الفهرس

فهرس الفصل الأول

المؤلفات

 السياسة والدولة

الصفحة الرئيسية

 

كيف تعرف الأشياء؟

هناك قاعدتان مشهورتان في الفلسفة:

القاعدة الأولى تقول: (تعرف الأشياء بأمثالها).

والقاعدة الثانية تقول: (تعرف الأشياء بأضدادها).

وكلتا القاعدتين صحيحتان، فإن الإنسان لا يعرف خصوصيات النهار إلا إذا جاء الليل، ولو كان النهار مستمراً لم يعرف الإنسان حقيقة النهار، والعكس صحيح أيضاً، كما أن الإنسان لا يعرف حقيقة العطش إلا بعد معرفة حقيقة الارتواء، وبالعكس، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن هنا قيل في قاعدة أخرى: (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد) فالأمور المتماثلة كلها تجوز عليها أشياء معينة، كما لا تجوز عليها أشياء معينة، فالأبيض والأبيض كلاهما يفرّق نور البصر وكلاهما لا يقبض نور البصر، كما أن الأسود والأسود كلاهما يقبض نور البصر وكلاهما لا يفرق نور البصر، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن هنا.. فإنا إذا أردنا أن نعرف عاقلاً فقد نعرفه بالقياس إلى عاقل آخر، فكلاهما موزون الحركات، وكلاهما لا تبدو عليه ملامح الاضطراب والفوضى في الكلام والسكون والحركة والأكل والشرب والمشي وغير ذلك.

وقد نعرف العاقل بالمجنون، كما أن المجنون يعرف بالعاقل، فإذا رأينا عاقلاً متّزن الحركات علمنا أن المجنون هو ما ليس كذلك، وإذا رأينا مجنوناً فوضوي الحركة علمنا بأن العاقل ليس كذلك.

عالم العقلاء، أم عالم المجانين؟

إذا عرفنا هذه (المقدمة) القصيرة نقول: هل العالم في عصرنا هذا عالم عقلاء أم عالم مجانين؟

ولعلّ هذا السؤال يثير الاستغراب، إذ واضح أن العالم عالم العقلاء، وان المجانين هم أفراد قلائل يعيشون في دور المجانين ومستشفيات الأعصاب.

لكن هذا هو السطح الظاهر من الأمر، ولعل التعمّق في الأمر يفيد غير ذلك.

ولنتساءل: المجنون من هو؟ حتى نعرف أن العالم بمجموعه مجنون أو عاقل، والعاقل من هو؟ حتى نعرف هل أن العالم بمجموعه عاقل، أم لا؟!

إن المجنون: - هو الذي يمارس الأعمال الاعتباطية، مما يضرّ نفسه ويضرّ الآخرين، والعاقل: - هو الذي يمارس الأعمال بحكمة مما ينفع نفسه وينفع الآخرين، أليس كذلك؟!

فإذا كان الجواب بالإيجاب، فهل العالم يقوم بالأعمال المفيدة لنفسه ولغيره أو يقوم بالأعمال الضارة؟

واضح أن كل فرد يجيب عن هذا السؤال بقوله: أنا عاقل! وكذا كل شركة شركة، وكل حكومة حكومة.

ولكن: إذا كان العالم عالم العقلاء، فلماذا قتل الملايين خلال نصف قرن في حربين عالميتين، تركت العالم شظايا ورماداً ودماء ودموعاً وأشلاء ومعوقين وما إلى ذلك.

ولماذا نصدّق بالأمم المتحدة وهي أوضح مثال للانحراف، حيث نرى منظمة الأمم المتحدة مكاناً لهدر الحقوق، فالأمم المتحدة تجعل الدولة الكبيرة ذات الألف مليون إنسان والدولة الصغيرة ذات مائة ألف إنسان على قدم المساواة في إعطاء الأصوات، فهل صحيح أن نساوي بين مائة ألف إنسان وبين ألف مليون إنسان؟ أليس هذا هدراً لحقوق ألف مليون ـ إلا مائة ألف ـ لأن مائة ألف من حكومة ذات ألف مليون تساوي مائة ألف من الحكومة الصغيرة ذات مائة ألف، فأين حق البقية؟ أوَليس ذلك يشبه أن تعطي لألف إنسان طعاماً ونعطي لإنسان واحد بقدر ذلك الطعام، بل النسبة أبعد من ذلك، لأن نسبة مائة ألف نسبة العشر، فهو مثل أن نعطي (عشرة أقراص من الرغيف) لإنسان واحد، و(رغيفاً واحداً) لألف إنسان!

مثال ثالث: - لماذا يتكدّس المال حتى يملك بعض الأفراد مليارات، بينما الملايين جائعون، وبينما الملايين من الأطفال يموتون جوعاً وهل هذا من التعقّل؟ فلو كان والد عائلة يعطي لولد من أولاده عشرة أقراص من الخبز ويترك عشرة آخرين من أولاده جائعين إلى حد الموت، فهل يعد هذا الوالد عاقلاً، وإن كان هذا الوالد يعدّ عاقلاً، فمن هو المجنون؟!!

إذاً، ليس الجنون خاصاً بمن يقفز في الشارع، ويتسلّق الجدران ويشقّ ملابسه ويلوّث بدنه، فإن المجنون أيضاً هو من يضرّ نفسه ويضرّ الآخرين.

وإذا كان العالم عالم العقلاء لماذا نبني المستشفيات للعناية بالصحة، ونربّي الأطباء الحاذقين، ونكدح ليل نهار لعلاج عين، أو قلب أو شفاء حمّى أو ما أشبه، ثم في قبال كل ذلك نهيئ وسائل التدمير الجماعية التي تخلّف ملايين الجرحى والمصابين والمعتوهين؟ هل هذا عمل العقلاء؟!

هل الوالد الذي يذهب بولد له أصابته وعكة إلى الطبيب ويعتني به عناية فائقة حتى يبرأ، ثم يأخذ السكين ويقطع يد ولده الآخر، أو يقلع عينه، أو يصلم أذنه، أو يجدع أنفه، أو يبتر رجله، هل يعد هذا عاقلاً؟

إذا كان العالم عالم العقلاء، فلماذا تحرق المحاصيل الزراعية أمثال القمح والسكّر والأرز، وتلقى في البحر ملايين الأطنان من الحليب المجفف والأدوية؟

بينما هناك ملايين من الناس يموتون جوعاً، أو لسوء التغذية، أو يمرضون من جهة عدم كفاية الدواء والغذاء والعناية الصحية.

أليست هذه الأمور وأمثالها دليلاً على أن العالم الذي نعيش فيه قد فقد الموازين؟

القرآن الكريم يصوّر عالم الجنون

وقد ألمع القرآن الحكيم في آيات متعدّدة إلى هذه الحقيقة، فقد قال سبحانه: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) (سورة البقرة: 130).

فالذي يرغب عن ملّة شخص مصطفى في الدنيا وصالح في الآخرة سفيه حقاً.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (البقرة: 142).

فمن ينقد الصالحين والمصلحين هو إنسان سفيه، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وماذا بعد العقل إلا السفاهة؟

وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً) (النساء: 5).

فالناس الذين يتصرفون في الأموال تصرفاً غير حكيم هؤلاء سفهاء، ويحظر على الإنسان أن يعطي المال لهؤلاء، وإن كان المال لهم شرعاً، وقد سمّى الله سبحانه وتعالى هذه الأموال (أموالكم) لأن مجموع المال لمجموع البشر، فإذا أعطي المال للسفيه وتصرف فيه تصرفاً غير صحيح كان معنى ذلك حدوث نقصان في مجموع أموال البشر، ولنفرض أن هنالك ألف إنسان وألف دينار، وبعض هؤلاء يتصرفون تصرفاً سيئا فإذا أعطيناهم مائة دينار وألقوها في البحر بقي ألف إنسان بتسعمائة دينار فقد نقص من الأموال بهذا العمل.

ويقول الله تعالى في آية أخرى: (وانّه كان يقول سفيهنا على الله شططاً) (الجن: 4).

فالذي يقول على الله الشطط هو سفيه.

وفي رواية: (مرّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، على جماعة، فقال: على ما اجتمعتم؟ فقالوا: يا رسول الله هذا مجنون يصرع فاجتمعنا عليه، فقال: ليس هذا بمجنون ولكنه المبتلى، ثم قال: ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه... يتمنى على الله جنته وهو يعصيه(1).

نتائج الانحراف

ومن الواضح أن معصية الله سبحانه وتعالى انحراف عن الطريقة المستقيمة في الحياة، وكل انحراف يسبب نتائج سيئة، فالذي يشرب الخمر يسبب لنفسه انحرافاً في الصحة، والذي يقامر يسبب لنفسه خسارة وانهياراً، والذي يزني يسبب لنفسه أمراضاً نفسية وجسمية واجتماعية، أليس هذا نوعاً من أنواع الجنون؟ والفرق أن المجنون قليل الأذى، لأن أذى المجنون لا يتعدّى غالباً دائرة خاصة صغيرة، أما مجنون الشهرة أو مجنون القدرة أو مجنون السيطرة، فهؤلاء يضرّون أنفسهم ويضرّون ملايين الناس، ولذا ورد في الحديث: (إذا فسد العالِم فسد العالَم).

والعالم المنحرف لا يضر آخرته فحسب، وإنما يضر دنياه قبل آخرته، كما يضر الآخرين أيضاً وعلى هذا القياس.

إذاً فعالم اليوم عالم المجانين وليس بعالم العقلاء، عالم المرضى وليس بعالم الأصحاء، عالم المنحرفين وليس بعالم المستقيمين.

ملامح المجتمع المريض

وبذلك ظهر أنه لا يمكن أن يقال: (ان الاجتماع يسير) (وكل مجتمع واصل السير، وأدام قطع المراحل فهو مجتمع سليم) إذ يجب ملاحظة الروح العامة السائدة في الاجتماع، وهل إنها مطابقة للمقياس الصحيح أم ليست مطابقة له؟ فإن كانت مطابقة للمقياس الصحيح كان المجتمع سليماً، وأما إذا لم تكن مطابقة كان المجتمع منحرفاً ومريضاً ومجنوناً.

ولا يحتاج الأمر إلى أن نرجئ الأمر مدة ونقول: هذا الاجتماع السائر سوف يصطدم ويتحطم كالسيارة المعطوبة التي تسير الآن سيراً معتدلاً، لكن بعد برهة من الزمن تصطدم وتحترق وتعطب! بل هنالك علامتان للمجتمع المريض:

العلامة الأولى: أن نرى المجتمع وقد ظهرت فيه نواقص.

والعلامة الثانية: أنه سوف يتحطم.

وكلا الأمرين موجودان في الاجتماع الحاضر فمثله مثل سيارة في حالة الاحتراق، وبعد مدّة من الزمن تصطدم وتتحطم وتتلاشى.

فهذا الاجتماع الذي نعيش فيه يمرّ الآن بحالة الاحتراق، فهناك حروب، هناك ثورات، هناك جنون التسابق إلى التسلّح، هناك اللف والدوران والمكر والخداع والغش والاحتكار، والرأسمالية المنحرفة، والشيوعية الجنونية، هناك تمايز طبقات إلى حد أن بطوناً تتخم وبطونا تحرم، قسم يذهبون إلى القبور بسبب التخمة، وقسم يذهبون إلى القبور بسبب الفقر والجوع، هذا واقع الاجتماع الآن..

أما المستقبل فالاجتماع آخذ في طريق الوصول إلى نقطة النهاية والتحطم، حيث تفنى الحضارة التي وصل إليها الإنسان منذ قرون وقرون.. أليس ذلك دليلاً على انحراف الاجتماع وعدم تعقله، أليس هذا الواقع يلحُّ على عقلاء العالم للتفكير في كيفية العلاج والخلاص لكل العالم، لا لأمة خاصة أو مدينة خاصة أو جماعة خاصة أو ما أشبه؟..

 

1 ـ بحار الأنوار: ج66، ص233، دار المعارف ـ بيروت.