الفهرس

فهرس الفصل الرابع

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

العصر الفارسي الأول

من خلافة السفاح سنة 132هـ إلى خلافة المتوكل سنة 233هـ دعونا هذا العصر فارسياً مع أنه داخل في عصر الدولة العباسية لأن تلك الدولة على كونها عربية من حيث خلفائها ولغتها وديانتها فهي فارسية من حيث سياستها وإدارتها لأن الفرس نصروها وأيّدوها ثم هم نظّموا حكومتها وأداروا شؤونها ومنهم وزراؤها وأمراؤها وكتابها وحجابها. وقد حملهم على القيام بنصرتها ما علمته من عصبية بني أمية على غير العرب واحتقار الموالي وأكثرهم من الفرس فكانوا ينصرون كل ناقم على تلك الدولة.

الشيعة وبنو أمية

ظهر بنو أمية وتسلّطوا واستبدوا وآل علي (عليه السلام) يطالبون بالخلافة ويسعون في إدراكها. وأول من طلبها بعد علي ابنه الحسن (عليه السلام) ثم تنازل عنها لمعاوية سنة 41هـ فغضب أشياع العلويين في الكوفة من تنازله وهاجوا وأمير الكوفة يومئذ زياد بن أبيه الداهية الشهير فشدد في إخماد الثورة وقتل جماعة من أشياع علي فيهم حجر بن عدي وأصحابه، فتربّص العلويون ينتظرون موت معاوية لعل انتخاب الأمة يقع على واحد من أبناء علي (عليه السلام) فترجع الخلافة إلى أهل البيت ولم يخطر لهم أن يبايع معاوية لابنه، فلما علموا ببيعته نقموا عليه وزادهم نقمة ما علموه من تهتكه وقصفه واشتغاله بالصيد على أمور الخلافة، ومن قول عبد الله بن هشام السلولي في ذلك:

خشينا الغيض حتى لو شربنا***دماء بنـي أميـة ما روينا

لقد ضاعت رعيتــكم وأنـــتم***تصيدون الأرانب غافلينا

وكان أوجه العلويين يومئذ الحسين بن علي (عليه السلام) فلما مات معاوية سنة 60هـ وتولى ابنه يزيد أبى الحسين (عليه السلام) أن يبايعه، على أن أكثر الذين بايعوه من أهل التقوى عدّوا بيعتهم خرقاً لحرمة الدين، وكان الحسين (عليه السلام) في المدينة فلما طلبوا منه أن يبايع يزيد فرّ إلى مكة وأكثر شيعته في الكوفة فكتبوا إليه وحرّضوه على القدوم إليهم لينصروه فأطاعهم ولما اقترب من الكوفة قعدوا عن نصرته، وبعث إليه أمير الكوفة يومئذ عبيد الله بن زياد جنداً حاربه فدافع عن نفسه وأهله حتى قُتل قتلته المشهورة في كربلاء يوم عاشوراء من سنة 61هـ.

ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته فخرجوا بعد وفاة يزيد وبيعة مروان بن الحكم سنة 64هـ يطالبون بدمه وسموا أنفسهم (التوّابين) وأمير الكوفة لا يزال عبيد الله بن زياد فأخرجوه منها وولوا عليهم رجلاً منهم فتغلب ابن زياد عليه، فنهض المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وكان المختار عالي الهمة فجاء الكوفة يطالب بدم الحسين (عليه السلام) ويدعو إلى بيعة محمد بن الحنفية أخي الحسين من أبيه، فتبعه على ذلك جماعة من الشيعة سمّاهم (شرطة الله) وزحف على ابن زياد فهزمه وقتله وقتل أكثر قتلة الحسين (عليه السلام). أما الشيعة العلوية فانقسمت بعد مقتل الحسين (عليه السلام) إلى فرقتين أحدهما تقول إن الحق بالخلافة لولد علي من فاطمة بنت النبي (صلّى الله عليه وآله) والأخرى تقول بتحولها بعد الحسن والحسين إلى أخيهما محمد بن الحنفية وهي الفرقة الكيسانية. وأكثرهما ظهوراً وتصدياً الفرقة الأولى فبايعوا بعد الحسين (عليه السلام) ابنه علياً المعروف بزين العابدين وتسلسلت الخلافة بعده في أعقابه حتى صار الأئمة 12 إماماً وهم: علي والحسن والحسين وزين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي الرضا ومحمد التقي وعلي النقي والحسن العسكري ومحمد المهدي (الإمامية إنما اعتمدوا على نص الرسول (صلّى الله عليه وآله) بذلك وكان بنو أمية إذا سمعوا بظهور أحد دعاة العلوية بذلوا جهدهم في قتله فقتلوا بعضهم وسموا البعض الآخر وصلبوا آخرين فأصبح دُعاة الشيعة يستترون خوف الفتك بهم، فلاقى العلويون في أيام بني أمية ضنكاً شديداً وكادوا يهلكون جوعاً، وأصبح هم أحدهم قوت عياله.

العباسيون

وكان في جملة المطالبين بالخلافة من أقرباء النبي (صلّى الله عليه وآله) بنو العباس عم النبي (صلّى الله عليه وآله) لكنهم كانوا لا يتصدون لطلبها والأمويون إبان دولتهم وإنما كانوا يدعون إلى أنفسهم سراً. وكان العلويون والعباسيون في أيام ضيقهم واضطهادهم يتقاربون لأنهم من بني هاشم وكلا الرهطين أعداء بني أمية من قبل الإسلام، والمضطهدون يتقاربون في أي حال.

وظل العباسيون يتستّرون في دعوتهم وهم مقيمون في الحميمة من أعمال البلقاء بالشام حتى ضعف شأن بني أمية فهمّوا بالنهوض، واتفق في أثناء ذلك أن الفرقة الكيسانية دعاة ابن الحنفية صارت دعوتها بعده إلى ابنه أبي هاشم وكان أبو هاشم هذا يفد على خلفاء بني أمية من المدينة إلى الشام فيمر في أثناء الطريق بالحميمة. ففي بعض زياراته لهشام بن عبد الملك آنس هشام منه فصاحة وقوة ورئاسة مع علمه بطمعه في الخلافة فخافه فدَس إليه في أثناء رجوعه إلى المدينة رجلاً سمّه في لبن، فشعر أبو هاشم بالسم وهو في بعض الطريق فعرج إلى الحميمة وصاحب الدعوة العباسية يومئذ محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فنزل عنده. ولما أحسّ بدنو الأجل خاف ضياع البيعة وهو بعيد عن أهله فأوصى إلى محمد المذكور بالخلافة بعده، وكان معه جماعة من شيعته سلمهم إليه وأوصاه بهم، فلما مات أبو هاشم تهوّس محمد بالخلافة وأيقن بالنجاح لأنه اكتسب حزب الكيسانية جميعاً فأخذ في بث الدعاة سراً، ثم توفي وقد أوصى بالخلافة بعده إلى ابنه وعرف بالإمام.

فأخذ إبراهيم الإمام في بث دعاته وبدأ بخراسان لوثوقه بأهلها أكثر من سائر أهل الأمصار ولأن الشيعة الكيسانية أكثرهم في خراسان والعراق وقد نصروا العلويين مراراً، فبعث إليهم دعاة الكيسانية الذين كانوا مع أبي هاشم وأوصاهم أن يطلبوا بيعة الناس باسم (آل محمد) أي أهل النبي ولم يعيّن العلويين ولا العباسيين، وكان الخراسانيون قد ملوا الدولة الأموية فهان عليهم أن يبايعوا لآل محمد وهم يحسبون الأمر يكون مشتركاً بين العباسيين والعلويين. وتوفّق إبراهيم الإمام في أثناء ذلك إلى أبي مسلم الخراساني القائد العجيب فأتم أمرهم وسلّم لهم الدولة كما هو مشهور.

بيعة المنصور للعلوية ونكثه

وكان بنو هاشم (العلويون والعباسيون) لما رأوا اختلال أمر بني أمية اجتمعوا بمكة وفيهم أعيان بني هاشم علويّهم وعباسيّهم وتداولوا في قرب انحلال دولة الأمويين وفي مَن يخلفهم من أهل البيت، وكان في جملة الحضور أبو العباس السفاح وأخوه عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وهو أبو جعفر المنصور وغيرهما من آل العباس، فأجمع رأيهم على مبايعة أوجه العلويين يومئذ وهو محمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن بن علي الملقب بالنفس الزكية، فبايعوه لتقدمه فيهم ولما علموه من الفضل عليهم وبايعه أبو جعفر المنصور في جملتهم. ولعل هذه المبايعة هي التي أسكتت العلويين عن طلب الخلافة في أثناء انتشار دُعاة العباسيين في طلبها كأنهم اتفقوا أن تكون الخلافة مشتركة في أهل البيت، لأن العباسيين كانوا يطلبون بيعة الناس باسم (آل محمد) وليس باسم الإمام إبراهيم أو غيره من بني العباس.

أما دُعاة الشيعة العلوية الذين كانوا يدعون للعلويين في العراق وفارس وخراسان قبل انتقال البيعة إلى العباسيين فقد رضوا بذلك الانتقال غير مخيرين، وفي جملتهم أبو سلمة الخلال المثري الفارسي الشهير وكان يقيم في حمام أعين بضواحي الكوفة وكان شديد التمسك بدعوة العلويين وقد بذل ماله وجاهه في سبيل نشرها. فلما سمع بانتقال البيعة إلى بني العباس كظم وتربص ليرى ما يقول الناس. ثم علم أن إبراهيم الإمام عين أبا مسلم وأرسله إلى خراسان ومعه الوصية المشهورة (من اتهمته فاقتله) وقد أطاعه النقباء فأطاعه أبو سلمة في جملتهم وهو يتوقع أن تكون البيعة شورى بين الشيعتين ولما بلغه أن مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قتل إبراهيم الإمام أضمر الرجوع إلى الدعوة العلوية ثم جاءه أخوة الإمام وفيهم أبو العباس السفاح وأخوته وسائر أهل بيته وقد انتقلت البيعة إلى أبي العباس المذكور فأنزلهم أبو سلمة عنده ورأى نفسه عاجزاً عن نقل البيعة فسكت فبقيت لآل العباس، وكان أبو مسلم وسائر النقباء والقواد يحاربون عساكر الأمويين في خراسان وفارس والعراق فلما غلبوهم وملكوا خراسان وما يليها جاءوا العراق وبايعوا أبا العباس فسكت العلويون خوفاً على أنفسهم من ذلك التيار العظيم وهم يتوقعون مع ذلك أن تكون الخلافة شورى بين الرهطين.

وعلم العباسيون بما كان يضمره أبو سلمة من نقل الخلافة إلى العلويين فشكوه إلى أبي مسلم سرّاً، فدس إليه رجلاً قتله بالكوفة غيلة وأشاعوا أن بعض الخوارج قتله وقد قتلوا كثيرين غيره ممن شكّوا في إخلاصهم حتى تمّ الأمر لهم.

أما آل الحسن بن علي الذين كانوا قد بايعوا أحدهم وهو محمد بن عبد الله في المدينة وبايعه معهم سائر بني هاشم ومنهم أبو جعفر المنصور فلما علموا بذهاب دولة بني أمية ومبايعة أبي العباس السفاح سنة 132 جاءوا إليه في الكوفة يطالبونه ببيعتهم فاسترضاهم أبو العباس بالأموال وقطع لهم القطائع. وكان في جملة القادمين إليه عبد الله بن الحسن والد صاحب البيعة فأكرم السفاح وفادته وعرض عليه ما يرضاه من المال وقال له: (احتكم عليّ) فقال عبد الله: (بألف ألف درهم فإني لم أرها قط) ولم يكن هذا المال موجوداً عند السفاح فاستقرضه له من رجل صيرفي اسمه ابن أبي مقرن ودفعه إليه. واتفق وعبد الله المذكور عند السفاح أن بعض الناس جاءه بالجواهر التي كانت عساكر العباسيين قد اغتنمتها من مروان بن محمد فجعل السفاح يقلب الجواهر بين يديه وعبد الله ينظر إليها ويبكي فسأله عن السبب فقال: (هذا عند بنات مروان وما رأت بنات عمك مثله قط) فحباه به ثم أمر الصيرفي أن يبتاعه منه فابتاعه بثمانين ألف دينار (نحو مليون درهم) وأمر أبو العباس بإكرام عبد الله وإنزاله على الرحب والسعة وهو يتوجس مما في ضميره فبث عليه العيون فآنس عنده طمعاً فزاده عطاءً فعاد عبد الله إلى المدينة مثقلاً بالأموال ففرّقها في أهله وكانوا أهل فاقة فلما رأوا تلك الأموال سرّوا.

وأما عبد الله فمازال مضمراً للمطالبة بالخلافة لابنه على ما تمت المبايعة عليه والعباسيون يخافون ذلك والسفاح يسترضيه وسائر أهله بالأموال، فلما توفي السفاح سنة 136هـ خلفه أخوه أبو جعفر المنصور وكان رجلاً شديد البطش ولا يبالي بما يرتكبه في سبيل تأييد سلطانه، فكان همّه قبل كل شيء أن يتحقق ما في نفس بني الحسن في المدينة لأن لهم في عنقه بيعة فبثّ عليهم العيون وأراد اختبارهم فبعث بعطاء أهل المدينة على جاري العادة من قبل وكتب إلى عامله فيها: (أعط الناس في أيديهم ولا تبعث إلى أحد بعطائه وتفقّد بني هاشم ومن تخلّف منهم عن الحضور وتحفّظ بمحمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن) ففعل العامل ذلك فلم يتخلّف عن العطاء إلا محمد وإبراهيم المذكوران فكتب إليه بذلك، فتحقق المنصور أنهما ينويان القيام عليه وقد سكتا في أثناء خلافة أخيه لأنه كان يكرمهما ويغدق الأموال عليهما والمنصور لا يرى ذلك، فلما رأوا تضييقه عزموا على الخروج فبثوا الدعاة في خراسان وغيرها يدعون شيعتهم إلى بيعتهم، فعلم أبو جعفر بذلك فبعث من يقبض على كتبهم في الطريق واحتال في استطلاع أسرارهم وأراد استقدام ابني عبد الله وكتب إليه يستقدمه بهما فأنكر عبد الله أنه يعرف مقرهما فأصبح همّ المنصور التخلص منهما ومن سائر طلاب الخلافة من العلويين وخصوصاً بني الحسن وهم يقيمون في المدينة فبعث إلى عامله فيها أن يقبض عليهم جميعاً ثم أمره أن ينقلهم إلى العراق فنقلهم وهم مثقلون بالقيود والأغلال في أرجلهم وأعناقهم وقد حملهم على محامل بغير وطاء ولكن ليس فيهم محمد ولا إبراهيم ابنا عبد الله لاستتارهما، فجاءوا ببني الحسن وعدتهم بضعة عشرة رجلاً فأمر المنصور بقتلهم فقتلوا إلا بضعة قليلة.

أما محمد بن عبد الله صاحب البيعة فلم يقع في الفخ فبعث المنصور إلى عامله في المدينة أن يشدد في طلبه فلم يرَ محمد بدّاً من القيام فظهر بالدعوة فبايعه أهل المدينة بعد أن استفتوا إمامهم مالك بن أنس فأفتاهم بالخروج معه فقالوا: (إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر) فقال: (إنكم بايعتموه مكرهين وان بيعة محمد بن عبد الله أصح منها لأنها انعقدت قبلها) وكان أبو حنيفة أيضاً على هذا الرأي يقول بفضل محمد هذا ويحتج إلى حقه فحفظ لهما المنصور هذا القول فنزلت بهما المحنة بسبب ذلك، فلما تمكن من محمد وقتله سنة 145هـ أصبح من أكبر المضطهدين لهما فضرب مالكاً على الفتيا في طلاق المكره وحبس أبا حنيفة على القضاء كما هو مشهور.

وكان لنكث المنصور لبيعة محمد بن عبد الله تأثير عظيم في أذهان العلويين لأنه جاءهم بغتة وكانوا يظنون ذلك لا يصدر من أهل البيت كما صدر من بني أمية فتحسّروا على أيام بني أمية وتمنوا رجوعها.

سياسة العباسيين في تأييد سلطتهم

القتل على التهمة

قد رأيت في ما تقدم أن بني العباس قاموا يدعون إلى أنفسهم وهم بين خطرين عظيمين الأول أن يحاربوا بني أمية ويتغلّبوا على أحزابهم، والثاني أن يأمنوا جانب العلويين في مسابقتهم إلى الخلافة، فكان أبو مسلم في سبيل الدعوة يقتل كل من اتهمه أو شك فيه فبلغ عدد الذين قتلهم في سبيل هذه الدعوة 600.000 نفس قتلوا صبراً بدون حرب في بضع سنين وفي جملتهم جماعة من كبار الشيعة وفيهم غير واحد من أجلّة النقباء وكبار الدعاة كأبي سلمة الخلال الذي نصر الدعوة العباسية بماله كما نصرها أبو مسلم بسيفه وكان يقال له وزير آل محمد كما يقال لأبي مسلم أمير آل محمد، ناهيك عمّن قتلهم من غير الشيعة وفيهم الأمراء والقواد. قتل بعضهم بالحيلة والبعض الآخر بالغدر، حتى سئم الناس فعله وملوا سفك الدماء وأصبح المسلمون حتى رجاله لا يُدعى أحدهم إلى مقابلته إلا أوصى وتكفن وتحنط. وثار من ذلك بعض الأمراء من شيعة بني العباس وصاح في رجاله: (ما على هذا اتبعنا آل محمد أن تسفك الدماء وأن يعمل بغير الحق) فتبعه على رأيه أكثر من 30.000 رجل فوجه إليهم أبو مسلم جُنداً وقتلهم.

غدر المنصور والدولة العباسية

فبهذا وأمثاله مهّد أبو مسلم الخلافة لبني العباس فساعدهم أولاً على إخراجها من بني أمية إلى أهل البيت ولم يكتف ببيعة أبي العباس وقتل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ولكنه حرّضهم على قتل من بقي من بني أمية بالإغراء أو التخويف على ألسنة الشعراء. ويقال أنه هو الذي أوعز إلى سديف الشاعر مولى بني هاشم أن يقول ذلك الشعر في مجلس السفاح وفيه سليمان بن هاشم بن عبد الملك وكان السفاح قد أمنه وأكرمه وأمن سائر بني أمية فيقال أن سديفاً دخل يوماً على السفاح وعنده سليمان بن هشام فأنشد سديف قوله:

لا يغرنك ما تــرى مــن رجــال***إن تحــت الضــلوع داءً دوياً

فضع السيف وارفع السوط حتى***لا ترى فـوق ظهــرها أمــوياً

فتأثّر السفاح وأمر بسليمان فقتل، ودخل شاعر آخر فقال شعراً آخر وكان عند السفاح نحو سبعين من رجال بني أمية فقتلهم وبسطوا النطوع على جثثهم فأكلوا الطعام وهم يسمعون أنين بعضهم حتى ماتوا جميعاً وقيل في كيفية قتلهم غير ذلك وأن الذي قتلهم عبد الله بن علي عم السفاح وهو مشهور بكرهه لبني أمية وشدة نقمته عليهم ولكن لا خلاف في أنهم قتلوا غدراً سنة 132هـ وهم آمنون كما قتل الأمراء المماليك بمصر في أوائل القرن الماضي.

والغالب أن أبا مسلم أوعز إلى العباسيين بقتلهم لئلا يقفوا في سبيل دولتهم فأشار إلى سديف أن يحرضهم على ذلك بشعره. ولم يقل سديف ذلك حباً ببني العباس بل كرهاً لبني أمية وانتقاماً لآل علي لأنه من الشيعة العلوية وهو يظن أن الخلافة شورى بين الشيعتين. فلما رأى المنصور استقل بها بعد ذلك نقم على العباسيين وهجاهم بأشعار بلغ خبرها المنصور فكتب إلى عامله أن يأخذ سديفاً فيدفنه حياً ففعل، وبعد أن قتل العباسيون من كان في قبضتهم من الأمويين عمدوا إلى استئصال شأفتهم من سائر البلاد، ولم ينج منهم إلا قليلون أهمهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام ففرّ إلى الغرب وأسس دولة بني أمية بالأندلس، وتولى استئصال شأفة الأمويين من بني العبّاس عبد الله بن علي فبالغ في ذلك حتى نبش قبورهم ومثّل بجثثهم انتقاماً لما فعلوه قبلاً بالأئمة من آل علي (عليه السلام) وخصوصاً زيد بن زين العابدين (عليه السلام)، فاستخرج جثة هشام بن عبد الملك من قبره وهو لم يبل فضربه ثمانين سوطاً ثم أحرقه.

وبعد أن تخلّص المنصور من الأمويين لم يدّخر أبو مسلم وُسعاً في تخليص الدولة له من أقربائه آل العباس أنفسهم وفي جملتهم عبد الله بن علي المتقدم ذكره وقد طمع بالخلافة فحاربه بأمر المنصور وغلبه وقبض على ما في عسكره من الغنائم والأسلحة، فأراد المنصور أن يوجه همه إلى بني الحسن منافسيه في الخلافة فاشتغل خاطره بأبي مسلم وأصبح خائفاً منه على سلطانه بعدما بلغ إليه من النفوذ والشهرة والدالّة، ولم يكن همه إلا قتله ليتفرغ للعلويين فاتهمه بأنه ينوي إخراج الملك منهم فاستحق القتل عملاً بوصية الإمام، وكان المنصور قد خاف أبا مسلم وعزم على قتله من عهد خلافة أخيه أبي العباس ولكن أبا العباس لم يرد الإقدام على ذلك، فلما مات السفاح وخلفه المنصور صمم على قتله ولكنه استخدمه في حرب عمه عبد الله بن علي فضرب عدوّيه أحدهما بالآخر فأيهما قتل صاحبه انفرد فيسهل على المنصور قتله، فلما فرغ أبو مسلم من حرب عبد الله بن علي احتال المنصور في استقدامه إليه من خراسان في حديث طويل وأدخله عليه دخول الزائر الأمين وقد أكمن له أُناساً بالسلاح وراء الستر فأخذ سيفه منه وحادثه وتدرج من العتاب إلى التوبيخ حتى إذا أزفت الساعة صفّق المنصور فخرج الكامنون بأسلحتهم وقتلوه سنة 137هـ فأمر به فلفوه بالبساط ثم دعا بعض رجال خاصته وشاورهم في قتله ولم يقل لهم أنه قتله فقال له أحدهم: (إن كنت قد أخذت من رأسه شعرة فاقتله ثم اقتله) فأشار المنصور إلى البساط فلما رأى أبا مسلم فيه وتحقق موته قال: (عدّ هذا اليوم أول يوم من خلافتك).

ولما فرغ المنصور من أبي مسلم لبث يتوقع ما يبدو من رجاله الخراسانيين لعلمه أنه ارتكب بقتله خطراً عظيماً فما لبث أن ثار عليه جماعة منهم يُعرفون بالراوندية وكادوا يفتكون به لو لم يُدافع عنه معن بن زائدة، فقتل الراوندية جميعاً ولكنه أصبح لا يأمن على نفسه من مثل هذه الثورة فبنى مدينة بغداد بشكل حصين يقيه غائلة ذلك عند الحاجة ثم عمد إلى تخليص الخلافة من آل علي فحارب محمد بن عبد الله وقتله. ثم رأى من آل العباس من ينازعه عليها منهم عمه عبد الله وكان أبو مسلم قد غلبه ولكنه لم يتمكن من قتله فاحتال المنصور في استقدامه بأمان بعثه إليه مع ولديه فجاء فحبسه عنده، ثم علم سرّاً أن ابن عمه عيسى بن موسى ينوي الخروج عن طاعته وكان والياً على الكوفة، فتجاهله وبعث إليه وقد دبر أمراً كتمه عن رجال بطانته، فلما جاء عيسى استقبله المنصور بالترحاب والإكرام ثم أخرج من كان في حضرته من الحاشية واستبقاه وحده وأقبل عليه وقال: (يا بن العم إني مطلعك على أمر لا أجد غيرك من أهله ولا أرى سواك مساعداً لي على حمل ثقله فهل أنت في موضع ظني بك وعامل ما فيه بقاء نعمتك التي هي منوطة ببقاء ملكي) فقال له عيسى: (أنا عبد أمير المؤمنين ونفسي طوع أمره ونهيه) فقال المنصور: (إن عمي وعمك عبد الله قد فسدت بطانته واعتمد على ما بعضه يبيح دمه وفي قتله صلاح ملكنا فخذه إليك واقتله سراً) فأطاعه عيسى فسلم إليه عمه فمضى به إلى الكوفة، وأضمر المنصور أن ابن عمه عيسى إذا قتل عمه عبد الله ألزمه القصاص وسلّمه أعمامه أخوة عبد الله ليقتلوه به فيكون قد استراح من الاثنين معاً. أما عيسى فكأنه شك في نية المنصور والناس يومئذ يتهمون بعضهم بعضاً خوفاً من وصية الإمام فاستشار بعض ذوي مشورته فحذروه من عاقبة ذلك فحبس عمه ولم يقتله، ولما طلبه المنصور منه دفعه إليه حياً فقتله في بيت جعل أساسه على الملح.

وأمثلة ما أتاه المنصور من الدهاء والفتك في تأسيس دولته كثيرة وكان يعطي الأمان ثم ينكث، فلما قام محمد بن عبد الله العلوي في المدينة خافه المنصور كما تقدم فبعث إليه يعرض عليه الأمان ويعده خيراً فأجابه محمد: (أي أمان تعطيني أمان ابن هبيرة أم أمان عمك عبد الله أم أمان أبي مسلم؟) وظل المنصور وأبو مسلم قدوة لمن جاء بعدهما بالدهاء والفتك. وكان المنصور أيضاً قدوة لعبد الرحمن بن معاوية مؤسس دولة بني أمية في الأندلس وقد فر من العراق فالشام إلى المغرب خوفاً من القتل فنصره رجاله وخصوصاً مولى له اسمه بدر سعى في تأييد سلطانه مثل سعي أبي مسلم في تأييد الدولة العباسية فلما استتب له الأمر سلبه كل نعمة وسجنه ثم أقصاه حتى مات وفعل نحو ذلك في رؤساء الأحزاب الذين نصروه.

واشتهر فتك العباسيين بالذين ينصروهم في تأييد دولتهم حتى صار الخلفاء أنفسهم يشيرون إلى ذلك إذا أعوزهم الاستدلال به، فالأمين لما رأى طاهر بن الحسين يتفانى في نصرة أخيه المأمون وقد تولى قيادة جند الخراسانيين وغلب على جند الأمين وكاد يذهب بدولته كتب الأمين إليه: (بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أنه ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا وكان جزاؤه إلا السيف فانظر لنفسك أو دع) وفي الواقع أن المأمون لما استتب له الأمر في الخلافة بسيف طاهر المذكور عمل على قتله بحجة مثل حجة المنصور بقتل أبي مسلم فأهدى له خادماً كان رباه وأمره أن يسمّه ففعل.

وقد رأيت أن الدولة العباسية قامت بالفرس وغيرهم من الرعايا وفيهم الموالي وأهل الذمة وكانوا ناقمين على دولة بني أمية فنصروا أهل البيت انتقاماً منها والجمهور الأهم منهم الفرس.

الفرس والعرب قبل الإسلام

الفرس أهل سياسة وسلطان وقد أنشأوا الدول وساسوا الناس ووضعوا الأحكام من قديم الزمان. وضخمت دولتهم وقويت شوكتهم حتى حاربوا اليونان والرومان ونبغ فيهم القواد والعلماء والحكماء وترجموا كتب العلم والفلسفة وكان لهم شأن كبير في التاريخ القديم واشتهر فيهم فضلاً عن الأُسر المالكة والدهاقين والأساورة بيوتات شريفة. وكان في مملكة فارس قبائل كثيرة من العرب يقيمون على حدودها بين النهرين في العراق والجزيرة وكانت لهم دولة عربية تحت رعاية الفرس وهم المناذرة في الحيرة. وجملة القول أن العرب كانوا يخدمون الفرس في أيام دولتهم قبل الإسلام كما خدم الفرس العرب في أيام دولتهم بعد الإسلام، وبعد ما لاقوه من ضغط بني أمية واحتقارهم كانوا ينتفضون فيحاربهم الأمويون ويبالغون في إهانتهم وظلمهم ويضربون مدائنهم بالمنجنيق ويقتلون أهاليها حتى أفنوا أكثر البيوتات القديمة ووجوه الأساورة الذين كانوا يأوون إلى اصطخر فلا لوم عليهم بعد ذلك إذا نصروا كل قائم على الدولة الأموية. على أنهم لم يفوزوا إلا بطلبها للعباسيين كما رأيت وكانوا يعدون ذلك فوزاً لأنفسهم تخلصاً من عصبية العرب عليهم وطمعاً في الرجوع إلى ما كانوا عليه من السلطة والشوكة.

استخدام الموالي الفرس

فلما قبض العباسيون على زمام الملك جعلوا عاصمة مملكتهم بين شيعتهم في العراق فأقاموا أولاً في الكوفة ثم في الهاشمية حتى بنى المنصور مدينة بغداد على دجلة فجعلوها دار الخلافة. وقرّبوا الموالي الفرس وخصوصاً أهل خراسان فجعلوهم بطانتهم ورجال دولتهم ولاسيما الذين حاربوا مع أبي مسلم في طلب الخلافة وأشهرهم خالد بن برمك جد الوزراء البرامكة فإنه كان من قواد جند أبي مسلم وشهد معه الوقائع وأبلى بلاءً حسناً في نصرة أهل البيت، فقدمه أبو العباس وولاه الوزارة ثم تولاها للمنصور وخدمه بعد مقتل أبي مسلم في محاربة الأكراد وكانوا قد تغلبوا على فارس وتوالت الوزارة في أعقابه إلى يحيى ابنه فجعفر ابنه وهو الذي نكب البرامكة على عهده، وكانت أمور الدولة ترجع إلى الوزراء يولون ويعزلون وإذا تولاها أحدهم ولى الأعمال رجالاً من أصحابه أو مريديه. فتغيرت الأحوال على أهل البلاد واطمأنت خواطرهم وتفرّغوا للعمل في التجارة أو الصناعة أو الزراعة ونسوا ما كانوا فيه من ضغط بني أمية واستبدادهم وأطلقت حرية العمل وحرية الدين وذهبت عصبية العرب ورتع الناس في بحبوحة الأمن. ولما استبد الأتراك في الدولة وضعفت شوكة الفرس بعد المأمون ظل الموالي من أصحاب النفوذ في دولة الخلفاء يعتمد عليهم الخليفة في أموره الخاصة والعامة من الكتابة إلى القيادة ولم يعد التقدم فيهم للفرس بنوع خاص ولكنهم أصبحوا أخلاطاً منهم ومن سواهم وإنما تجمعهم كلمة الموالي ويتفانون في خدمة الخليفة أو الأمير.