المؤلفات |
الخطابة بعد الإسلام |
الخطابة والشعر من الفنون الجاهلية التي زادها الإسلام رونقاً وبلاغة وارتقاء ولكن الخطابة سبقت الشعر في الارتقاء لحاجة المسلمين إليها في الفتوح والغزوات والعرب يومئذٍ لا يزالون على بداوتهم تتأثّر نفوسهم من التصورات الشعرية سواء سبكت في قالب الخطابة أو الشعر. والخطابة أقرب تناولاً ولم يرد في القرآن ما ينفر الناس منها كما ورد في الشعر والشعراء. وزادت الخطابة بعد الإسلام قوة ووقعاً في النفوس بنهضة العرب للحروب وانتصارهم في أكثر مواقعها فازدادوا أنفة وسمت نفوسهم فسمى بها ذوقهم في البلاغة وتفتّحت قرائحهم بما شاهدوه من البلاد الجديدة والألسنة الجديدة فبلغت الخطابة عندهم مبلغاً قلما سبقهم فيه أحد من الأمم التي تقدمتهم بلاغةً وإيقاعاً وتأثيراً حتى اليونان والرومان، فقد ذكروا لديموستنيس أخطب خطباء اليونان 61 خطبة نصفها منسوب إليه خطأ وهذه خطب الإمام علي (عليه السلام) تعد بالمئات. وأما في كثرة الخطباء فالعرب كانوا في صدر الإسلام من أكثر الأمم خطباء لأن خلفاءهم وأمراءهم وقوادهم كان معظمهم من الخطباء حتى النُسّاك والزهاد، وفي كتاب (نهج البلاغة) المنشور بين ظهرانينا أكبر شاهد على ذلك وفيه أمثلة من كل ضروب الخطب ومنها الدينية والأدبية والعلمية والحماسية والفخرية ناهيك عن شيوع الخطابة في القبائل على اختلاف أصقاعها كما كانت في الجاهلية وكانت ترد الوفود إلى المدينة أو دمشق أو بغداد أو غيرها من عواصم المسلمين لتهنئة الخليفة أو استنفاره أو استنجاده أو استجدائه. وكان شباب الكتاب إذا قدم الوفد حضروا لاستماع بلاغة خطبائهم لشيوع حب الخطابة فيهم ولاقتباس أساليب البلاغة منهم. |
الشعر بعد الإسلام الشعر وبنو أمية |
لما ظهر الإسلام ودهش العرب بأساليب القرآن وبالنبوة والوحي واشتغلوا بالغزو والفتح ونشر الإسلام انصرفت قرائحهم الشعرية إلى الخطابة لحاجتهم إليها في استنهاض الهمم وتحريك الخواطر للجهاد واستحثاث القلوب على العبادة، فانقضى عصر الخلفاء الأربعة والعرب في شاغل عن الشعر حتى إذا طمع بنو أمية في الخلافة مع كثرة المطالبين بها من أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) واحتاجوا إلى من يؤيدهم استنفروا الناس لنصرتهم وابتاعوا الأحزاب بالأموال واستخدموهم بالدهاء فكان الشعر في جملة ما تساعدوا به، فكان الخلفاء من بني أمية يرغّبون الناس في الشعر ويجزونهم بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانتهم في أقوالهم وكانوا يطالبون أولادهم بحفظ الأشعار والآثار، والأغلب أنهم كانوا يستمدون الاستعانة لهم بألسنة الشعراء على مقاومة أهل البيت (عليه السلام) لعلمهم أن الجمهور يعتقدون الحق في الخلافة لهؤلاء. وكثيراً ما كان الشعراء المغمورون بنِعَم بني أمية لا يتمالكون عن التصريح بذلك في بعض الأحوال. فالفرزدق مثلاً امتدح بني أمية ونال جوائزهم وكان متشيعاً في الباطن لبني هاشم والأمويون يعلمون ذلك ويسترضونه. ومن جملة أخباره أن مروان بن الحكم وكان عاملاً لمعاوية على المدينة بلغه عن الفرزدق قول أوجب حدّه فطلبه ففر الفرزدق إلى البصرة فقال الناس لمروان: (أخطأت في ما فعلت فإنك عرضت عرضك لشاعر مضر) فوجه وراءه رسولاً ومعه مائة دينار وراحلة خوفاً من هجائه. ومع ذلك اتفق أن الخليفة هشام بن عبد الملك ذهب إلى الحج وبينما هو في الطواف شاهد علي بن الحسين (عليه السلام) وأنكره فسأل عنه وكان الفرزدق حاضراً فنظم قصيدته المشهورة في مدح أهل البيت ومطلعها: هذا الذي تعرف البطحاء وطأته***والبيــت يعرفــه والحــل والحرم |
الشعر وبنو العباس |
فلما انقضت دولة بني أمية وقامت دولة العباسيين عدل المنصور عن إكرام الشعراء وكانوا قد تعودوا الوفود على الخلفاء أو نيل جوائزهم فأصبحوا إذا أتوا المنصور منعهم من الدخول عليه أياماً حتى تنفد نفقاتهم ويملون الانتظار وحاجبه يرفع أمرهم إليه وهو يؤخرهم. ثم إذا أذن لهم بعد ذلك اشترط عليهم أن لا يمدحوه كما كانوا يمدحون بني أمية وكان بخيلاً عليهم فتغيرت قلوب الشعراء عليه فساعد ذلك على تباعد قلوب العرب عنه وميلهم إلى العلويين فاستفحل أمر محمد بن عبد الله بالمدينة وقاسى المنصور أمرّ العذاب في إخماد ثورته، فأصبح الخلفاء بعد المنصور يتجنبون إغضاب الشعراء ويبالغون في إكرامهم. |
الشعر ودول العرب |
والشعر كما قدمنا من العلوم العربية فلما تغلب العنصر الأعجمي في دولة بني العباس وصارت الأمور إلى أيدي الأتراك ضعف أمر الشعراء، حتى إذا قامت دولة بني حمدان وهم عرب عاد الشعر إلى رونقه وتزاحم الشعراء بباب سيف الدولة حتى قيل إنه لم يجتمع بباب خليفة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر ما اجتمع ببابه. وكان هو أديباً شاعراً فاشتهر في عصره أبو فراس والمتنبي والسري والرفاء والنامي والببغاء والواواء وغيرهم. |
جمع الشعر ورواته |
لما أخذ المسلمون في تفسير القرآن واحتاجوا إلى تحقيق معاني الألفاظ كان الشعر في جملة ما رجعوا إليه في تحقيقها فاضطروا إلى جمعه بالأخذ عن رواته، وشرعوا في ذلك من القرن الأول للهجرة، وأكثر الناس اشتغالاً في جمع الشعر أهل العراق مما يلي بلاد العرب أي في البصرة والكوفة وكان أهل الكوفة أجمع للشعر من أهل البصرة، ومن عادة العرب في رواية الشعر أنهم كانوا من أيام الجاهلية إذا نبغ الشاعر صَحبه رجل يروي أشعاره ويتلوها أو يروي له أشعار غيره للشاهد أو نحوه، ويغلب في الرواية أن يكون مرشحاً للشاعرية كأنه تلميذ يتدرب على يد أستاذه يأخذ عنه، وكانت عمدتهم في الجاهلية على الحفظ لأنهم لم يكونوا يكتبون فكان (كثيرعزة) راوية جميل بثينة وجميل راوية هدبة بن خشرم وهدبة كان راوية الحطيئة والحطيئة راوية زهير وابنه، وكانت لهم في الحفظ نوادر غريبة لتعويد ذاكرتهم على ذلك مذ أخذ الناس في ذلك العصر بتعويد حوافظهم على حفظ القرآن والحديث لتجنب الكتابة فكان فيهم من يحفظ بضعة وعشرين ألف قصيدة يرويها بأسانيدها ومعاني ألفاظها. |
طبقات الشعراء |
العرب مطبوعون على الشعر فلما جاء القرآن وشاع حفظه وحفظ الأحاديث وعني الناس بجمع الآداب والأمثال واستظهار محاسنها ومحاسن الشعر نهضت طباع الناس وارتقت أذواقهم في البلاغة ورسخت ملكاتهم واتسعت تصوراتهم في الشعر والخطابة، وكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أسمى رتبة وأصفى رونقاً واقتبسوا من الفرس أساليب الإطناب، ولذلك كان الشعراء الإسلاميون أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من شعراء الجاهلية. فالجاهليون طبقة أولى تليهم طبقة الإسلاميين إلى أواخر دولة بني أمية وهم المخضرمون ثم طبقة ثالثة في الدولة العباسية هي طبقة المولدين تليها طبقة المحدثين. |
الشعراء في الإسلام وأشعارهم |
تكاثر الشعراء في العصر الإسلامي فوق تكاثرهم في العصر الجاهلي لرواج سوق الشعر في القرون الأولى، على أن إحصاءهم بالضبط غير متيسر لضياع أكثر أخبارهم لكننا نستدل من بعض النصوص أن عددهم كان عظيماً جداً، فقد ذكر ابن خلكان: (أن هارون بن علي المنجم البغدادي صنّف كتاب البارع في أخبار الشعراء المولدين وجمع فيه 161 شاعراً وافتتحه بذكر بشار العقيلي وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح) والفترة بينهما قصيرة، وذكر المؤلف أنه اقتصر على خيرة الشعراء ونخبهم، أما مقدار ما نظّمه أولئك الشعراء من القصائد والدواوين مما لا يحصيه عدّ. فديوان بشار العقيلي مثلاً ألف ورقة في ألفي صفحة أي 40.000 سطر أو بيت، وابن هرمة 500 ورقة في 20.000 بيت وشعر أبي نؤاس في نحو ألف ورقة ومسلم بن الوليد 200 ورقة، وقس على ذلك. وإذا اعتبرت الدواوين التي ضاعت وفات صاحب كشف الظنون ذكرها والشعراء الذين لم تجمع أشعارهم ولم يكن لهم دواوين زاد استغرابك كثرة الشعر العربي وتعداد شعرائه مما لا تجد له مثيلاً في لغة من لغات العالم القديم أو الحديث. |
عروض الشعر |
المشهور أن الخليل بن أحمد المتوفى سنة 170هـ أول من وضع عروض الشعر العربي أي استنبطه وأخرجه إلى الوجود وحصر أقسامه في خمس دوائر استخرج منها خمسة عشر بحر ثم زاد فيه الأخفش بحراً واحداً سماه الخبب ولا مشاحة في أن عروض الشعر ارتقت وارتفعت وتفرعت بتوالي القرون شأن كل ما هو من قبيل الأحياء فتولد في النظم ضروب من القصائد كالأصمعيات والشعر البدوي والحوراني وغيرها. أما الأندلس فقد كان للشعر فيها تاريخ خاص لرواجه عندهم ـ بمستوى رواج غيره عند الأمم الأخرى ـ فإنهم هذّبوا مناحيه وفنونه حتى بلغ التنميق فيه الغاية واستحدثوا الموشح ونظّموا به الموشحات الأندلسية المشهورة. |
الشعر والدولة |
بيّنا في كلامنا عن الشعر في الجاهلية ما كان له من التأثير في نفوس العرب لشدة إحساساتهم وسرعة تأثرهم. فلما صار العرب دولة وارتقت عقولهم زاد شعورهم رقة فازدادوا إحساساً وتضاعف تأثير الشعر فيهم. فإذا وفد الشاعر على الخليفة أو الأمير استأذن في الدخول عليه فإذا دخل أنشد قصيدته جهاراً والخليفة وأرباب مجلسه يسمعون ويترنّمون فيأمر الخليفة أو الأمير بالجائزة وقد تتجاوز مائة ألف درهم إلى ألف ألف وقد يرتب له الرواتب الشهرية ويخلع عليه الخلع ويقلّده الوظائف ومن أكثر الخلفاء سخاءً على الشعراء المهدي والرشيد العباسيان والناصر والمنصور الأندلسيان. ومن أسخى الأمراء خالد القسري أمير العراقيين في زمن الأمويين وسيف الدولة بن حمدان. |
الشعر والخلفاء والأمراء |
ومن أسباب رواج صناعة الشعر في الدول العربية أن الخلفاء أنفسهم كانوا ينظمون الشعر ويبحثون فيه، ولبعضهم القصائد والمقاطع الحسنة وكان الغرض من تقريب الشعراء في أول دولة بني أمية سياسياً ثم صار أدبياً يندفع الخلفاء والأمراء إليه تلذذاً بالشعر وآدابه. ولذلك كانوا يجالسون الشعراء ويقترحون عليهم نظم القصائد أو الأبيات أو يستقدمونهم للسؤال عن بيت تعسّر عليهم فهمه أو نسوا بعضه وقد يكون بينهم وبين الشاعر بُعد شاسع، فقد بعث هشام بن عبد الملك بدمشق إلى أميره على العراق يوسف بن عمر الثقفي أن يوجه إليه حماداً الراوية ويدفع له 500 دينار وجملاً مهرياً فسار حماد إلى الشام في 12 ليلة ولما وصلها وسأل عن سبب استقدامه فقال له هشام: خطر ببالي بيت لا أعرف قائله وهو: ودعوا بالصبوح يوماً فجاءت***قينـــة فـــي يمينـــها إبريـــق فقال حماد: (يقول له عدي بن زيد العبادي) وأنشده باقي القصيدة. |
تأثير الشعر في الدولة |
ويقال بالإجمال أن الشعر كان عند العرب كل آدابهم يتناشدونه ويتسامرون به ويتذاكرون فيه ولم يكن ذلك مقتصراً على الخلفاء أو الأمراء أو الأدباء ولكنه كان عاماً في الرجال والنساء، وكانوا لكثرة ما يحفظونه منه يرمزون باسم الشاعر إلى بيت من أبياته مشهور بمعنى ويزيدون ذلك المعنى. |