا السبب كان الأمراء الذين يستقلون عن الدولة العباسية بالإدارة والسياسة لضعف الخليفة عن حربهم لا يستطيعون الاستقلال عنه بالدين إذ لا يستغنون عن بيعته لتثبيت سلطانهم فإذا أراد أحدهم الاستقلال بولاية أو فتح بلد أو إنشاء إمارة لنفسه بعث إلى الخليفة في بغداد يبايعه ويطلب منه أن يعطيه تقليداً أو عهداً بولاية ذلك البلد أو أن يلقبه ويخلع عليه وإذا أبى الخليفة أن يجيبه غضب وعدّ ذلك تحقيراً له وقد يجرّد عليه الجند ليكرهه على تثبيته. وكان الخلفاء من الجهة الأخرى يعرفون حاجة الأمراء المسلمين إلى رضاهم فإذا ساءهم أحد منهم هددوه بالخروج من بغداد فيضطر إلى استرضائهم لأن خروجهم يغضب العامة ويجرئهم على خلع الطاعة لتقديسهم شخص الخليفة وتنزيهه عن الخطأ، ولذلك فلم يكن من سبيل إلى نزع سلطته أو الاعتراض عليها إلا من وجه ديني فكان الذين يقومون على الخلفاء يجعلون سلاحهم الدين فيلبسون الصوف ويدعون إلى المعروف أو يعلقون في أعناقهم المصاحف أو نحو ذلك مما يحرّك عواطف العامة وإذا أراد أحد الخلفاء أن يصلح ما بينه وبين العامة أصلحه بالتقوى. فلما ضمن الفضل بن سهل الخلافة للمأمون أوصاه بإظهار الورع والدين ليستميل القواد ولما رأى أبو مسلم الخراساني أهل اليمن في مكة قال: (أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة) يريد تحريك عواطفهم الدينية بالوعظ والبكاء. فلم يكن للممالك الإسلامية بد من خليفة تبايعه ليثبت ملكها. وقد يستاء بعض الأمراء المستقلين من خليفة بغداد فيكظم ولا يخلع بيعته إلا إذا رأى خليفة آخر يبايعه فلما قامت الدولة الفاطمية بالمغرب ومصر خلعت كثير من البلاد بيعة خليفة بغداد وبايعت للفاطميين في القاهرة. فلما سطا التتر على بغداد وفتحوها سنة 656هـ وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله توقّف شأن الخلافة فاضطربت أحوال مصر وبذل سلاطينها جهدهم في إيجاد خليفة يبايعونه ولو أعوزهم خليفة ولم يجدوه ربما اختلقوا واحداً ليحكموا العامة به على أنهم ما زالوا يبحثون عن بقية الخلفاء العباسيين الذين كانوا في بغداد حتى ظفروا بالهاربين منهم فاستقدموهم إلى القاهرة وفرضوا لهم الرواتب واحتفلوا بهم احتفالاً عظيماً وبالغوا في احترامهم وإكرامهم مع علمهم أن أولئك الخلفاء لا يغنون عنهم شيئاً ولكنهم خافوا اختلال دولتهم بدونهم. وظل ملوك الهند وغيرهم من ملوك الإسلام بالأطراف البعيدة يبايعون للخليفة العباسي بالقاهرة ويطلبون التقليد منه أو المنشور لإثبات سلطتهم على يد السلاطين المماليك، فما الذي بعث أولئك الملوك على طلب التقليد من خليفة طريد شريد لا ينفع ولا يشفع لولا ما يتوقعونه من أثر ذلك في أذهان العامة؟ ولا ننكر أن بعضهم كان يطلب بيعة الخليفة تديّناً ولكن الأكثرية كانوا يطلبونها لاستصلاح العامة بها.

أما المبايعة بالخلافة لغير العرب فلم تنلها دولة إسلامية قبل العثمانيين فلما فتح السلطان سليم مصر وجد فيها آخر الخلفاء العباسيين الذين كان السلاطين المماليك قد استقدموهم فتنازل له عن الخلافة سنة 923هـ.