الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

البريد ووسائله

يراد بالبريد في الدول الإسلامية غير ما يراد به الآن، فقد كان صاحب البريد أو صاحب الخبر أشبه برئيس البوليس السري أو رقيب أصحاب الأعمال، أو هو عبارة عن جاسوس الخليفة أو الأمير أو عينه الباصرة وأذنه السامعة ينقل إليه أخبار عماله أو مساعي أعدائه، فالبريد من هذا القبيل أشبه بقلم المخابرات في وزارة الحربية.

وكان الخلفاء لا يولّون البريد إلا ثقتهم من أهل التعقل والدراية لأن على ما ينقلونه من الأخبار تتوقف علاقات الخلفاء بعمالهم أو بمعاصريهم، وكان كسرى لا يولي البريد إلا أولاده.

مصلحة البريد

وأول من اتخذها من المسلمين معاوية بن أبي سفيان اقتداءً بمن كان قبله في الشام أو ما أشار عليه به عماله في العراق، وكان الغرض منه في أول وضعه سرعة إيصال الأخبار بين الخليفة في الشام وعماله في مصر والعراق وفارس. ثم توسّعوا فيه حتى جعلوه عيناً للخليفة على عماله وسائر رجال دولته، فأصحاب الأخبار هنا بمعنى جواسيس هذه الأيام، ولم يكن صاحب البريد يُطلع أحداً على أي خبرٍ قبل إنهائه إلى الخليفة ليكون هو الذي يشيعه أو يكتمه على ما يراه، وكان من جملة واجبات صاحب البريد حفظ الطرق وصيانتها من القطّاع والسرّاق وطرق الأعداء وانسلال الجواسيس في البر والبحر، وإليه كانت تُرد كتب أصحاب الثغور وولاة الأطراف وهو يوصلها في أسرع ما يمكن من اختصار الطرق واختيار المراكب.

طرق البريد

وكان للبريد طرق تتشعّب من مركز الخلافة إلى أطراف المملكة حتى تتصل بطرق الممالك الأخرى، وينقسم كل طريق إلى محطات أو مواقف فيها أفراس أو هجن، وبلغ عدد سكك البريد إبان الدولة العباسية 930 سكة ونفقات الدواب وأثمانها وأرزاق رجالها 159100 دينار في السنة. وفي أيام بني أمية كان ينفق على البريد أربعة ملايين درهم أي نحو ضعفي ذلك. وتختلف سرعة البريد باختلاف الطرق وأنواع المراكب.

ومن طرق المخابرة بالبريد إرسالها مع السعاة. وأول من أنشأ السعاة في الدولة العباسية معز الدولة أنشأهم في بغداد لإعلام أخيه ركن الدولة بالأحوال سريعاً، ونبغ في أيامه ساعيان اسم أحدهما فضل والآخر مرعوش فاقا سائر السعاة، وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفاً وأربعين فرسخاً أي نحو 140 ميل.

حَمام الزاجل

ومن وسائل المخابرة بالبريد حمام الزاجل فقد كان له شأن عظيم عندهم والمخابرة به قديمة جداً عند الأمم القديمة، ولكن المسلمين كانوا أكثر عناية فيه من سواهم فإنهم بذلوا في ذلك عناية كبرى ولا سيما في مصر. فقد كان للمخابرة بالحمام أبراج في قلعة القاهرة على عهد الأيوبيين في القرن السابع للهجرة، وقد بلغ عدد الحمام المستخرج لهذه الغاية فيها ألف وتسعمائة طائر لها عمال يناط بهم أمر العناية بها، وكانت الطيور المذكورة لا تبرح الأبراج بالقلعة، وكان بكل مركز حمام في سائر نواحي المملكة بمصر والشام والعراق من أسوان إلى الفرات، فلا يحصى عدد ما كان منها في الثغور والطرقات الشامية والمصرية وجميعها تدرج وتنقل من القلعة إلى سائر الجهات.

طرق أخرى للمخابرة

ومن طرق المراسلة عندهم أن تكتب ورقة تعلّق بقصبة وتغرس القصبة في باقة حشيش وتلقى في الماء فيعوم الحشيش ولا يزال جارياً بمجرى النهر حتى يراه المرسَل إليه، ومنها أن تكتب الأخبار على السهام وترمى إلى المكان المراد إرسال الخبر إليه وغالباً يكون ذلك في أيام الحصاد وانقطاع السبل.

ومن طرق المخابرة بناء المناظر أو المنائر كالأبراج العالية على المرتفعات ونقل الإشارات عليها بإشعال النار أو نحوه فينتقل الخبر بها من منظرة إلى منظرة حتى تبلغ المكان المطلوب.

القضاء

القضاء ـ ويراد به منصب الفصل بين الناس في الخصومات ـ قديم، لأن الإنسان لم يستغن عمن يفصل في قضاياه من أول زمان وجوده، وأما في الإسلام فأول من تولى القضاء النبي (صلّى الله عليه وآله) صاحب الشريعة الإسلامية نفسه ثم تولاه خلفاؤه، لأن القضاء من المناصب الداخلية تحت الخلافة، فكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلونه إلى سواهم حتى إذا اتسع سلطانهم وكثرت مهام منصبهم اضطروا إلى استنابة من يقوم عنهم بالقضاء في مركز الخلافة وفي الأعمال.

وكان القضاة في أول الأمر يولون على الأقاليم، على كل إقليم قاض، فلما عمرت المملكة واتسعت تعدد القضاة حتى صاروا يولون في المدن الكبرى عدة قضاة، كل قاض في جانب من جوانبها والخليفة هو الذي يولي كلاً منهم بنفسه إلى زمن الرشيد وقد اتسعت بغداد في أيامه، ونبغ يومئذ القاضي أبو يوسف الشهير وكان الرشيد يكرمه ويجلّه فدعاه (قاضي القضاة) وهو أول من دعي بذلك.

عمل القاضي

وكانت وظيفة القاضي في صدر الإسلام محصورة في الفصل بين الخصوم ثم أُضيف إلى أعمال القاضي استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين كالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء، ثم امتدت سلطتهم إلى النظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنوّاب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح.

وكان القضاة يجلسون في المساجد للحكم بين الناس، فإذا جاءهم الخصوم حكموا بينهم هناك، وكانوا يعدون القضاء من الأعمال الشاقة الخطرة بالنظر إلى الدين لما فيه من تحمل التبعة فيما قد يخطئ به القاضي فيحكم على صاحب الحق فيظلمه وهو مسؤول عنه، فكثيراً ما كان العلماء ورجال التقوى يأبون ولايته.