الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 السياسة والدولة

الصفحة الرئيسية

 

التأثير المتقابل بين الفرضية والمؤسسة الاجتماعية

فإذا كانت المؤسسة الاجتماعية قد ركبت تركيباً صحيحاً وكانت (الفرضية) التي ينتهجها الإنسان في حياته فرضية صحيحة كان الفرد صحيحاً وكان الاجتماع ـ المركب من اللبنات الفردية الإنسانية الصحيحة ـ صحيحاً أيضاً، وإلا كان الفرد والاجتماع منحرفين ومريضين.

مثلاً إذا كانت هنالك آلهة متعددة ـ كما قال الكفار عن الرسول (صلّى الله عليه وآله): (أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) (ص: 5).

فمن الطبيعي أن يقع بين عبّاد هذه الآلهة التحارب والتضارب، لأن هذا يقول: إلهي أفضل، وذلك يقول: إلهي أفضل.

وكذلك إذا لم يكن الإنسان يعتقد بالأله واليوم الآخر، ولم ير رقيباً على نفسه وعمله فإنه يكون منحرفاً تلقائياً، فلا مانع عنده من السرقة أو القتل أو الاغتصاب للفتيات وما أشبه.

فالفرضية الفكرية المنحرفة تأتي أخيراً بالانحراف، والفرضية الفكرية المستقيمة تأتي أخيراً بالاستقامة، فإن كلاً من (الفرضية الفكرية) و(المؤسسة الاجتماعية) يؤثر أحدهما في الآخر.. فالفرضية الفكرية تؤثر في المؤسسة الاجتماعية لأن الإنسان يبني اجتماعه حسب فكره، كما أن المؤسسة الاجتماعية تؤثر في الفرضية الفكرية ـ مستقيمة كانت أو منحرفة ـ فمن يولد في بلاد المسيحيين يكون مسيحياً على الأغلب، ومن يولد في بلاد المسلمين يكون مسلماً على الأغلب.. وعلى هذا المعدل، ولذا ورد في الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه)(1).

ومعنى الفطرة طبيعة الإنسان حيث يفكر أن للكون إلهاً وخالقاً، وأن هنالك يوماً يعاقب فيه الإنسان على سيئاته ويثاب فيه على حسناته، وأنه لا بد أن يكون لخالق الكون سفراء، هذه هي الفطرة على تفصيل مذكور في علم الكلام.

وعلى أي حال، فالمجتمع هو الذي يهوّد أو ينصّر أو يمجّس.

هذا بالنسبة إلى صحة الفرضية أو بطلانها.

المؤسسة الاجتماعية بين المرض والسلامة

وأما بالنسبة إلى صحة المؤسسة الاجتماعية أو مرضها فإنا نشاهد أن المؤسسة الاجتماعية إذا كانت صحيحة تعطي للإنسان الحريات المعقولة كحرية الزراعة والتجارة والصناعة والسفر والإقامة وتحصيل العلم والزواج واتخاذ المسكن والاستفادة من المباحات، ومثل هذه المؤسسة توجب صحة الأفراد جسمياً وتوفر العمل لهم حتى لا يكونوا عاطلين، كما أنها توفر للإنسان المسكن والملبس والمأكل والمشرب والزوج أو الزوجة وغير ذلك.

أما إذا كانت المؤسسة الاجتماعية منحرفة فإنها لا توفر الحريات للإنسان أو توفر له حريات منحرفة ـ كحرية الزنا وحرية الربا وحرية الاحتكار وما أشبه ـ وفي كلا الحالين يسبب ذلك مرض الاجتماع، ومرض الاجتماع يسري إلى الفرد، فإنه قد ثبت في (علم الاجتماع) أن كل واحد من الفرد والاجتماع يؤثر في الآخر، فمثلاً: الفرد الصحيح في مؤسسة تعليمية يسبب رقيّ الطلاب، كما أن العكس كذلك، فإذا كان الاجتماع فاسداً فإنه يؤثر في أفراده تأثيراً سيئاً.

فمن هاتين الناحيتين ـ ناحية (الفرضية الذهنية) وناحية (النظام الحاكم على المؤسسات الاجتماعية) ـ تفرز صحة الاجتماع أو فساده، فإذا كانت الروح السائدة في المجتمع حب الآخرين والتعاون معهم وساد في الاجتماع القانون الصحيح عاش الاجتماع بخير جسماً وروحاً وأخذ في التقدم وإلا كان العكس.

منهج الأنبياء (عليهم السلام) حول الفرضية والمؤسسة الاجتماعية

مثلاً: الأنبياء عليهم السلام هم الذين أعطوا النظام الصحيح للجسم والروح، أما للروح فلأنهم يحكّمون العقل والاستدلال والبحث الحر، لا التقليد والعادات الباطلة كما كان يقول المشركون والمنحرفون.

(إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (الزخرف: 22).

ولذا كان القانون في الإسلام الحكيم قانون العقل والبحث الحر والتفكر والتدبر.

وكذلك بالنسبة إلى قانون المؤسسة الاجتماعية فإنه مبني في عرف الأنبياء (عليهم السلام) على الحب.

(فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك)(2).

ـ حباً ناشئاً عن حب الإنسان بما أنه إنسان، لا حب الإنسان للاستنفاع من ورائه ـ كما أنه مبني على الكفاءات.

(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات: 13).

وعلى احترام الآخرين وعدم إهانتهم حتى إذا كان الآخر مجرماً، فإن المجرم يعاقب بقدر جريمته ـ إذا لم يعف عنه ـ ولا يهان، وفي الحديث أن أحد الصحابة قال عن شخص مجرم (إنه عقص كما يعقص الكلب) فنهره النبي (صلّى الله عليه وآله).

وتدعو النبوات إلى توسعة حدود العلم كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)(3).

وقال: (اطلبوا العلم ولو بالصين)(4).

وتوسعة العقل بإنماء الملكات الصالحة، فإن الأرضية الموجودة في النفس قابلة للنمو، كالأرض القابلة لزرع النبات فيها..

فإذا سادت في المجتمع هذه القوانين العقلية والاجتماعية تقدم الإنسان إلى الأمام وكان المجتمع مجتمعاً سليماً، ولذا ورد في القرآن الحكيم: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (البقرة: 201).

ما لله لله، وما لقيصر لقيصر!

أما ما تقوله المسيحية الحاضرة (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) فإنه قانون منحرف إذ (ما لقيصر) و(ما لله) كله لله سبحانه وتعالى، بالإضافة إلى أنه يولد التناقض (فما لقيصر) هو الذي أخذ عيسى المسيح وأراد أن يقتله لولا أن رفعه الله سبحانه وتعالى فكيف يكون المائز بين (ما لقيصر) و(ما لله) ؟ إلا أن يخضع (ما لله) لـ(ما لقيصر)!! كما نشاهد ذلك بالفعل في العالم الغربي، حيث إن الكنائس المسيحية خاضعة للحكومات في قوانينها، فإن الحكومات هي التي تضع القوانين كافة، وعلى الكنائس اتباعها ـ إلا في بعض القوانين الشاذة النادرة مما لا يمكن أن يسمى (ما لله لله) ـ ولذا فإن هذا القانون غير صحيح ونسبته إلى السيد المسيح عليه السلام غير تامة.

أنتم أعلم بأمور دنياكم!!

ومثل هذا الكلام ما رواه بعض المسلمين عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حيث زعموا أنه قال: (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ولكن: كيف يكون الناس أعلم بأمور دنياهم من الرسول المرتبط بالوحي؟

وكيف كان، فالصحة في الفرد وفي الاجتماع إنما تكون بسلامة (الفرضية الذهنية) من ناحية، وسلامة (النظام المسيطر على المؤسسة الاجتماعية) من ناحية أخرى.

سعة مدلول المؤسسة الاجتماعية

وليس مرادنا بالمؤسسة الاجتماعية علم الاجتماع في مقابل علم الاقتصاد وعلم السياسة وما أشبه بل مرادنا بالمؤسسة الاجتماعية: الاجتماع بالمعنى العام الشامل للاقتصاد والسياسة والتربية والثقافة وغير ذلك من الأمور التي تحكم الاجتماع.

تصورات خاطئة

ومن ذلك ظهر أن تصور (أن المؤسسة الاجتماعية بالمعنى الواسع هي الكل في الكل، ولا مجال بعد ذلك للفرضية الذهنية إطلاقاً) تصور غير تام فقول (فرويد) بذلك، بل وتضييق مبعث دائرة المؤسسة الاجتماعية في الجنس فقط، وإن الجنس هو الذي يسير كل شيء من الدين والأخلاق والقانون وغيرها خال من الدليل وكذا قول (ماركس) بمثل ذلك ـ مع تفاوت أن ماركس يرى حركة المجتمع خاضعة للعامل الاقتصادي تماماً، بينما (فرويد) يبني الاقتصاد على الجنس لا الجنس على الاقتصاد ـ.

وقول ثالث بأن المسير للاجتماع بكل خصوصياته (حب الرئاسة).

وقول رابع بأن المسير (لاقتصاد الخاص) لا الاقتصاد بصورة مطلقة، فالذين يعيشون على الزراعة تسيّر الزراعة حياتهم في كل شؤونها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية والعسكرية وغيرها كما في فرعون مصر، حيث إن الزراعة كانت هي الأصل، وبنيت على الزراعة ألوهية فرعون وأنظمتهم الاجتماعية والسياسية..الخ.

والذين يعيشون على الماء يسيّر الماء حياتهم بكل شؤونها كما في سد مأرب، ولذا لما انهدم السد تفرقوا شيعاً وانهدم القانون والدين وكل شيء عندهم... إلى غير ذلك من الأقوال التي يجدها الإنسان في مختلف الكتب.

فكل هذه الأقوال لا دليل عليها، بل الدليل على خلافها، فإن الذي سبب صحة الاجتماع هي (الفرضية) و(المؤسسة الاجتماعية) ـ بمعناها الوسيع ـ وعلى هذا فاللازم أن نجد أصول الأمراض العالمية التي ابتلي العالم بها في هذين الأمرين (الفرضية العقلية) و(المؤسسة الاجتماعية).

وحيث انحرف كلا الأمرين في العالم (انحرفت الفرضية في أكثر العالم، وانحرفت المؤسسة الاجتماعية في كل العالم) نجد أن العالم ابتلى بأمراض لا قبل له بها من الحروب والثورات والأمراض والفقر والجهل والفوضى والعداء والشحناء، وما إلى ذلك.

الاستدلال النزيه طريق المعرفة

أما معرفة صحة (الفرضية) أو بطلانها، وصحة (النظام الحاكم على المؤسسة الاجتماعية) وبطلانه، فإن ذلك لا يكون إلا بالاستدلال المجرد عن الأهواء، وبالبحث الحر النزيه، ولذا نجد القرآن الحكيم يبني كل أموره سواء في (الفرضيات الذهنية) أو في (الأمور الاجتماعية ـ بالمعنى الوسيع ـ) على الاستدلال.

مثلا: قال سبحانه وتعالى: (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين) (البقرة: 258).

فـ(إبراهيم) (عليه السلام) ـ وهو من الأنبياء العظام ـ بنى استدلاله مع (نمرود) ـ الذي كان يدعي الألوهية لنفسه ـ على الاستدلال والاحتجاج، وعندئذ بهت الذي كفر.

ويقول القران الحكيم بالنسبة إلى ادّعاء المسيحيين ألوهية عيسى المسيح (عليه السلام) أو بنوّته لله سبحانه ـ باعتبار أنه ولد من غير أب ـ: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (آل عمران: 59 ـ 61)..

فلو كان عيسى إلهاً أو ابن إله لأنه ولد من غير أب لكان آدم أجدر أن يكون إلهاً أو ابن إله، لأنه خلق من غير أب ولا أم، وحيث انقطع المسيحيون في الاستدلال ولجأوا إلى العناد، طرح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليهم مسألة (المباهلة) والكل يعرف بأن مسألة المباهلة انتهت بانسحاب المسيحيين... فهم قد سقطوا في كلتا المرحلتين: مرحلة (الاحتجاج) ومرحلة (المباهلة) ولذا وافقوا على أن يقدموا لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) الجزية.

وهكذا نجد القرآن الحكيم في كل (الفرضيات العقلية) ـ والتي تسمى (أصول الدين) ـ يأتي بالاحتجاج العقلي، ويقول في قبال المشركين الذين كانوا يقولون بتعدد الآلهة: (لو كان فيهما آلِهة إلا الله لفسدتا) (الأنبياء: 22).

ويقول أيضاً: (إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) (المؤمنون: 91).

وبالنسبة إلى عصمة الإمام يقول القرآن الكريم: (قال لا ينال عهدي الظالمين) (البقرة: 124).

في قصة معروفة.. إلى غير ذلك.

بل وحتى في الأمور الأخلاقية والفروع يأتي القرآن الحكيم بالاستدلال، مثلاً: يقول بالنسبة إلى بعض ما كان اليهود يحرّمونه وينسبون تحريمه إلى الأنبياء يقول تعالى: (كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون. قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) (آل عمران 93 ـ 95).

فإنكم أيها اليهود إذا لم تجدوا هذا الحكم في التوراة فمن أين تأتون به؟ ثم إنه كان حلالاً في شريعة إبراهيم، والحلال باق على حليته حتى يأتي الوحي بحرمته ولما لم يأتِ الوحي بذلك لأنه لم يكن التحريم موجوداً في التوراة فنسبة التحريم إلى الله سبحانه وتعالى افتراء بحت، وفي آية أخرى: (ءالله أذن لكم أم على الله تفترون) (يونس: 59).

وعلى أي حال، فتصحيح الفرضيات الباطلة كتصحيح الاجتماعات السقيمة إنما يكون بالبحث الحرّ الخالي عن الهوى والأغراض والشهوات، وعند ذلك يصل الإنسان ـ بعقله السليم ـ إلى (الواقعيات) في الفرضيات، وفي الأنظمة التي يجب أن تحكم المؤسسة الاجتماعية، وحينئذٍ يخرج العالم عن المرض إلى الصحة.

مقاييس الصحة والمرض

... وحيث إنا نتوخى التجمع السليم ونريد الابتعاد عن العالم المريض وتبديله إلى عالم صحيح فهنا سؤال يطرح نفسه: وهو أن ميزان الاجتماع ما هو حتى يقاس به الصحة والمرض؟.

والجواب: إن مرض الاجتماع يكون إما بمرض الفرضية، أو بالنقص في الجسم، أو بالنقص في حاجات الجسم.

سقم الفرضية

أما مرض الفرضية فهو أن تكون الفرضية غير مطابقة للقواعد العقلية، مثلاً: القاعدة العقلية تقول: (لا يمكن أن يكون الجزء أعظم من الكل) (أو مساوياً له) (أو أن يجتمع النقيضان) (أو أن يرتفعا) (أو أن يجتمع الضدان) (أو أن يرتفع الضدان اللذان لا ثالث لهما) (أو يتسلسل الشيء إلى غير النهاية) (أو يكون معلولاً بلا علة) (أو يدور موجودان دوراً مصرحاً) (أو دوراً مضمراً) إلى غيرها من القواعد فإذا رأينا الفرضية مخالفة لمثل هذه القواعد نعرف أن الفرضية مريضة، ومرض الفرضية معناه مرض الروح والفكر والذهن، وقد تقدم أن مرض الروح يسري إلى الجسد ومرض الجسد والروح يسريان إلى الاجتماع، لأن الاجتماع مكون من لبنات إنسانية.

نقص الأعضاء

وأما نقص الجسم، فهو بأن يكون الشخص فاقداً بعض الأعضاء أو القوى أو الألوان، أو لا يستطيع تحريك جسمه تحريكاً معتاداً أو ما أشبه.

عدم إشباع الحاجات

وأما نقص الحاجات فبأن لا يكون له مأكل، أو لا يكون له مأكل ملائم، وهكذا في المسكن والملبس والمركب والمنكح وغير ذلك.

فإذا كان الاجتماع أو الفرد يشتكي من إحدى هذه الأمراض، فإن المجتمع والفرد مريض، ويجب علاجه بإرجاعه إلى الحالة الطبيعية المطابقة للعقل والمطابقة للمعتاد في الخلقة.

ظواهر مرضية

وبذلك يظهر، أنه لو نما جسم الإنسان ولم ينمُ عقله، أو بالعكس، أو لم ينم كل واحد منهما، فهو مريض، مثلاً: لو كان للإنسان البالغ عقلية الطفل ذي السنة، أو كان للطفل عقلية الإنسان البالغ أربعين سنة مثلاً، فإن هذا خارج عن المعتاد ويوجب انحرافاً في صحته.

أما بالنسبة إلى الأطفال الذين هم أنبياء أو أئمة حيث إنهم يتكلمون ويعقلون.

كما قال عيسى (عليه السلام) وهو في المهد: (قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً) (مريم: 30 ـ 32).

إلى غيره فهم وإن لم تنم أجسامهم بعد وكان لهم عقل الإنسان الكامل إلا أن كمال عقولهم لم يكن يسبب تقويض النظام، فإنا نقول: (الجسم غير المكتمل إذا كان فيه عقل مكتمل يكون مريضاً) فيما إذا كانت عقلانية الطفل توجب تقويض النظام، مثلاً: الرضيع ذو العقل الكامل لا يرتضع من الثدي ولا يستعد لأن يجرى عليه ما يجرى على سائر الأطفال لخجله وحيائه وهكذا.

أما إذا لم يوجب كمال العقل في الصغير تقويض النظام، فهو من المحاسن لا المساوئ، ومن المعجزات أحياناً، إذ أنه أمر خارق للعادة.

تعاريف ناقصة

وعلى كل حال، فقول بعض الفلاسفة في تعريف مرضية الاجتماع بأنها (كون المجتمع نظير المجتمع البدائي بعد مرور عشرات الألوف من السنوات على الإنسان) أو (رجوع الإنسان بعد الحضارة إلى البداية)، إنما هو من باب المثال، وإلا فقد عرفت أن الميزان في الصحة والسقم ليس هذا فحسب، وإنما هو كلي ينطبق على هذا المثال وعلى غيره أيضاً.

لا يمكن إرضاء الأهواء

إذاً فالمجتمع السليم هو الذي يعطي حاجات الروح والبدن في نطاق الطاقة الإنسانية والطاقة الكونية، لا في نطاق الهوى والميول، فإن إرضاء الهوى والميول غير ميسور في عالم الدنيا وسرّ أنه غير ميسور: إن الدنيا أضيق من إرضائهما حيث إن الإنسان خلق للآخرة، وإنما الدنيا قنطرة فقط، مثلاً: لا يمكن أن يكون في بلد واحد مائة رئيس جمهورية كما لا يمكن أن ينال الإنسان منتهى أمانيه في العلم بأن يحصل ـ مثلاً ـ على مائة شهادة دكتوراه في علوم مختلفة، أو في المادة: بأن يكون كل إنسان صاحب الملايين أو يكون كل إنسان سيداً، إذ الطاقة البدنية تأبى تحصيل مائة شهادة دكتوراه، والمادة ليست بقدر أن يكون كل إنسان صاحب ملايين، والحاجات المتنوعة للإنسان تأبى تساوي الناس في السيادة، بل هناك حاجة إلى الكناس والعطار والخباز والخادم مهما تدخلت الآلة في حياة الإنسان، فالحاجة إلى هؤلاء كالحاجة إلى العالم والوزير والرئيس والسفير ومن إليهم، وقد أشير في القرآن الحكيم:

أولاً: إلى عدم يسر الأمرين ـ إعطاء كل حاجات الروح والجسد ـ بقوله تعالى: (يأخذوا بأحسنها) (الأعراف: 145).

حيث لا يمكن الأخذ بالكل: الحَسِن والأحسن.

وثانياً: إلى لزوم التفاوت بقوله تعالى: (انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجاتٍ وأكبر تفضيلاً) (الإسراء: 21).

وقال سبحانه: (أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ورحمة ربك خير مما يجمعون) (الزخرف: 32).

الحضارة الحديثة لا تلبي الحاجات

ثم إن نظرة واحدة إلى عالم اليوم تفيد عدم إعطائه الحاجات، لا بالنسبة إلى الأمم الفقيرة والمستعمرة (بالفتح) ولا بالنسبة إلى الأمم الغنية والمستعمرة (بالكسر) كالبلاد الغربية في الوقت الحاضر حيث إنها لم تتمكن أن تعطي للناس حاجاتهم، فهل كل الناس في الغرب يتمكنون أن يصلوا إلى الجامعة ويتخرجوا منها؟

وهل كل الناس في الغرب أغنياء؟

وقد جاء في تقرير على أنه يوجد في أمريكا ـ زعيمة الرأسمالية والاستعمار في عالم اليوم ـ أكثر من ثلاثين مليون من الفقراء الذين لا يجدون حتى أوليات العيش إلا بصعوبة بالغة وبمعونة الجمعيات الخيرية وما أشبه مما لا يناسب الكرامة الإنسانية، وكذلك جاء في تقرير: إن سبعة ملايين عانس توجد في أمريكا، ومن الواضح أن المرأة التي لا زوج لها ـ سواء لم تتزوج أصلاً كالعانس أو التي تزوجت ثم ترملت ـ تعيش في أزمة نفسية شديدة، فهل الدنيا تمكنت أن تعطي حاجات الإنسان؟

هذا بالإضافة إلى الخوف والقلق المسيطرين على كل العالم مما بيّنه الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في كلمة له في أحوال الجاهلية، حيث قال: (وشعارها الخوف ودثارها السيف)(5).

فالخوف في باطن الإنسان، والسيف في ظاهره، والسيف في هذا اليوم هو الأسلحة الذرية والنترونية والكيمياوية وغيرها، وأيضاً: فإن أكثر أهل العالم ـ اليوم ـ يعيشون في حاجة مستمرة، لا العالم الثالث فحسب، وإنما البلاد الشيوعية أيضاً كالصين والاتحاد السوفيتي وما أشبه فالناس لا يحصلون فيها على أوليات الحياة.. إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن الواضح، أنه إذا لم تعط حاجات الإنسان تبدل المجتمع إلى مجتمع العداء والبغضاء، وصرفت الخلاقية البنائية في الإنسان إلى خلاقية الهدم، وابتلى الإنسان بالقلق والأمراض، كما نشاهد كل ذلك في عالم اليوم.

علماء.. في خدمة الأنظمة الفاسدة!

والغريب في الأمر أن كثيراً من العلماء الذين يجب عليهم الدفاع عن المجتمع وإرجاعه إلى الصحة يسيرون في ركاب الحكام والسياسيين والرأسماليين وأمثالهم من المنحرفين، فيدافعون عن هؤلاء، لا عن المجتمع، فيظهرون أن المجتمع سليم، وأنه لا يمكن أن يكون أكثر سلامة من هذا الذي نشاهده اليوم! وقد انطبق على هؤلاء العلماء قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (التوبة: 34 ـ 35).

وفي آية أخرى مثـل سبحانه وتعالى الذين يميلون إلى الــمادة والى الحكام ويتركون هدى السماء بعالم كان في بني إسرائيل مال إلى السلطان والمادة وترك الرحمن والحق فقال عنه سبحانه: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص الــقصص لعلهم يتفكرون ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون. من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الأعراف: 175 ـ 179).

فمثل هؤلاء الأفراد الذين آتاهم الله سبحانه وتعالى العلم فأخذوا يخدمون الضلال والانحراف بدل أن يخدموا الرشاد والهدى والإنسانية كمثل الكلب فإن الكلب سواء حملت عليه أو تركته يلهث ويلهث..

وهكذا العلماء الذين يلهثون ضد الطبقة المحتاجة والفقيرة والمستعمرة، سواء تكلمت ضدهم أو لم تتكلم ضدهم لأنهم يخدمون السلطان والمادة، وبالنتيجة أمثال هؤلاء العلماء يظلمون أنفسهم لأنهم كذبوا بآيات الله وسلكوا طريق الانحراف وهم غير مهتدين بل ضالون وإضلال الله سبحانه وتعالى لهم عبارة عن تركهم وشأنهم وبعد ذلك يقول الله سبحانه وتعالى إن عاقبة هؤلاء أنهم يصلون إلى النار.

(ولقد ذرأنا لجهنم) واللام للعاقبة يعني: إن عاقبتهم الذهاب إلى النار إذ لهم قلوب لكن لا يستعدون أن يفقهوا بها، ولهم أعين لكن لا يستعدون أن يبصروا بها، ولهم آذان لكن لا يستعدون أن يسمعوا بها، بل يصرفون قلوبهم وتفكيرهم في الدفاع عن الطبقة المستعمرة المستعلية المستكبرة، ويصرفون أعينهم عن النظر إلى المآسي، كما أنهم يصمون آذانهم عن سماع أنين البشرية حتى لا يساعدوهم.

تبريرات فاشلة

إن قسماً من علماء الغرب نسبوا المشاكل الموجودة في المجتمعات إلى الاختلاف الطبيعي بين الإنسان وبين الاجتماع، فمثلاً (فرويد) يقول: طبيعة الإنسان تقتضي الميول الجنسية. و(ريكارد) يقول: طبيعة الإنسان تقتضي الاقتصاد الرأسمالي. و(دارون) يقول: طبيعة الإنسان من جهة البيئة توجب تنازع البقاء. و(مكيافيلي) يقول: إن طبيعة السلطة تولد المشكلة والتدافع، وكل هذه الطبايع الموجودة في الأفراد تصادم طبيعة المجتمع مما يسبب المآسي والمشكلات ولهذا لا يمكن رفعها.

هكذا يقولون بينما نرى أن الواقع خلاف ذلك كله فإن الإنسان بفطرته خلق للتعارف لا للتحارب، ولذا قال سبحانه: (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم) (الروم: 30).

وقال في آية أخرى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (الحجرات: 13).

فالفطرة هي التي تقتضي التعارف لا التناكر، والتعاون لا التحارب.

ثم لننظر هل أنه يكون لكل إنسان زوج أو زوجة يستريح إلى إلفه، ودار يسكنها، وعمل محترم يختاره ويدرّ عليه معاشه، وحرية معقولة توجب نموه في مختلف الأبعاد؟

وهل لكل إنسان إمكانية التعليم إلى حيث يريد من مراتب العلم الراقية، ومركب يليق به وتكافل اجتماعي لأحوال ضعفه وشيخوخته، وإمكانية العلاج إبان مرضه، وأمن يستريح بسببه عن القلق؟ وهل إرادته محترمة في انتخاب من يشاء من الرؤساء؟.

إلى غير ذلك من سائر شؤونه؟ وهل اكتمال هذه الأمور ينافي الحالة الفردية أو الحالة الاجتماعية؟

إن الجواب سلبي طبعاً.

وعليه فالذي سبب مشكلة الإنسان هو انحراف (التفكير) و(النظام) الذي وضعه العلماء المغرضون والساسة المنحرفون إرضاءً لشهواتهم الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو ما أشبه ذلك.

إذاً فالمشكلة ليست وليدة التدافع بين الفرد والاجتماع، بل هي وليدة التفكير والنظام الفاسد، ولذا نشاهد أنه كلما كان التفكير والنظام أقرب إلى الإستقامة في مجتمع كان المجتمع أقرب إلى السلامة، أما إذا كان التفكير والنظام سليماً مطلقاً كما كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزمان علي عليه الصلاة والسلام، فنرى أنه لم تكن هناك مشكلة ـ وإن كانت هناك مشكلة حروب يشعلها المنحرفون من الكفار، أو المنحرفون من المسلمين، كما حدث القسم الأول في أيام رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والقسم الثاني في أيام علي عليه الصلاة والسلام ـ.

نعم لا شك أن مشاكل الأمم تختلف زيادة ونقيصة، فمشاكل البلاد التي لا تعيش تحت الاستعمار ولا تحت الأنظمة الدكتاتورية البحتة أقل من مشاكل البلاد التي يسيطر عليها المستعمرون، ولذا نشاهد أن مشاكل الغرب أقل من مشاكل العالم الثالث والعالم الشيوعي، حيث إن هذين العالمين تغمرهما المشاكل التي لا قبل للبشرية بها.

ثم إنه يمكن أن يوجّه إلى القائلين بالتناقض بين الفرد والاجتماع السؤال التالي: هل الاجتماع في ضرر الفرد، أو في نفعه؟

لا شك أن الاجتماع في نفع الفرد، ولكن نظرية التناقض تعطي عكس ذلك، نعم لا ريب في أن نشاط الفرد يحدّ في الاجتماع بقدر استفادته من الاجتماع، وهذا غير أن يكون الاجتماع ضاراً للفرد لحصول التناقض بين الفرد والاجتماع.

وعلى كل حال، فليست الكلية في أحد الجانبين ـ سواء جانب الفرد إلى الاجتماع أو جانب الاجتماع إلى الفرد ـ.

 

1 ـ وسائل الشيعة: ج11 ، ص296.

2 ـ نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص45، دار المعرفة ـ بيروت.

3 ـ وسائل الشيعة: ج18، ص13، دالر إحياء التراث العربي ـ بيروت.

4 ـ نفس المصدر ص14.

5 ـ نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج1، ص157، دار المعرفة ـ بيروت.