الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

الدولة الاسلامية وسعة المملكة

أول مَن دخل بلاد الأندلس من المسلمين طارق بن زياد وموسى بن نصير سنة 92هـ في عهد الدولة الأموية بالشام، فافتتحها وتولاّها الأمراء باسم الخلفاء الأمويين، فلما أفضت الخلافة إلى بني العباس وأعمل أبو السفاح السيف في بني أمية قتلهم جميعاً إلا شاباً اسمه عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك نجا وفرّ إلى بلاد المغرب واجتاز البحر إلى الأندلس، وكان عليها أمير اسمه عبد الرحمن بن يوسف الفهري فامتلكها منه وخطب فيها للسفاح زمناً قصيراً ثم عزله العباسيون فقطع الدعوة عنهم ودعا لنفسه سنة 138هـ وأقام في قرطبة عاصمة الأندلس في ذلك الحين، وخلفه حكّام كثيرون كانوا يلقِّبون أنفسهم بالأمراء إلى آخر القرن الثالث، فتولاّها عبد الرحمن الثالث المعروف بالناصر فسمّى نفسه خليفة سنة 317 وهو أعظم خلفاء بني أمية في الأندلس، حارب الإفرنج مراراً وردّهم على أعقابهم، فلما مات خلفه بضعة عشر خليفة ليس فيهم عادلاً.

وفي أوائل القرن الخامس انقسمت الأندلس إلى ممالك يتولاها رؤساء أو أمراء أشهرهم الحمودية في مالقة من سنة 407 ـ 499هـ والعبادية في أشبيلية من سنة 414 ـ 484هـ. والزيدية في غرناطة من سنة 403 ـ 483هـ والجهودية في قرطبة من سنة 422 ـ 461هـ وذو النونية في طليطلة من سنة 427 ـ 478هـ والعامرية في بلنسية من سنة 412 ـ 478هـ والهودية في سراقوسة من سنة 410 ـ 536هـ وملوك دانية من سنة 408 ـ 468هـ ويعرف هؤلاء الرؤساء بملوك الطوائف، وتنازعوا فيما بينهم وحاربهم الإفرنج حيث طمعوا بهم على أثر ذلك الانقسام.

ثم عاد المرابطون بعد بضع سنين وفتحوا الأندلس كلها وجعلوها ولاية تابعة لمملكتهم في المغرب، ولما صارت المغرب إلى الموحّدين صارت إليهم أيضاً الأندلس سنة 540هـ.

ونشأت في أثناء ذلك ممالك صغيرة في بلنسية ومرسية أهمها الدولة النصرية في غرناطة أصحاب الحمراء حكموا من سنة 629 ـ 897هـ.. وزهت الأندلس في أيامهم وظهر فيها الشعراء والأدباء على نحو ما كانت عليه في أيام عبد الرحمن الناصر، لكن الأسبان ما زالوا يهاجمون المسلمين ويناوئونهم والمسلمون يدافعون عن أنفسهم إلى أواخر القرن التاسع للهجرة فهاجمها فردينان وايزابلا سنة 1492 (897هـ) ففرّ ملكها أبو عبد الله وهو محمد الحادي عشر من تلك الدولة، فانقضت بفراره دولة المسلمين في الأندلس.

وللأندلس شأن عظيم في التاريخ الإسلامي فقد نبغ فيها العلماء والشعراء وأُنشئِت فيها المدارس والمكاتب وشيِّدت الأبنية والقصور وسنأتي على ذكر كل شيء في موضعه.

الدولة الفاطمية

نشأت هذه الدولة في بلاد المغرب، وهي تنتسب إلى فاطمة (عليها السلام) بنت النبي (صلّى الله عليه وآله) بواسطة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وأول من ظهر بالدعوة منهم عبيد الله المهدي في أواخر القرن الثالث للهجرة، ولذلك فهي تسمى أيضاً العبيدية، وقد أعانهم في نيل الخلافة رجل اسمه أبو عبد الله الشيعي نحو ما فعل أبو مسلم مع العباسيين، فلما استتب لهم الأمر قتلوه كما فعل المنصور بأبي مسلم، وامتد سلطانهم في أواسط القرن الرابع إلى مصر على يد القائد جوهر، وكانت مصر في حوزة العباسيين ففتحها جوهر وبنى فيها مدينة القاهرة نحو سنة 360هـ ولا تزال إلى اليوم، وسموها القاهرة المعزية نسبة إلى المعز لدين الله أول من جاء مصر من الخلفاء الفاطميين وتناوبها خلفاؤه بعده حتى أصابهم ما أصاب الدولة العباسية في بغداد من اصطناع الأعاجم والأكراد والأتراك وغيرهم فأفضى أمرها سنة 567هـ إلى صلاح الدين الأيوبي، وللدولة الفاطمية آثار عظيمة لا تزال ظاهرة في مصر ومنها مدينة القاهرة نفسها والجامع الأزهر، وتولاّها بعد صلاح الدين أبناؤه وأخوته، وجاء بعدهم السلاطين المماليك حتى فتحها السلطان سليم العثماني سنة 923هـ.

سائر الدول الإسلامية في أنحاء العالم

ولو أردنا ذكر الدول الإسلامية التي نشأت في العالم لطال بنا الكلام، وخلاصة ذلك أن الدول الإسلامية التي ظهرت من أول الإسلام إلى الآن نيف ومائة دولة عدد رؤسائها نحو (1.200) رئيس فيها الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والأتابكة والإخشيدية والخديويون والشرفاء والبايات والدايات وغيرهم من العرب والفرس والأتراك والشراكسة والأكراد والهنود والتتر والمغول والأفغان وغيرهم، ومن عواصمهم: المدينة والكوفة والشام وبغداد ومصر والقيروان وقرطبة والأستانة وصنعاء وعمان ودهلي وغيرها.

المملكة الإسلامية سعتها وأعمالها

تأسست المملكة الإسلامية في المدينة في السنة الأولى للهجرة والمسلمون قليلون وكل أرضٍ خارج أسوار المدينة ليست أرضهم، وحدود تلك المملكة محصورة بيثرب وبعض ضواحيها، وكانت دار الإمارة والقضاء يومئذ المسجد أو بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) أو بيوت الصحابة، ومازال ذلك شأنها إلى السنة الرابعة للهجرة فأضافوا إليها أرض بني النضير، وفي السنة التالية أرض خيبر ثم فدك فوادي القرى فتيماء ثم فتحوا مكة فالطائف فتبالة فجرش ثم شمالاً إلى تبوك وأيلة وجنوباً إلى نجران فاليمن فعمان فالبحرين فاليمامة.

ولما توفي النبي (صلّى الله عليه وآله) سنة (10) للهجرة كانت سطوة الإسلام قد أظلّت كل جزيرة العرب، وشاهد النبي (صلّى الله عليه وآله) مملكته تمتد من تبوك وأيلة شمالاً إلى شواطئ اليمن جنوباً ومن خليج العجم شرقاً إلى بحر القلزم غرباً، ولما وضع معاوية يده على أزمة الخلافة كانت رايات المسلمين تخفق على الشام ومصر والنوبة والعراق وفارس وأرمينية وأذربيجان وجرجان وطبرستان والأهواز وغيرها.

وكان الخليفة يقيم في (المدينة) أو (الكوفة) ويرسل عماله إلى الأعمال (الولايات) وأكبر أعمال المملكة الإسلامية يومئذ الشام وتحتها أجناد حمص وقنسرين والأردن وفلسطين والثغور، ثم العراق وأعظم أعماله السواد وهو ما بين دجلة والفرات وعاصمته الكوفة على الفرات وما عدا السواد البصرة وقرقيسية والري وأصفهان ونهاوند وأذربيجان وحلوان وهمدان وغيرها. وفي بلاد العرب مكة والطائف والبحرين وعمان وصنعاء، وفي قارة أفريقيا مصر وما يتبعها من أفريقية في بلاد المغرب والنوبة في أعالي وادي النيل.

وكان الخلفاء يرسلون عمّالهم إلى هذه الأعمال رأساً من المدينة أو الكوفة إلا الشام فقد كان يقيم عاملها في دمشق وهو يولي عمالاً على ما تحتها من الأجناد، وكذلك مصر كان عاملها في الغالب يرسل العمال من تحت إمرته إلى أفريقية والنوبة.

وفي أيام بني أمية زادت المملكة الإسلامية اتساعاً ففتحوا الأندلس وسائر المغرب غرباً، وأوغل بنو أمية في أوروبا من وراء إسبانيا فقطعوا جبال البيرينيه ودخلوا فرنسا وأوغلوا فيها إلى نهر الراون سنة 114هـ، فارتعد الإفرنج لذلك وخافوا أن يصيبهم ما أصاب إسبانيا، فتكاتفوا لدفعهم بكل جهودهم فحصلت بين الفريقين وقائع دموية في مكان قرب ثورس دامت بضعة أيام والحرب سجال، ولم يذكر العرب من أخبار هذه الوقائع إلا إشارات مختصرة، وأما الإفرنج فإنهم فصّلوها مع ما يقتضيه المقام من إعجابهم بالعرب وبسالتهم، وكان ذلك بقيادة شارل مارتل القائد الفرنسي الشهير جدّ الإمبراطور شارلمان، فذكروا حروباً هائلة جرت بين شارل هذا وبين العرب سنة 732م انتهت بتقهقر العرب إلى إسبانيا وقتل قائدهم عبد الرحمن.

ومما يستدعي الاعتبار والتأمل أن العرب لو فازوا في هذه الواقعة لانتشر الإسلام في فرنسا ثم في سائر أوربا ـ لأن الفرنسيين كانوا أقوى أمم الإفرنج على مدافعة العرب يومئذ ـ ولانتشرت اللغة العربية في تلك القارة كما انتشرت في قارتي آسيا وأفريقيا وسائر العالم الإسلامي.

واتسع نطاق المملكة الإسلامية على عهد العباسيين حتى صارت إلى أوسع ما بلغت إليه في زمن الإسلام حتى الآن.

ومهما اختلفت الدول فالمملكة إسلامية وحكامها مسلمون، وقد بلغت حدود هذه المملكة من الشمال إلى أعالي تركستان في آسيا، وجبال البيرينيه في شمالي إسبانيا، ومن الجنوب إلى بحر العرب والمحيط الهندي وصحراء أفريقيا ومن الشرق إلى بلاد السند والبنجاب من بلاد الهند، ومن الغرب المحيط الأطلسي. وتزيد مساحتها على ضعفي مساحة أوروبا.

وكان لكل عمل من أعمال دولتهم والٍ أو عامل يوليه الخليفة أو وزيره أو نائبه كما سترى فبلغ عدد هذه الأعمال ـ أو الولايات في اصطلاح هذه الأيام ـ 44 ولاية لكل منها بيت مال وديوان خراج وقاض أو أكثر، وسكّانهم معظم أمم العالم المتمدن في ذلك الحين وفيهم العرب والفرس والأتراك والأكراد والمغول والتتر والأفغان والهنود والأرمن والسريان والكلدان والروم والقوط والقبط والنوبة والبربر وغيرهم، وكانوا يتكلّمون العربية والفارسية والبهلوية والهندية والرومية والسريانية والتركية والكردية والأرمنية والقبطية والبربرية وغيرها. فمنهم من أصبحت اللغة العربية لغتهم وضاعت لغاتهم الأصلية كأهل الشام ومصر والمغرب والعراق، ومنهم من اختلطت العربية بلغاتهم الأصلية كأهل فارس وتركستان والهند والأفغان وغيرها، ولا يزال كثيرٌ من أمم آسيا وأفريقيا تكتب لغاتها بالحروف العربية إلى الآن أثراً لذلك التمدن العظيم.

فكثيرٌ من المدن الإسلامية أصبحت الآن خراباً بالنظر لما كانت عليه في عهد الدولة الإسلامية وخصوصاً العراق أو السواد، وعلى الأخص بغداد والبصرة والكوفة وسائر مدن العراق فقد وصف الإصطخري مدينة البصرة وصفاً يمثّل ما كانت عليه أرض العراق من العمارة في ذلك العصر قال:

البصرة

(البصرة مدينة عظيمة لم تكن في أيام العجم وإنما مصرها العرب.. وليس فيها مياه إلا أنهاراً، وذكر بعض أهل الأخبار أن أنهار البصرة عُدّت أيام بلال بن أبي بردة فزادت على مائة ألف نهر وعشرين ألف نهر تجري فيها الزوارق وقد كنت أنكر ما ذكر من عدد هذه الأنهار في أيام بلال حتى رأيت كثيراً من تلك البقاع فربما رأيت في مقدار رمية سهم عدداً من الأنهار صغاراً تجري في كلها زوارق صغار ولكل نهر اسم ينسب به إلى صاحبه الذي حفره أو إلى الناحية التي يصبّ فيها، فجوّزت أن يكون ذلك في طول هذه المسافة وعرضها).

فاعتبر المسافة التي يحفر فيها (120.000) نهر أو ترعة كم يمكن أن يكون عدد سكانها؟ وهذا مستغرب عند أهل هذا الزمان لكنه يدل في كل حال على عمران تلك الأرض.

بغداد

وناهيك عن بغداد مدينة الخليفة ودار السلام فقد ذكر الإصطخري أيضاً في وصفها كما شاهدها في أيامه في القرن الرابع للهجرة قال: (وتفترش قصور الخلافة وبساتينها من بغداد إلى نهر بين فرسخين على جدار واحد حتى تتصل من نهر بين إلى شط دجلة ثم يتصل البناء بدار الخلافة مرتفعاً على دجلة إلى الشمّاسية نحو خمسة أميال وتحاذي الشمّاسية في الجانب الغربي الحربية فيمتد نازلاً على دجلة إلى آخر الكرخ.. إلخ).

ثم قال: (وبين بغداد والكوفة (أو بين دجلة والفرات) سواد مشتبك غير مميَّز تخترق إليه أنهار من الفرات) ثم عدّد الأنهر التي تمتد من الفرات إلى دجلة.

فأين هذه العمارة مما عليه بغداد اليوم؟ فإن إحصاء ولاية البصرة كلها الآن 200.000 نفس، وتعداد نفوس ولاية بغداد 850.000 ونظن أن إحصاء الولايتين جميعاً أقل كثيراً مما كانت تحويه مدينة بغداد وحدها، وقس على ذلك مدينة دمشق وغيرها من المدن التي ضعف أمرها اليوم. وهناك مدن أخرى كانت يومئذ إبان مجدها فأصبحت الآن اسماً بلا مسمى مثل الفسطاط في مصر والكوفة في العراق والقيروان في أفريقيا وبصرى في حوران وغيرها مما لا محل للكلام فيه هنا.

مصر

وأما مصر فيؤخذ من كلام مؤرخي العرب أنها لما فتحها المسلمون كان عدد الذكور فيها ممن بلغ الحلم إلى ما فوق ذلك (ليس فيهم صبي ولا امرأة ولا شيخ) ثمانية ملايين) منهم في الإسكندرية وحدها ثلاثمائة ألف فإذا أضفنا إلى ذلك عدد الإناث والأطفال والشيوخ أصبح عدد سكانها أكثر من ثلاثين مليون نسمة وهو نحو ثلاثة أضعاف عدد سكّانها اليوم.

وقد يطعن في صحة هذه الرواية ولكن يستدل من مجمل أقوالهم في مصر أنها كانت في رغد ورخاء وكان عمرانها بالغاً حد النهاية.

وذكر ياقوت في معجم البلدان: (إن المقوقس قد تضمن مصر من هرقل بتسعة عشر ألف ألف دينار وكان يجبيها عشرين ألف ألف دينار وجعلها عمرو بن العاص عشرة آلاف ألف دينار أول عام، وفي العام الثاني اثني عشر ألف ألف ولما وليها في أيام معاوية جباها تسعة آلاف ألف دينار وجباها عبد الله بن سعد بن أبي سرح أربعة عشر ألف ألف دينار) وقد أجمع المؤرخون المحدثون تقريباً على تقدير سكانها في تلك الأيام بنحو عشرين مليون نفس.

قال المقريزي: (إن هشام بن عبد الملك (سنة 107هـ) أمر عبد الله بن الحجاب عامله على خراج مصر أن يمسحها، فمسحها بنفسه فوجد مساحة أرضها الزراعية مما يركبه النيل ثلاثين مليون فدان، مع أن مساحة الأرض الزراعية في وادي النيل اليوم مع ما تبذله الحكومة من العناية في إخصابها وتعميرها لم تتجاوز ستة ملايين فدّان كثيراً، ومساحة وادي النيل كلها أي الوجه البحري والصعيد على جانبي النيل لا تزيد على هذا القدر إلا قليلاً، فيستحيل أن تكون مساحتها في أوائل الإسلام خمسة أضعاف ذلك ولكن يظهر أن العرب زرعوا ما يجاور هذا الوادي من الشرق نحو البحر الأحمر ومن الغرب إلى وادي النطرون، لأن مساحة مصر بما فيها الواحات في صحراء ليبيا والأرض بين النيل والبحر الأحمر وبينه وبين بحر الروم إلى العريش تزيد على 400.000 ميل مربع وذلك يساوي نحو 187 مليون فدّان، فلا غرابة إذ ذاك أن يكون العامر منها 30 مليون فدان، وأن يكون سكانها 20 مليون نفس.

ويؤيد ذلك أن مؤرخي العرب كانوا يقدرون مساحة مصر نحو ما تقدم تقريباً.

قال المقريزي: (وآخر ما اعتبر حال أرض مصر فوجد مدة حرثها ستين يوماً ومساحة أرضها 180.000.000 فدان يزرع منها في مباشرة ابن المدبر (في أواسط القرن الثالث للهجرة) 24.000.000 فدان، وأنه لا يتم خراجها حتى يكون فيها 480.000 حراث يلزمون العمل بها دائماً.. إلخ).

واعتبر نحو هذا العمران أيضاً في مدن الإسلام الكبرى في الأندلس مثل قرطبة وغرناطة وطليطلة، وفي العراق والشام بلاد لا تحصى كانت في تلك الأيام مدناً كبرى وأصبحت الآن قرى حقيرة.

 

s