الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 السياسة والدولة

الصفحة الرئيسية

 

الخلاّقية والجذور الأربعة

ثم إن الإنسان ينقسم ـ بملاحظة الجذور- إلى أربعة أصناف فله جذور في الطبيعة توجب ارتباطه بها بنوع من الإرتباط،وان لم يكن كارتباط النبات الشديد وارتباط الحيوان المتوسط، بل إرتباط من حيث الاحتياج في الغذاء والكساء والمسكن وما أشبه.

وله جذور بالأبوين توجب ارتباطه بهما، وله جذور في الاجتماع الصغير وهي العائلة.

وله جذور في الاجتماع الكبير وهو المجتمع الذي يعيش الإنسان فيه.

والخلاقية الإنسانية التي ذكرناها- سواء في الهدم أو في البناء- ترتبط ارتباطاً كبيراً بهذه الجذور، فالإنسان الذي يعيش بين أبوين خلاقين يكون مثلهما غالباً، وكذلك إذا كان الأبوان هادمين، ولذا ورد في الحديث: (الولد سر أبيه) وكذلك بالنسبة إلى الاجتماع الصغير، والاجتماع الكبير.

بل والخلاقية ترتبط ارتباطاً ما بالطبيعة أيضاً فبعض الطبائع التي يعيش الإنسان فيها تنفخ في الإنسان خلاقية الهدم، وبعض الطبائع تنفخ فيه خلاقية البناء على مختلف مراتبهما، مثلاً: البلاد الحارة تخلق الطبيعة الحادة في الهدم أو في البناء، بينما البلاد الباردة بالعكس من ذلك كما قرر في علم الاجتماع وعلم النفس.

الأرضية الصالحة لنموّ الخلاّقية

والخلاقية غالباً إن وجدت التشجيع والعناية والأرضية الصالحة نمت من غير فرق بين الهدم والبناء، وان لم تجد التشجيع والعناية والأرضية الصالحة لم تنمُ.

نعم في بعض الأفراد- وهم قلائل- تنمو الخلاقية سواء وجد التشجيع والعناية أم لا، كما أنه في بعض الأفراد لا ينفع التشجيع والعناية والأرضية، وقد ورد في الحديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، أنه قال: (لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة)(1).

وذلك واضح، لان الخلاقية الموجودة في مثل الإمام (عليه السلام) خلاقية طبيعية وأصيلة، فلا يؤثر التشجيع وعدم التشجيع في الزيادة والنقيصة فيها.

آثار الجذور الأربعة

وعلى أي حال، فلكل واحد من جذور الإنسان ـ في الطبيعة أو في الأبوين أو في الاجتماع الصغير أو في الاجتماع الكبير- خصوصيات وآثار، ولنكتفي بمثال واحد في المقام، وهو جذور الإنسان في الأبوين، فالأب حيث لا يلد ولادة كولادة الأم، وحيث أنه مشرف وقوام كما في الآية الكريمة: (الرجال قوامون على النساء) (النساء: 34).

لذلك فإن جذور الإنسان بالنسبة إلى أبيه جذور قانونية، وهذه الجذور القانونية تقتضي:

أولاً: ولاية الأب.

وثانياً: لا يكون الولد والبنت متساويين من جهة الإرث.

حيث يلاحظ القانون، والقانون يرجّح الذكر على الأنثى، لأن التكاليف على الذكر.

وثالثاً: لوازم الحياة العائلية من المأكل والمشرب والمسكن وما أشبه، سواء للأم أو للولد على الأب، كما قال سبحانه: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) (البقرة: 233).

ورابعاً: تكون الدية على أقرباء الأب في الخطأ مما يسمى بـ(العاقلة) في الشريعة الإسلامية.

أما الأم فحيث إنها تحمل وتلد ولادة صعبة وترضع وتكون الجذور بالنسبة إليها جذوراً عاطفية، والجذور العاطفية تقتضي:

أولاً: عدم الولاية لها لأن الولاية تقتضي نوعاً من الخشونة، والخشونة لا تناسب العاطفية.

وثانياً: يكون برها مؤكّد، حيث ورد: أن رجلاً سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك.

ثم قال له ثانياً: من أبر؟ قال: أمك.

ثم قال له ثالثاً: من أبر؟ قال: أمك.

ثم قال له رابعا: من أبر؟ قال: أباك.

وثالثاً: يكون الإرث متساوياً لتساوي العاطفة بين الابن والبنت، ولذا يكون الإرث متساوياً في الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى من يرتبط بالأم كالخال والخالة ومن أشبه.

رابعاً: لوازم الحياة ليست عليها.

خامساً: العاقلة ليست من طرفها.

وما ذكرناه إنما هو من الناحية القانونية، والقانون لا يلاحظ العلل وإنما الحِكَم (على الاصطلاح الأصولي) حيث لا يلزم (الاطراد) و(الانعكاس) في (الحكمة) وإنما تلاحظ الأغلبية، بينما يلاحظ في (العلة) كل فرد فرد، فإن ضرب القانون يجب أن يكون على نحو العموم وإلا لزم الانفراط في القانون،فحيث تكون الحكمة العامة يكون القانون، وإذا خرج من الحكمة إيجاباً أو سلباً فرد أو أفراد، فإن القانون يجري عليه، مثلا: قانون (التأشيرة) عند الخروج عن البلد في العالم الغربي إنما وضع لأجل التنسيق العام والإحصاء وعدم التهريب وما أشبه، لكن هذا القانون يشمل رئيس الدولة أيضاً إذا أراد الخروج، فإن اللازم عليه أن يحصل على التأشيرة، مع العلم بأن تلك الحِكم غير موجودة في رئيس الدولة مثلاً، وإنما يشمله القانون لأنه يجب أن يكون عاماً فلا ينخرم حتى لا يتمكن أحد من خرق القانون بدعوى أنه خارج عن العلة التي وضع القانون بسببها.

وقد روي أن رجلاً قال لعلي عليه الصلاة والسلام: (هل يتنجس بدن رسول الله بالموت كما يتنجس بدن سائر الناس؟ فقال علي (عليه الصلاة والسلام): لا. فقال له الرجل: فلماذا غسلتموه؟ فأجاب علي (عليه الصلاة والسلام): (لجريان السنة).

والمراد بـ(جريان السنّة) في هذا الحديث هو أن القانون إذا ضرب ووضع يلزم أن يشمل الكل، سواء كانت تلك الحكمة التي وضع القانون من أجلها موجودة في هذا الفرد الخاص أولا.

الطفل بين عقلانية الأب وعاطفية الأم

وكيف كان: فمن عقلانية الأب وقيمومته، وعاطفية الأم ورحمتها تنشأ في الإنسان هاتان الصفتان صفة (الآمرية والزاجرية) وصفة (العطف والحنان)، فالأب يقول للأولاد: يجب أن تعملوا هذا العمل ويجب أن تتركوا ذاك، وإذا خالفتم حقّ عليكم العقاب، أما الأم فإنها تعطف على أبنائها أطاعوا أو عصوا ـ وإن لم تكن بعض الأمهات كذلك، كما أن بعض الآباء لا يمتلكون الحزم والصرامة فإن الأم قد تستأسد، والأب قد ينقلب إلى حمل وديع! إلا أن الشواذ لا توجب انخراقاً للقانون.

لماذا تتبدل أحوال المرأة؟

ثم إن تبدل أحوال الأم العاطفية تابع لتبدل قسم من الإفرازات الغددية التي قررها الله سبحانه وتعالى في الأم لأجل عدم انسياق حياة الأم العاطفية مما يوجب خللاً وخبالاً في الحياة، فقد ثبت في العلم الحديث: أن المرأة ـ بالإضافة إلى تغيّر حالاتها النفسية والبدنية أثناء الحمل والحيض كما ألمع إليهما القرآن الحكيم- تطرأ عليها تغيرات بسبب الإفرازات التي تفرزها الغدد مرتين في كل شهر، فإنه تفرز في كل شهر هرمونات تسمى بـ(هرمونات الأمومة) وتبقى فاعليتها لمدة أربعة عشر يوماً أو خمسة عشر يوماً وتصل إلى ذروتها في الأيام الأخيرة حيث نرى المرأة تعامل الجميع كأنهم أولادها الصغار وتكلأهم بحنانها وعطفها، ثم بعد ذلك تنقلب نفس المرأة إلى امرأة أخرى، حيث تفرز الغدد هرمونات الأنوثة فترة شبيهة بفترة هرمونات الأمومة السابقة وعندما تصل هرمونات الأمومة ذروتها ينقلب البيت جحيماً لا يطاق، إذ تعمل الغيرة النسائية عملها وتعكر الجو العائلي، وكثيرا ما يأخذ العجب الرجال والأولاد من أن تلك الأم الوديعة والزوجة الحنونة كيف انقلبت هكذا شرسة شديدة الحساسية والانفعال والتهجم؟! بينما الغالب يغفلون عن حقيقة أن تغير الحالات المزاجية تابع لتغير إفراز الهرمونات الداخلية مما قد جعله الله سبحانه وتعالى لأجل عدم إنسياق جو عاطفي عام حتى يفسد الأمر عليها وعلى العائلة، فالإنسان محتاج إلى يدين: يد الشدة، ويد اللين، وهذه الحالة موجودة في ذات المرأة أيضاً على تفصيل مذكور في الكتب المعنية بهذا الشأن.

فوارق بين الرجل والمرأة

وعلى أي حال، فجذور الإنسان إلى أبيه وأمه تولّد له حالة وجدانية متوسطة بين (الوجدان الأصولي) و(الوجدان العاطفي) حيث إن كلاً منهما ضروري في الحياة، لكن هذين الوجدانين في داخل الرجل يختلف عنهما في داخل المرأة، حيث إنه في داخل الرجل يترجح الوجــدان الذكوري، بينما في داخل المرأة يترجح الوجدان الانثوي، ولذ نجد عند الآبــاء أيضاً بعض العاطفة، كما نجد عند الأمهات أيضاً بعض القوانين والضوابط.

أعمال لا تنسجم مع طبيعة المرأة

وتبعاً لوجدان الأم العاطفي لم يجعل الإسلام للمرأة منصب (القضاء) و(الامارة) و(الولاية) ونحوها، بينما جعل هذه المناصب للرجل، وقد اثبتت المرأة بنفسها عدم انسجامها مع هذه المناصب، ولذا نشاهد في عالم اليوم أن المرأة لم تخترق حواجز الرئاسات والوزارات والامارات ودور القضاء وما أشبه ـ إلاّ نادراً ـ مع أن غالب البلاد رفضت قوانين السماء وقررت التساوي بين الرجل والمرأة في كل الشؤون وليس السبب: أن هناك حائلاً قانونياً يحول دون تسلم المرأة تلك المناصب، وإنما الحائل نفسي طبيعي مودع في داخل المرأة، فإنها غير منسجمة مع مثل هذه الأعمال، كالسيارة الصغيرة التي هي كاملة في حد ذاتها لكنها لا تطيق حمل الحديد والإسمنت وما أشبه، بينما السيارة الكبيرة تطيق ذلك علماً بأنها ليست صالحة لنقل المسافرين، لا من جهة نفسها، وإنما من جهة المسافرين حيث أن ركوبها يسبب لهم عطباً ورضوضاً وصعوبات، فكل واحدة من السيارتين كاملة في جهاتها لكن كمال هذه يلائم نقل المسافرين، وكمال تلك يلائم حمل الحديد وما أشبه.

الجذور الروحية في الإنسان

ثم أن هناك في الإنسان جذوراً من قسم آخر تابعة للروح، حيث قال سبحانه: (ونفخت فيه من روحي) (الحجر: 29).

وتبعاً لهذه الجذور كان الإنسان أفضل من الملائكة، ولذلك أيضاً أمر الله سبحانه الملائكة بالسجود لآدم وبهذه الجذور السماوية يميل الإنسان إلى فوق، وقد قال سبحانه في صفة من مال إلى الأرض وترك جذوره السماوية: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) (الأعراف: 176).

طبيعة الأرض، وطبيعة السماء

ثم إن طبيعة الأرض طبيعة الكلاب المتهارشة، لأن المادة محدودة، والمحدود يتنازع عليه الناس، بينما الروح لها آفاق واسعة جداً، ولا تنازع في الآفاق الواسعة.

وقد ورد في الدعاء بهذا الصدد الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى والشكاية إليه (من دنيا قد استكلبتني) ـ يعني: أن الدنيا تجعل الإنسان كالكب ـ.

وفي حديث آخر: (الدنيا جيفة وطلابها كلاب).

فكما أن الكلاب تتشاجر على الجيفة، فكذلك من تثاقل إلى الأرض وقطع علاقته بالسماء، أما الطبيعة فهي طبيعة السماء: الوحدة والصفاء والخير والوئام والانسجام، ولذا ورد في الحديث: (تخلقوا بأخلاق الله)(2).

فإن التخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى يجعل الدنيا دنيا صفاء وسلامٍ ووئام، بالاضافة إلى الآخرة التي يحرزها الإنسان بسبب هذا التخلق وهي الجنة: (عرضها السماوات والأرض) (آل عمران: 133).

فلا ضيق ولا ضنك ولا تنازع، وبهذا الصدد يقول أحد فلاسفة الشعراء:

(أرواح الخنازير والكلاب متفرقة، أما أرواح الأسود المرتبطة بالله فهي متحدة).

وفي القرآن الكريم نجد التمثيل لهذه الجذور الصاعدة ولتلك الجذور الهابطة حيث يقول الله سبحانه: (كلا إنّ كتاب الأبرار لفي علّيّين وما أدراك ما علّيون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم، عيناً يشرب بها المقربون) (المطففين: 18-28).

فالأبرار الــذين يبّر بعضهم بعضاً ويرتبطون بالسماء كتابهم في عليين، وهو مكان يشهد فيه المقربون من الله سبحانه وتعالى.

ويقول سبحانه بالنسبة إلى من قطع جذوره بالسماء: (كلا إن كتاب الفجار لفي سجّين وما أدراك ما سجين كتاب مرقوم) (المطففين 7: 8).

وهنا ليس مقربون يشهدون الكتاب، لأن الكتاب لا يذهب إلى المقربين، وإنما يذهب إلى الأسفل.

وفي وصف أصحاب الجنة يقول الله تعالى: (إلا قيلاً سلاماً سلامًا) (الواقعة: 26).

فهنا سلام وصفاء.

(وآخر دعواهم أن الحمد لله ربّ العالمين) (يونس: 10).

فالارتباط هنا بالله وحمده.

يقول سبحانه وتعالى في وصف أصحاب النار: (إن ذلك لحق تخاصم أهل النار) (ص: 64).

فأهل النار يتخاصمون، فكما كانوا في الدنيا متخاصمين كذلك هم في الآخرة، لأن الآخرة هي آخر مطاف الدنيا، فالدنيا إذا كانت صفاءً ووئاماً وسلاماً انتهى كل ذلك إلى الآخرة الرفيعة، والعكس بالعكس، وكلما قويت هذه الجذور النابعة من الروح ساد الوئام والصفاء.

أما إذا قويت جذور الجسم- بكل أقسامها الأربعة التي ذكرناها ـ قوي التشاجر والتخاصم.

هكذا يصنع الأنبياء (عليهم السلام)

ولذا نشاهد أن الأنبياء عليهم السلام يؤيد بعضهم بعضا، بخلاف الملوك المرتبطي بالدنيا، قال الله سبحانه وتعالى في وصف الأنبياء (عليه السلام): (وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) (البقرة: 135).

حيث إن اليهود والنصارى فرقوا دينهم ولم يكونوا على ملة إبراهيم (عليه السلام)، ولذا يقول الله تعالى عقيب هذه الآية: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون قل أتحاجّوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى قل ءأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافلٍ عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون) (البقرة: 136-141).

فالأنبياء أخوة من أمهات شتى- كما قاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - وإنما ذكر الأمهات دون الآباء احتراماً لعيسى المسيح عليه الصلاة والسلام، حيث لم يكن له أب، والوحدة بينهم هي صبغة الله.

(ومن أحسن من الله صبغة) (البقرة: 138).

فإن الصبغة في قبال صبغة الله هي صبغة التفرق، وعلى هذا فإن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام لم يكونوا يهوداً ولم يكونوا نصارى، وإنما كانوا على صبغة الله، صبغة الوحدة والإخلاص والواقعية.

وعلى أي حال: تلك أمة قد ذهبت ومضت وأما أنتم أيها البشر المعاصرون فإنكم مكلّفون بأن تهتدوا بنحو تلك الهداية من الوحدة والصفاء والوئام.

.. وهكذا يصنع الملوك

أما بالنسبة إلى الملوك التابعين لجذور الأرض القاطعين لجذور السماء فيقول الله تعالى: (إن الملوك إذا دخلوا قريةً أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلةً وكذلك يفعلون) (النمل: 34).

والملوك لا يحارب بعضهم بعضاً فحسب، ولا يسببون الانشقاق في الخارج فحسب، وإنما يسري ذلك إلى الداخل، يقول الله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائـــفةً منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم) (القصص: 4).

منطق التجزئة، ومنطق التوحيد

وهاتان طبيعتان في الإنسان: (طبيعة التجزئة) و(طبيعة التوحيد) فطبيعة التوحيد تقول (جاري مثلي) و(الشارع الثاني مثل هذا الشارع الذي أنا فيه) و(المدينة الأخرى مثل المدينة التي أنا أسكنها) و(القطر الذي أنا فيه كالقطر الذي لست فيه) وكذلك يوحد.. ويوحد.. ويوحد..

بينما التجزئة تقول: (قطري خير من قطر غيري) و(بلدي خير من بلد آخر في قطري) و(شارعي خير من الشارع الآخر الذي ليست فيه) و(سكتي في هذا الشارع خير من السكة الأخرى) ثم (داري خير من دار جاري) و(أنا خير من غيري) وهكذا تنتهي التجزئة إلى الفردية، بينما تنتهي الوحدة إلى وئام كل العالم.

الإنسان بين التأثير الأرضي وتأثير السماء

أثر الانقطاع عن السماء

وما نشاهده في عالم اليوم من الحروب والدمار والمنازعات والمهاترات وما أشبه ليست إلا وليدة قطع جذور السماء والارتباط بجذور الأرض، كما قال الله سبحانه: ( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) (التوبة: 38).

فالارتباط بالأرض إرتباط بالحياة الدنيا والارتباط بالسماء ارتباط بالآخرة، والبشر حيث خرج عن مظلة الأنبياء وقع في هذا التخاصم والتناحر، والله يبين هذه الحقيقة، حيث يقول: (فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) (المائدة: 14).

فإن قطعهم جذورهم السماوية سبب أن يكون بينهم العداء والبغضاء إلى يوم القيامة.

وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: (وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً) (الكهف: 4).

فإن القول باتخاذ الله ولداً معناه الانقطاع عن جذور السماء، والخلود إلى جذور الأرض، والخلود إلى جذور الارض ـ باتباع الهوى وعدم اتباع هداية السماء ـ يسبب هذه التفرقة، ولذا يقول الله تعالى في فردٍ منحرف: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) (الأعراف: 176)، كما تقدم.

النفس.. هي المنبع

وإذا لاحظنا الإنسان نرى أن الأمور المرتبطة به خمسة: النفس، والجسد، والتاريخ، والمحيط الاجتماعي، والمحيط الطبيعي.

والنفس هي مبعث فساد الكل، أو صلاح الكل، فهي إن ارتفعت عن جذورها المادية صلح الكل، وإن انحطت إلى جذورها المادية وقطعت جذورها الفوقية فسد الكل.

فالإنسان الفاسد النفس تكون نفسه بؤرة للحقد والحسد والتفرقة والنفاق والبغضاء والشحناء وما إلى ذلك.

النفس والجسد

كما أن الإنسان الفاسد النفس يكون جسده معرضاً للآلام والمصائب سواء من داخله أو من خارجه، أما من داخله فإن النفس إذا صارت عليلة أثرت على البدن، لأن كلاً من النفس والبدن يتفاعل مع الآخر، فالجسم إذا مرض مرضت النفس، والنفس إذا مرضت مرض الجسم، ولذا نرى أن الخائف يصفرّ لونه حيث تؤثر نفسه في جسمه، كما نرى أن المضروب على جسمه كئيب النفس حيث يؤثر جسمه في نفسه.

النفس والتاريخ

وبالنسبة إلى ثالث الأمور وهو التاريخ، فالإنسان قد يفسد التاريخ، وقد يصلح التاريخ، مثلاً: فرعون أفسد التاريخ، أما موسى عليه الصلاة والسلام فقد أصلح التاريخ، لأن التاريخ عبارة عن الناس الذين يعيشون في قطعة من الزمان عيشاً حسناً أو عيشاً سيئاً.

النفس والمحيط الطبيعي

والمحيط الطبيعي أيضاً تابع للإنسان، فيمكن للإنسان أن يصلح المحيط الطبيعي فيعمر الأرض ويجري الأنهار إلى غير ذلك، كما أنه يتمكن أن يفسد المحيط الطبيعي.

النفس والمحيط الاجتماعي

والمحيط الاجتماعي أيضاً تابع للإنسان، لأن المحيط الاجتماعي إنما يتكون من لبنات انسانية، فإن صلحت تلك اللبنات صلح المحيط الاجتماعي والعكس بالعكس، ولذا نرى أن المجتمع الصالح هو المجتمع الذي صلح أفراده فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (خير القرون قرني)(3).

وذلك لأن الصحابة كانوا على الأغلب أناساً صالحين، صحيح أنه كان فيهم المنافق، لكن المنافق كان شاذاً، والشاذ لا يتمكن من صبغ الاجتماع بصبغته، وإنما الذي يتمكن من صبغ الاجتماع بصبغته هم الأكثرية بصورة مطلقة.

أما إذا كانت اللبنات الإنسانية فاسدة فيكون المحيط فاسداً.

المحيط الاجتماعي يحدد طبيعة الحكم

ومن المحيط ـ فاسداً كان أو صالحاً ـ تنشأ الحكومات أيضاً، ففساد أو صلاح الحكومات نابع من صلاح أو فساد المحيطات، ولذا ورد في الحديث، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (كيفما تكونوا يولى عليكم)(4).

إذ من الطبيعي أن المحيط الصالح ينشئ الأفراد الصالحين الذين يصلون إلى الحكم، والمحيط الفاسد ينشئ الأفراد الفاسدين الذين يصلون إلى الحكم.

فالحكم أيضاً أمر سادس في هذا السُلّم: سُلّم النفس، والبدن، والتاريخ، والمحيط الاجتماعي، والمحيط الطبيعي، وهو جزء من المحيط الاجتماعي، فبصلاح المحيط الاجتماعي التابع لصلاح النفس يصلح الحكم، وبفساده يفسد الحكم.

نتائج الخلود إلى الأرض والارتباط بالسماء

ثم إن من يقطع جذوره بالسماء ليخلد إلى الأرض، ومن يقطع جذوره من الأرض ليطمأن إلى السماء يتلقى كل واحد منهما ـ فرداً أو جماعةً أو أمةً ـ جزاءه الطبيعي المناسب له، فإن هنالك خمسة أنواع من الجزاء يتلقاها الإنسان ـ فردا أو اجتماعا -: الجزاء الشخصي، والجزاء التاريخي، والجزاء البرزخي، والجزاء المحشري، والجزاء بالجنة أو النار.

فالجزاء الشخصي هو أن الإنسان المحسن يُحسن اليه، والإنسان المسيء يساء إليه، فمن أهان الناس أهين، ومن إحترم الناس احترم.

يقول الشاعر:

ومن هاب الـــرجـــــــال تهيبــــوه          ومن وهــن الرجــــــل فلن يهابا

فهذا هو جزاء الإنسان الشخصي الذي يتلقاه، إن خيراً فخير، وان شراً فشر.

وفي الشعر المعروف:

لا يجتني الجاني من الشوك العنب          ولا من الحنظل يجتـــنى الرطــــب

وكذلك الإنسان هو الذي يصنع تاريخه، إن تاريخ رحمة وخير أو تاريخ لعنة وشر.

والبرزخ ـ وهو الفاصل بين الدنيا والآخرة ـ والمحشر ـ وهو محل الحساب ـ والنار أوالجنة - وهو المحطة الأخيرة للإنسان ـ أيضاً تابعة للإنسان نفسه، والجزاء الأوفى يكـــون في الآخرة، ولذا قال الله سبحانه وتعالى: (ثم يُجزاهُ الجزاء الأوفى) (النجم: 41).

لأن الدنيا قطعة صغيرة، والبرزخ والمحشر أيضاً قطعتان صغيرتان بالنسبة إلى المحطة الأخيرة، أي النعيم أو الجحيم.

ولذا نشاهد في التاريخ أن ما من مسيء إلا وقد أسيء إليه على الأغلب، ولا محسن إلا وقد أحسن إليه على الأغلب.

نعم: كان هنالك شواذ من الجانبين، لكن ذلك لقانون ثانوي أهم من القانون الأول، حيث إن الأهم يقدّم على المهم، مثلا: نشاهد ابن زياد والإمام الحسين عليه الصلاة والسلام، فابن زياد قتل شر قتلة شخصياً، ولُعن شرّ لعنة تاريخياً من يومه إلى هذا اليوم، أما الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام فله تاريخ مشرق جميل.

وربما يقال: فلماذا قتل الإمام الحسين؟ فهل جوزي الحسين بإحسانه أم قُتل؟ أليس هذا نقيضاً للقاعدة المذكورة؟

والجواب: إن الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام اختار القتل بنفسه ولذا كان يفرّق الناس من حوله ويقول لهم: (وهذا الليل قد غشيكم فاتخذه جملاً وتفرقوا في سواده فإن القوم إنما يطلبونني)(5).

فهل رأيتم من يريد البقاء والحياة أنه يفرق الناس من حوله؟

إن الإمام الحسين (عليه السلام) بنفسه أراد أن يقتل تبعا لإرادة الله سبحانه وتعالى، لأمر أهم، حيث ورد في الحديث: (إن الله شاء أن يراك قتيلاً، وشاء أن يرى أهلك سبايا)(6).

فالحسين (عليه السلام) إختار عمله الصعب لأجل أن ينقذ، ولأجل أن يكون أسوة، (فالجيش الذي يختار العمل الصعب في ميادين الحرب هو إختار ما إختار لأجل الإنقاذ ولأجل أن يكون أسوة).

فهل يقال إن الجيش أسيء إليه؟ إن مثال هذا هو مثال الطبيب والمهندس والفقيه والخطيب الذين يختارون العمل الصعب بالدراسة والسهر وحرمان النفس عن الملذات لأجل علو المنزلة أو لأجل إنقاذ الناس من مشاكل الحياة.. أو لغير ذلك.

وعليه فليست الجذور التي ذكرناها ـ السماوية والأرضية ـ مجرد طائفتين من الجذور، وإنما لكل طائفة آثارها الحسنة أو آثارها السيئة على الإنسان نفسه: شخصا وتاريخا وبرزخا ومحشرا وجنة أونارا.

ولا تنس نصيبك من الدنيا

ولا يتوهم من الكلام السابق أن الجذور الأرضية يجب قطعها قطعا كاملا، فإن الجذور الأرضية يحتاج إليها في حدودها، وإنما الكلام في عدم تحكيم الجذور الأرضية وقطع الجذور السماوية فكل جذر من الجذرين يجب ملاحظته في حدوده المقررة له، فالجذور الارضية هي لإعطاء حاجات الجسد ولإنماء الروح كالأرض التي تنمي الإنسان والنبات والحيوان.

أما الجذور السماوية فهي للأخوة والصفاء والرقيّ وعدم الامتيازات المكذوبة من اللون واللغة والقطر والقوم وما أشبه، وإنما الامتياز يكون بالكفاءات فقط، والكفاءات لا توجب الامتياز المجحف بالآخرين وإنما يتم الأمر في حدود الكفاءة، فالطبيب له مكانه، والعامل له مكانه، وليس معنى تقدّم الطبيب بسبب الكفاءة أنه يجحف على العامل، كما أنه ليس معنى كون العامل غير ذي كفاءة أنه يجحف على الطبيب بالثورة عليه، كما نشاهد التناقض في هذه الناحية بين الشرق والغرب، ففي الغرب تطغى الكفاءات على العمال والفلاحين ومن أشبه، وفي الشرق طغى العمال والفلاحون على الكفاءات في أول ثورة الشيوعيين، وإن أخذت الكفاءات الحكومية المنحرفة أيضاً امتيازات ضد العمال والفلاحين بعد مرور برهة من الزمن.

لماذا التفاوت بين الأفراد؟

ومن هنا يأتي سؤال فلسفي هو: لماذا خلق الله الكفاءات المختلفة، فهذا أكثر استعدادا وذاك أكثر بنية، والثالث أكثر فطنة وذكاءً وهلمّ جرا.. ألم يكن من الأفضل أن يخلق الله سبحانه وتعالى الأشياء متساوية حتى لا تكون هذه الامتيازات الكفائية أيضاً؟

والجواب: إنما خلق اله الكفاءات المختلفة لأمرين نشعر بهما نحن ـ ولعل هناك أموراً أخر أيضاً -:

أولا: لانه جمال الكون، فالجمال إنما هو بالتنوع لا باللون الواحد، فالحديقة ذات الأزهار الحمراء أو الصفراء أو البيضاء أو الزرقاء فقط لا ترضي الشعور الجمالي للإنسان بقدر ما ترضيها حديقة ذات أزهار مختلفة، وألوان متنوعة، وعطور مختلفة، فإن الأولى لوحظ فيها التساوي، لكن لم يلاحظ فيها الجمال، فإن الجمال بالكبر والصــغر، والألوان المختلفة والأحجام المتباينة، والروائح المتنوعة.

ثانيا: لأن كل شيء ـ مما يعبّر عنه في لسان الفلسفة بـ(المهية) ـ يطلب الوجود بلسان الحال، ومن جود الفياض المطلق أن يفيض الوجود على كل ما يتطلب الفيض، فيما لم يكن هنالك محذور يصادم ذلك، فطلب الوجود من (المهيات) يقتضي إعطاء كل مهية حقها، ومثل ذلك: أفراد يأتون إلى ساقي الماء، وكل يطلب الماء، لكن هذا إناءه صغير، وذلك إناءه كبير وثالث إناءه مربع ورابع إناءه مدور وخامس إناءه مستطيل إلى غير ذلك من الاختلافات، فالمهيات ـ بلسان الحال ـ تطلب من الله سبحانه وتعالى إفاضة الجود، والله يفيض الجود على الجميع لأنه الجواد الكريم كما ألمع إليه في الآية الكريمة: ( أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها) (الرعد: 17).

فالأودية تحتمل كل واحدة منها بقدرها من الماء النازل من السماء، وهكذا حال ماء الوجود المفاض على المهيات المختلفة التي هي مثل أودية الماء المختلفة.

وعليه، فهل من الصحيح عدم إعطاء كل ذي حق حقه؟ أو عدم التنويع الموجب للجمال؟

الله سبحانه لا يخلق الشر

وقد ذكرنا في كتاب (الأصول) أنه حتى ما نجده سيئا فإن له نوعا من الجمال، مثلا: كل من العقرب والحية وما أشبه له نوع من الجمال، أما الإنسان الشرير، فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلقه شريرا، وإنما يخلق الله الجيد في كل شيء، منتهى الأمر أنه يخلق الجيد والأجود، وإنما الإنسان بنفسه يحوّل الطيّب سيئا، ويبدل النعمة كفرا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة)(7).

ويقول القرآن الحكيم بصدد من يبدل الخير شرا: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار) (إبراهيم: 28).

فالنعمة بما هي نعمة قد تبدّل بالنقمة والكفر، كالذي يصنع من الرطب الطيب خمرة خبيثة وسيئة.

وقد ذكر قسم من الفلاسفة: إن الوجوه المتصورة في الخلقة خمسة، والله سبحانه يخلق منها اثنين لوجود المحذور في الثلاثة الأخر، لأن الشيء إما خير محض، وإما شر محض، وإما متساوي الخير والشر، وإما خيره أكثر من شره، وإما شره أكثر من خيره، والله سبحانه وتعالى إنما يخلق (ما هو خير محض) و(وما خيره اكثر من شره) أما الأقسام الثلاثة الأخر ـ من (متساوي الأمرين) و(ما شره أكثر) و(ما هو شر محض) ـ فإن الله سبحانه وتعالى وإن كان قادرا على خلقها، لكن الحكمة مانعة عن خلق مثل ذلك، فإن من صفات الله سبحانه وتعالى صفة (الحكمة) الموجبة لصد سائر الصفات عن الفيضان(8).

مثلا: الله سبحانه وتعالى مُعطي ورزاق وخالق وما أشبه، فإذا لم تكن (الحكمة) آخذة بأزمة تلك الصفات لكانت كل تلك الصفات (على فرض المحال) تتجاوز حدودها، مثلا يخلق الله عوض مليار من المجرات مليارات مليارات من المجرات إلى غيرها من الأمثلة.

لا.. للتطرف في حب الجذور الأرضية

.. وعلى هذا، فكل طغيان في محبة الجذور الأرضية ممنوع، لأنه يسبب:

أولا: الفساد والتمايز.

وثانيا: الجمود والسكون وعدم تقدم الحياة، فإن تقدم الحياة إنما هو بالكفاءات، والطغيان في محبة الأرض والجذور الارضية يوجب عدم ظهور الكفاءات، ولذا قال سبحانه: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تَخشَون كسادها ومساكن تَرضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) (التوبة: 24).

إن محبة هذه الأمور زائدا عن المتعارف هو فسق وخروج عن الاعتدال، والله لا يهدي الذين يخرجون عن الاعتدال عن علم وعمد، فانه سبحانه وتعالى إنما يهدي من يريد الاعتدال، ويسلك الطريق المستقيم لا من يسلك الطريق المنحرف، وقد قال علي عليه الصلاة والسلام في شعر منسوب إليه:

تفــــرج هـــم واكتساب معيشة          وعقل وآداب وصحبة مــاجـــــد

فإن قيل في الأسفار ذل ومحنة          وقطع الفيافي وارتكاب شدائـــد

فموت الفتى خير له من قيامــه          بدار هوان بين واش وحــــاســـد

إن الخلود إلى الأرض ـ سواء الخلود إلى بلد واحد من غير سبب أو الخلود إلى الأرض باعتبار الجذور القومية والجغرافية وما أشبه ـ مانع عن تقدم الإنسان وتعاليه ورقيّه، ولذا قرر في الإسلام (الهجرة) أما من لم يكن يحب الهجرة لمشكلاتها فقد قال الله في شأنه: (فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض) (المائدة: 26).

فالإنسان الذي يخلد إلى الأرض ولا يحب التقدم والرقي والموازين الإنسانية يبقى يتيه في الأرض حتى ينقلع عن تلك الجذور المنحرفة، وقد ذكر بعض المفسرين أن مدة تبدل الأمم من حالة إلى حالة هي أربعون سنة، حيث يذهب القوم السابقون في ظرف يقارب عشرين سنة، وينمو القوم الذين بعدهم خلال عشرين سنة، وتكون النتيجة (أربعين سنة).

وعلى كل حال، فالجذور الأرضية واجبة بقدر، وباقي الطاقات والقدرات يجب أن تصرف إلى الجذور السماوية، ولذا قال سبحانه: (وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا) (القصص: 77).

فللدنيا والجذور الأرضية نصيب ما، واللازم على الإنسان أن يصرف طاقاته في الجذور السماوية.

وهذا الامر صعب جدا لأن الإنسان يميل إلى قومه ووطنه وداره وأبويه وما أشبه، ويحب المفاخرة بها، كما كان الجاهليون يفاخرون بذكر آبائهم في منى فنهاهم الله سبحانه وتعالى عن ذلك وقال: (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) (البقرة: 200-202).

حيث نرى في هذه الآية الكريمة أن قسما من الناس يريدون الدنيا والآخرة، لكن إرادتهم للدنيا أضعف من إرادتهم للآخرة، حيث قال سبحانه: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) (البقرة: 201).

فجعل حسنة الدنيا حسنة واحدة، أما ما يرتبط بالآخرة فجعله جزءين: جزءً إيجابيا (حسنة) وجزءا سلبيا (وقنا عذاب النار).

وبعد ذلك قال سبحانه: (أولئك لهم نصيب مما كسبوا) (البقرة: 202).

ثم أردف ذلك بقوله: (والله سريع الحساب) (البقرة: 202).

حيث إن الدنيا تطوى بسرعة، وإنما البقاء للآخرة، والجذور السماوية هي المحكمة في الآخرة الطويلة العريضة، مثلا: الإنسان يعيش في الدنيا خمسين سنة، أما في الآخرة فمليارات من السنوات والى ما شاء الله: (خالدين فيها أبدا) (النساء: 57).

ترويض النفس

والإنسان وإن كان يميل بطبعه إلى مباهج الدنيا والجذور الأرضية، لكن يجب أن يجبر نفسه على الالتصاق بالجذور السماوية.

قال علي عليه الصلاة والسلام: (وإنما هي نفسي أروّضها بالتقوى)(9).

يعني: إن الإنسان يجب عليه أن يروّض نفسه ويربيها، وهذا ما نراه في كل متقدم حسب كفاءاته من فقيه وعالم ومهندس وطبيب وخطيب ومؤلف وما أشبه حيث إنه يجبر نفسه على ذلك الجانب، وهو إن كان ثقيلا وصعبا، لكن النتائج في الدنيا والآخرة مغرية، بخلاف الإنسان إذا أسلس نفسه للجذور الأرضية، ولذا ورد في الحديث: (حفّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)(10).

وفي حديث آخر: (أفضل الأعمال أحمزها)(11).

ـ أي أصعبها ـ فالإنسان إذا أجبر نفسه على الصعاب يكون كالأب الرؤوف الذي يجبر ولده على الذهاب إلى المدرسة والانقطاع عن الأشرار، وليس ذلك إلا لمصلحة نفس الولد ورقيه وارتفاعه، والولد، وان توهم أن الأب يضغط عليه ويجبره بلا مبرر، لكن الواقع أن الضغط والجبر لهما مبررهما الوجيه عند العقل والشرع وسيدركه نفس الولد إذا كبر وعقل.

المقياس هو الكفاءة

ثم إن تساوي الناس ـ إلا من جهة الكفاءات ـ هو الذي جاءت به الأديان. مثلا: صار المسيح عليه الصلاة والسلام بلطف الله أولا وأتعابه ثانيا في عداد خيرة الله، قبال اليهود الأثرياء المستكبرين الذين قالوا: (نحن أبناء الله وأحباؤهُ) (المائدة: 18).

وهكذا لما جاء المسيح جعلت الإنسانية على قدم المساواة، فلا فضل لبعض على الآخر إلا بالتقوى ورجع اليهود إلى الوراء، لكن لم يمض زمان حتى انحرفت المسيحية فصار المسيح أيضاً (ابن الله) وصارت الروحانية المسيحية في صفوف الدولة المستكبرة وشرّعوا قانون: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).

وقد أشير إلى ذلك في القرآن الحكيم في آيات متعددة:

قال سبحانه: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا. لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) (النساء: 171-173).

وقال سبحانه: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه مَن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسَّنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة، كانا يأكلان الطعام أنظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون) (المائدة: 71-75).

ويقول الله سبحانه وتعالى: (وقالت اليهود عُزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) (التوبة: 30-31).

إلى غيرها من الآيات وهكذا نجد أن كل الموازين التي جاء بها المسيح عليه الصلاة والسلام ـ لأجل إرجاع الناس إلى واقعهم الإنساني ـ انقلبت، ولذا جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليردّ الأمور إلى نصابها الواقعي، وجعل المؤمنين أخوة وقد قال الله سبحانه: (إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم) (الحجرات: 10).

ونقرأ في التشهد: (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله).

كما صار الميزان الكفاءة: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (الحجرات: 13).

وحكّمت الاستشارية كما قال تعالى: (وشاورهم في الأمر) (آل عمران: 159).

وقال تعالى: (وأمرهم شورى بينهم) (الشورى: 38).

وأصبح تعيين القيادة ـ الجامعة للشرائط ـ في زمان الغيبة بيد الناس، وسيأتي في هذا الكتاب موضوع الانتخابات من قبل الأمة للقائد الذي يحكم المسلمين.

 

1 ـ نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص62، طبع دارالمعارف، بيروت.

2 ـ بحار الأنوار: ج54، ص129.

3 ـ المبسوط، للسرخسي: ج1، ص3، طبع دارالمعرفة، بيروت.

4 ـ كنز العمال: ج6، ص89، طبع مؤسسة الرسالة.

5 ـ بحار الأنوار: ج40، ص316.

6 ـ بحار الأنوار: ج40، ص364.

7 ـ المراد أنه قابل لهما، لا أنه سبحانه يخلق الشر، ولذا قال (صلى الله عليه وآله): (كمعادن الذهب والفضة).

8 ـ هذا من باب التشبيه وضيق التعبير.

9 ـ نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: ج3، ص71، طبع دارالمعرفة بيروت.

10 ـ المبسوط، للسرخسي: ج30،ص254، طبع دارالمعرفة، بيروت.

11 ـ بحار الأنوار: ج63، ص191.