المؤلفات |
العصبية العصر العباسي وسياسة التقسيم |
على أن المنصور كان همّه منصرفاً إلى العرب لأنهم أهل عصبية إذا اجتمعوا تغلبوا على الدولة وفعلوا ما أرادوه لما يعلمه من جرأتهم في طلب الحق وتقبيح الظلم جهاراً ولا يحملون ضيماً وهو كما علمت بما ارتكبه في تأسيس دولته من الغدر والفتك مما لا تصبر عليه النفوس الأبية. وقد زاده حذراً منهم ما كان يسمعه من أقوالهم الدالة على رفضهم للضيم ولو كان فيه ما يسوئه كما اتفق له وهو في بعض حجاته وكان يطوف بالكعبة ليلاً إذ سمع قائلاً يقول: (اللهم أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع) فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله فطلب أن يؤمنه حتى يقول الحق، فأمنه فقال له: (إن الذي حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين) فقال المنصور: (ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي) فقال الرجل: (لأن الله تعالى استرعاك المسلمين وأموالهم فجعلت بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجر وأبواباً من الحديد وحجاباً معهم الأسلحة وأمرتهم أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير وما أحد إلا وله من هذا المال حق ..). فهذا وأمثاله نبّه المنصور لجرأة العرب فجعل يفكر في إذلالهم ويستنبط له الحيل، وكان المهدي بن المنصور قد جاء من خراسان فقدم عليه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها فهنأوه بمقدمه فجازاهم وكساهم وفعل المنصور بهم مثل ذلك فقال قثم للمنصور: (وقد بقي عليك بالتدبير بقية وهي أن تعبر بابنك (المهدي) فتنزله في ذلك الجانب من بغداد وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلداً وهذا بلداً فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك وإن فسد عليك بعض القبائل ضربتهم بالقبائل الأخرى) فقبل رأيه واستقام ملكه وبنى المهدي بلداً سماه الرصافة فاستعان المهدي في استبقاء دولته بسياسة التقسيم. ومازال شأن العرب يضعف في الدولة العباسية تدريجاً وحزب الفرس يقوى حتى أصبحت الدولة في أيام الرشيد بين عاملين كبيرين أحدهما فارسي والآخر عربي كل منهما يحاول الاستئثار بالسلطة. |
ذهاب عصبية العرب بذهاب دولة الأمين |
وكان المأمون فضلاً عن نسبه الفارسي من أمه قد تربّي في حجر جعفر بن يحيى البرمكي وهو الذي سعى له في ولاية العهد ورباه على حب الفرس، والفضل بن الربيع سعى في تأييد بيعة الأمين. ولما توفي الرشيد بعد مقتل البرامكة كان الفضل بن الربيع هو الذي حمل الأمين على نقض بيعة المأمون واختلف الأخوان على البيعة وكان المأمون عند أخواله بخراسان والأمين في أهله ببغداد ونشب القتال بين الفريقين وهو قتال بين الفرس والعرب لأن العرب في معظم المملكة العباسية كانوا من حزب الأمين. وقد نصر الخراسانيون ابن أُختهم المأمون بتدبير الفضل بن سهل، وكان الأمين يحرض جنده في بغداد بمشورة الفضل بن الربيع، وكان العرب من الجند العباسي قد أنهكتهم الحضارة والترف وتبددوا بسياسة التقسيم فلم يستطيعوا دفاعاً، فلما ضاق الحال بالأمين ولم يبق عنده مال للتجنيد استنجد رعاع أهل بغداد وفيهم العيارون والشطار وكانوا طوائف كبيرة. وأمر بعض قواده أن يتتبعوا أصحاب الأموال والودائع والذخائر من أهل الملة وغيرهم فلم يزده ذلك إلا ضعفاً، وانقضت تلك الحروب بفوز المأمون، فلما أفضت الخلافة إلى المعتصم سنة 218هـ وقد جمع ما جمعه من الأتراك والفراعنة كانت الضربة القاضية على العرب في الدولة العباسية لأنه كتب إلى عماله في الأطراف بإسقاط من في دواوينهم من العرب وقطع العطاء عنهم ففعلوا وهم يستعيذون بالله من ذلك وانحطّ شأن العرب من ذلك الحين ومنعوا من الولايات، وآخر من ولي مصر منهم عنبسة بن إسحاق صرف عنها سنة 242هـ فتمكن الفُرس من الدولة. |
نكبة الوزراء الفرس الوزراء الفرس قبل البرامكة |
لما انتقلت البيعة من العلويين إلى العباسيين وبويع هؤلاء بالخلافة ثم جعلها المنصور محصورة فيهم دون العلويين وقاتل آل الحسن وقتلهم بعد أن قتل أبا مسلم وغيره من شيعته لم يرَ الفرس بداً من الرضوخ لسلطانه خوفاً من بأسه. على أنهم ظلوا على مذهب الشيعة وتربصوا يتوقعون فرصة يثبون بها على الدولة أو يقيمون لأنفسهم دولة شيعية. وكان الخلفاء يلاحظون ذلك ويحاذرون الوقوع فيه فيستخدمون الفرس في أكبر مصالح الدولة على حذر، فإذا رأوا من أحدهم ميلاً إلى التشيع عزلوه أو قتلوه. ولذلك كان الوزراء يكتمون تشيعهم والخلفاء يبثون عليهم العيون في منازلهم. |
الوزراء البرامكة مرتبهم في الدولة |
ولما توفي المهدي والهادي وأفضت الخلافة إلى الرشيد استوزر البرامكة لأن خالداً جدهم من قواد أبي مسلم وقد جاهد في نصرة العباسيين جهاداً حسناً فاستوزره أبو العباس واستعمله المنصور في الحروب كما تقدم، وكان خالد كبير العقل واسع الصدر لم يبلغ أحد من ولده مبلغه في الجود والرأي والبأس والعلم، واشتهر ابنه يحيى بوفور العقل وسداد الرأي وكان مقرباً من المهدي يعوّل على رأيه، وولد ليحيى سنة 148هـ غلامه الفضل قبل ولادة الخيزران للرشيد بسبعة أيام وربى الطفلان معاً فأرضعت الخيزران الفضل من لبن ابنها فكان الفضل بن يحيى أخا الرشيد من الرضاعة وفي ذلك يقول سلم الخاسر: أصبح الفضل والخليفة هارو***ن رضيعي لبان خير النساء ولما ترعرع هارون عَهَد المهدي بتربيته إلى يحيى فشبّ الرشيد في حجره وكان يدعوه (يا أبت) فلما مات المهدي سنة 169هـ في جرجان كان أكبر رجال الدولة المقربين يومئذ يحيى بن خالد والربيع بن يونس. وخاف الرشيد اختلال الأمر إذا علم الناس بموت أبيه وهم في تلك الحال فاستشار يحيى فأشار عليه برأي كان فيه الصواب حتى رجعوا إلى بغداد وقد هاج الناس وفيها الخيزران أم الهادي والرشيد فبعثت إلى الربيع ويحيى لتشاورهما فأجابها الربيع ولم يجبها يحيى لما يعلمه من غيرة الهادي عليها. فسرّ الهادي من تصرف يحيى وشكره وأوصاه أن يقوم بأمر الرشيد كما كان في أيام أبيه ووبّخ الربيع، وأول شيء خطر للهادي بعد قبضه على أزمة الخلافة أن يخلع أخاه الرشيد من ولاية العهد ويحول الإرث إلى ابنه لتبقى الخلافة في نسله كما كان يفعل معظم الخلفاء في مثل هذه الحال، فأعلن الهادي عزمه لبعض خاصته فوافقوه وخلعوا هارون وبايعوا جعفر بن الهادي وتنقصوا من الرشيد في مجلس الجماعة، فأمر الهادي أن لا يسار بين يديه بالحربة على جاري العادة في المسير بين يدي ولي العهد فاجتنبه الناس وتركوا السلام عليه ورضي هو بذلك ولكن يحيى لم يرض بل حرّضه على التمسك بحقه في ذلك فوشى بعضهم إلى الهادي أن يحيى يفسد الرشيد عليه فبعث الهادي إلى يحيى فقال له: (يا يحيى مالي ولك) قال: (ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته) فقال: (لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده عليّ؟) فقال: (من أنا حتى أدخل بينكما إنما صيرني المهدي معه ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره فانتهيت إلى أمرك) فطابت نفس الهادي بهذا القول، فاغتنم يحيى رضاءه وقال: (يا أمير المؤمنين إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده كان ذلك أوكد للبيعة) قال: (صدقت) وصرفه. فلما لقي الهادي القواد الذين خلعوا الرشيد حملوه على معاودة الخلع فبعث إلى يحيى فحبسه فكتب إليه يحيى وهو في الحبس: (إن عندي نصيحة) فلما حضره وسأله عما عنده فقال يحيى: (يا أمير المؤمنين أرأيت إن كان الأمر الذي لا نبلغه ونسأل الله أن يعدمنا قبله ـ يعني صوت الهادي ـ أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر وهو لم يبلغ الرشد أو يرضون به لصلاتهم وحجهم وغزوهم؟) قال: (ما أظن ذلك) قال: (يا أمير المؤمنين أفتأمن أن يسمو إليها أكابر أهلك مثل فلان ويطمع فيها غيرهم فتخرج من ولد أبيك. والله إن هذا الأمر لو لم يعقده المهدي لأخيك لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي ولكنني أرى أن تقرأ الأمر على أخيك فإذا بلغ أشده أتيت بالرشيد فخلع نفسه له وبايعه) فقبل الهادي قوله وعمل به. وتوفي الهادي ولم يحكم إلا سنة وأفضت الخلافة إلى الرشيد ويحيى أول من بشّره بها وأتاه بالخاتم وهو نائم فعرف الرشيد فضله في ذلك وقال له: (يا أبت أنت أجلستني في هذا المجلس ببركتك ويمنك وحسن تدبيرك وقد قلّدتك الأمر) ودفع إليه خاتمه وجعل إصدار الأمور وإيرادها إليه وكان يعظّمه فإذا ذكره قال (أبي). وخلف يحيى أولاداً أحسنهم الفضل في جوده ونزاهته وجعفر في كتابته وفصاحة لسانه ومحمد في بُعد همته وموسى في شجاعته وبأسه. وقد تولوا أرفع المناصب وتصرفوا في الدولة وخصوصاً جعفر والفضل، فضلاً عما اشتهروا به من الجود والسخاء وكان أبوهم يحيى جواداً مثلهم فشقّ الناس من اسمهم فعلاً للسخاء فقالوا: (تبرمك الرجل) أي جاد وسخا، وأراد الرشيد إكرام يحيى فولى ابنيه الفضل وجعفر أعظم الأعمال فقسّم المملكة بينهما فجعل جعفرَ عاملاً على الغرب كله من الأنبار إلى أفريقية وقلّد الفضل الشرق كله من شيروان إلى أقصى بلاد الترك فشخص الفضل إلى خراسان سنة 176هـ فجعلها مركز عمله وأزال سيرة الجور منها وبنى المساجد والحياض والربط وأحرق مراكز البغايا وزاد الجند ووصل الزوار والقواد والكتّاب لكنه لم يقم فيها إلا قليلاً فاستخلف على عمله وشخص إلى العراق سنة 179هـ. وتمكّن جعفر عند الرشيد وغلب على أمره وبلغ من علو المرتبة عنده ما لم يبلغه سواه حتى اتخذ الرشيد ثوباً له زيقان فكان يلبسه هو وجعفر جملة، وكان يكره الشيعة منذ صباه وهم يخافونه من قبل الخلافة، فلما تولى الخلافة أمر بإخراج الطالبيين جميعاً من بغداد إلى المدينة. واشتهر بذلك حتى أصبح الشعراء يتقرّبون إليه بهجائهم، وكان شعراء العلويين يهجونه لهذا السبب وهم لا يجسرون على الظهور في حياته فلما مات ودُفن في طوس قال دعبل بن علي ـ يعرض بما ارتكبه العباسيون جميعاً بقتل العلويين ـ قصيدة مدح بها أهل البيت وهجا الرشيد وأشار إلى اجتماع القبرين في طوس قبر الرشيد وقبر الرضا (عليه السلام) قال: وليس حـي مـــن الأحــــياء نعلمــه***من ذي يمــان ومـن بكر ومن مضرِ إلا وهـــم شركــــاء فـــي دمائــــهم***كــما تشــارك ايســـار علــى جــزر قتــــل وأســر وتحـــريق ومنهــــبة***فعــل الغــزاة بأرض الروم والخزر أرى أميــــة معذوريــــن إن قتـــلوا***ولا أرى لبنـــي العبـــاس مـن عذر إربع بطوسٍ على القبــر الزكـي إذا***ما كنـــت تربـــع من ديــر إلى وطر قبران في طوس خير النــاس كلــهم***وقبــــر شــــرّهم هــــذا من العـــبر ما ينفع الرجس من قرب الزكيّ ولا***على الزكي بقرب الرجس من ضرر هيهات كل امرئٍ رهن بما كسبـــت***له يـــداه فخُــــذ ما شئــــت أو فـــذر وكان البرامكة يكرهون تعصب الرشيد على العلوية ويعدون عمله حراماً ويكظمون، على أنهم كانوا يساعدون الشيعة سراً بما يبلغ إليه إمكانهم وكان كبارهم يجتمعون إلى جعفر وجيه البرامكة يومئذ وصاحب الصوت الأعلى عند الرشيد ويذكرون أعمال الرشيد وجعفر يحاذر أن يبلغ ذلك إليه ولكن حسّاده في بلاط الخليفة وأكثرهم من العرب أو من ينتمي إليهم كانوا يسعون به إلى الرشيد وأشدهم غيظاً منه وأقدرهم على الكيد به زبيدة أم الأمين لأنه فضّل ابن ضرتها (المأمون) على ابنها. |