الفهرس

المؤلفات

 الاجتماع

الصفحة الرئيسية

 

عدالة العشرة 

إن الإسلام ضرب الرقم القياسي في تقرير العدالة مع الناس: قريبهم وبعيدهم، صديقهم وعدوهم ـ كما هو شأن الإسلام في كل تشريع ـ فقد جعل عشرة الناس بالحسنى دعامة الحياة السعيدة في الدنيا، والفوز والزلفى في الآخرة.

والقلم يكاد يعجز عن شمول ما للإسلام ـ في هذه الناحية ـ من توجيهات وإرشادات، وليس هذا بدعاً من الإسلام الذي يرى الأفراد سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى..

الإسلام الذي يرى الأفراد منتهين إلى أب واحد: هو آدم (عليه السلام) ، وأم واحدة: هي حواء (عليها السلام) .. وهما من تراب..

الإسلام الذي يرى البشر عائلة واحدة خلقت لأجل تعمير الأرض والسير بها إلى الرقي، لغرض حياة لا موت فيها.. وراحة لا تعب يشوبها.. وأمن لا خوف ينغصه..

وعلى ضوء هذه النظرة الإنسانية يقرر الإسلام المناهج التالية لتأمين الحياة الاجتماعية:

1 ـ منهج معاشرة الأقرباء..

2 ـ منهج معاشرة الناس عامة..

3 ـ منهج معاشرة الأعداء.

منهج معاشرة الأقرباء  

أما الأقرباء: فالإسلام يؤكد على صلة بعضهم لبعض، وإحسان بعضهم تجاه الآخرين.. بل فوق ذلك: أنه يوجب التآلف والتقارب بينهم، ويحذر المخالف بالعقاب الأليم.

ولا يوجب الإسلام الصلة على بعض دون بعض، بل كلهم على حد سواء في وجوب صلة رحمه، فعلى كل من الواجب قدر ما له من الحقوق، ويعتني الإسلام بالأرحام أكثر من غيرهم من البعداء، ويشير إلى هذا المعنى الفطري الإنساني القرآن الحكيم، حيث يقول: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)(1).

فهم أولى بالإحسان والمغفرة، والصلة، والإرث.. أولى بكل شيء، إنهم جمعتهم رحم واحدة، ولهم حنين خاص نحو الآخرين، لا يزول ـ وإن قامت العداوات، واشتجرت المخاصمات ـ من أقرب منهم، حتى يخص بالرحمة دونهم، فأبوان، وبنين وبنات في الطبقة الأولى، ثم أخوة وأخوات في الطبقة الثانية، ثم جد وجدة، وعم وعمة، وخال وخالة، ومن انتسب إليهم بولادة أو قرابة.. إنهم أقرب الناس والأقرب يمنع الأبعد.. وهم في الدرجة الثالثة من التوقير والاحترام، والإكرام والإحسان في نظر الإسلام.

يقول القرآن الكريم: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله، وبالوالدين إحساناً وذي القربى)(2).

«... والأرحام هي القطعة الكبيرة من الأمة، المشتملة على قطع صغيرة، فلو صلحت الأرحام استقامت الأمة، وورقت أغصانها وأتت ثمرتها، وهو التمسك والاتحاد(3): فرد، فعائلة، فأرحام، فأمة..».

والإسلام كما هو شأنه في كل شيء يتدرج في إصلاح المجتمع، فيهذب الفرد، ثم يصرف النظر إلى العائلة، فيقوي عراها، ويشذب زوائدها، ثم يتوجه إلى الأرحام، فيحكم الصلات بينهم ويندب تماسكهم ويندد بمن قطع الود منهم..

حتى يصل الدور إلى المجتمع، وقد تكاملت أعضاؤه، واستتبت أجزاؤه، وانتظمت أفراده وعوائله، فيقرب طريق صلاحه، ويسهل تقوية روابطه.

ويجعل الإسلام من الثواب لصلة الرحم، قدراً يظن الغر أنه محاباة ومبالغة ولكن الحقيقة.. والحقيقة وحدها(4).

وقد كرر القرآن الإيصاء بالرحم، في مناسبة.. ومناسبة.. فقال: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، وبذي القربى)(5).

وقال: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)(6).

وقال: (الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرأون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار)(7).

والأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) كثيرة جداً:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (أوصي الشاهد من أمتي والغائب، ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم القيامة: أن يصل الرحم، وإن كانت منه على مسيرة سنة، فإن ذلك من الدين)(8).

ولا يتوهم إن في هذا التكليف حرجاً، إذ الصلة على أنواع.. ومنها: إرسال الكتاب والاستفسار عن الأحوال..

وقال (صلى الله عليه وآله) : (إن أعجل الخير ثواباً: صلة الرحم)(9).

وقال (صلى الله عليه وآله) : (من سره النسأ في الأجل والزيادة في الرزق فليصل رحمه)(10).

إن الله تعالى جعل من فضله الواسع هذا الثواب للصلة.. ومما يمكن أن يكون علة لهذا التلازم بين الصلة وبين طول العمر والازدياد في الرزق، هو أن الصلة توجب اطمئنان النفس، وسكون الخاطر، وكلما ازداد الإنسان اطمئناناً ازداد صحة واستقراراً.. وبالصحة يطول العمر، والشخص مع الاستقرار أمكن من تحصيل الرزق، فإن من تشتت خاطره لم يتمكن من السعي قدر ما يتمكن غيره، هذا مضافاً إلى الأسباب الغيبية.

وفي هـــذا المعــــنى أيـــضاً، قــــال (صلى الله عليه وآله) : (من سره أن يمد الله في عمره وأن يبسط له في رزقه فليصل رحمه)(11).

وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : (صلة الرحم وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار)(12).

وقال (عليه السلام) : (ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلا صلة الرحم، حتى أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين، فيكون وصولاً للرحم فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة، فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون قاطعاً للرحم، فينقصه الله تعالى ثلاثين سنة، ويجعل أجله إلى ثلاث سنين)(13).

وقال (عليه السلام) : (إن صلة الرحم والبر ليهونان الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم، وبروا بإخوانكم، ولو بحسن السلام ورد الجواب)(14).

وقال (عليه السلام) : (صلة الرحم تهون الحساب يوم القيامة، وهي منساة في العمر، وتقي مصارع السوء)(15).

وقال الإمام الباقر (عليه السلام) : (صلة الأرحام تحسن الخلق، وتسمح الكف، وتطيب النفس، وتزيد في الرزق، وتنسئ في الأجل)(16).

إلى غير ذلك..

والإسلام لا ينظر إلى الرحم كنظر الناس إليها، بالحدود الضيقة والمقاييس القصيرة، بل الرحم عند الإسلام أوسع منها.. وأوسع..

يروي الحسن بن علي الوشا عن أبي الحسن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) ، قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لما أسري بي إلى السماء، رأيت رحماً متعلقة بالعرش تشكو إلى الله رحماً لها، فقلت: كم بينك وبينها من أب؟ فقال: نلتقي في أربعين أباً!)(17).

وكلما كان الشخص أقرب رحماً، كانت صلته أكثر، حتى أن العم بمنزلة الأب، والخالة بمنزلة الأم، والأخ الأكبر أوجب احتراماً وصلة من غيره.

روى أبو خديجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) رجل، فقال له: إني ولدت بنتاً وربيتها حتى إذا بلغت فألبستها وحليتها، ثم جئت بها إلى قليب، فدفعتها إلى جوفه، فكان آخر ما سمعت منها وهي تقول: يا أبتاه، فما كفارة ذلك؟

قال (صلى الله عليه وآله) : ألك أمّ حية؟

قال: لا.

قال: فلك خالة حية؟

قال: نعم.

قال: فأبررها فإنها بمنزلة الأم، يكفر عنك ما صنعت) ..

قال أبو خديجة: فقلت لأبي عبد الله (عليه السلام) : متى كان هذا؟ فقال: كان في الجاهلية، وكانوا يقتلون البنات، مخافة أن يسبين فيلدن في قوم آخرين)(18).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (حق كبير الأخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده).

وفي الأحاديث: تسمية العم باسم الأب(19).

وقد كان نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) وآله الطاهرون (عليهم السلام) يحضون على صلة الأرحام، ويخصصون أكثر الناس براً بأكبر احترام وتقدير..

قال عمار بن حيان: خبرت أبا عبد الله (عليه السلام) ببر إسماعيل ابني بي، فقال: (لقد كنت أحبه، وقد ازددت له حباً، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتته أخت له من الرضاعة، فلما نظر إليها سر بها، وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها ويضحك في وجهها، ثم قامت فذهبت وجاء أخوها، فلم يصنع به ما صنع بها، فقيل له: يا رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل؟ فقال: لأنها كانت أبر بوالديها منه)(20).

قال زكريا بن إبراهيم ـ لأبي عبد الله (عليه السلام) ـ: (إني كنت نصرانياً فأسلمت، وإن أبي وأمي على النصرانية وأهل بيتي، وأمي مكفوفة البصر، فأكون معهم، وآكل في آنيتهم؟ قال: يأكلون لحم الخنزير؟ فقلت: لا ولا يمسونه، فقال: لا بأس، فانظر أمك فبرها، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك، ثم ذكر أنه زاد في برها على ما كان يفعل وهو نصراني فسألته؟ فأخبرها أن الصادق (عليه السلام) أمره، فأسلمت)(21).

ولقد كان النبي العظيم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرون (عليهم السلام) أروع الأمثلة لصلة الرحم، وذلك وفقاً بطبيعة الإسلام الذي كانت قادته ألزم الناس بمبادئه ودساتيره، على العكس من قادة الأمم ـ باستثناء الأنبياء (عليهم السلام) ومن إليهم ـ حيث كانوا أبعد الناس عن المبادئ التي دعوا الناس إليها.!

قال الشيخ المفيد (رحمه الله) : (وقف على علي بن الحسين (عليهما السلام) رجل من أهل بيته، فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه، قد سمعتم ما قال الرجل، وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا ردي عليه.

قال: فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحب أن تقول له ويقول..

قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)(22)، فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً..

قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: قولوا له هذا علي بن الحسين.

قال: فخرج إلينا متوثباً للشر، وهو لا يشك أنه إنما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه، فقال له علي بن الحسين: يا أخي إنك قد وقفت عليَّ آنفاً، فقلت.. وقلت.. فإن كنت قد قلت ما في، فأنا أستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك..؟

قال: فقبّل الرجل بين عينيه، وقال: بلى، بل قلت فيك ما ليس فيك، وأنا أحق به)(23).

وروى حماد اللحام، قال: (أتى رجل أبا عبد الله (عليه السلام) ، فقال: إن فلاناً ابن عمك ذكرك، فما ترك شيئاً من الوقيعة والشتيمة إلا قاله فيك..

فقال: أبو عبد الله (عليه السلام) للجارية: إيتيني بوضوء فتوضأ ودخل..

فقلت في نفسي يدعو عليه!

فصلى ركعتين فقال: يا رب هو حقي قد وهبته، وأنت أجود مني وأكرم، فهبه لي ولا تؤاخذه بي ولا تقاسيه، ثم رق فلم يزل يدعو، فجعلت أتعجب)(24).

وروت سالمة مولاة أبي عبد الله (عليه السلام) ، قالت: (كنت عند أبي عبد الله: جعفر بن محمد (عليهما السلام)، حين حضرته الوفاة وأغمي عليه فلما أفاق قال: أعطوا الحسن بن علي بن علي بن الحسين وهو الأفطس سبعين ديناراً.. وأعطي فلاناً كذا.. وفلاناً كذا.. فقلت: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة، يريد أن يقتلك؟! قال: تريدين أن لا أكون من الذين قال الله عزوجل: (والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)(25)؟! نعم يا سالمة، إن الله تعالى خلق الجنة فطيبها وطيب ريحها، وأن ريحها يوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجدها عاق ولا قاطع رحم)(26).

وهكذا كان قادة الإسلام يعملون بالعدل والإحسان.. وهكذا يأمر الإسلام.. فهل توجد قادة كهؤلاء؟

وهل في المبادئ والقوانين ما يشابه هذه؟

كلا.

إنه الإسلام وحده.. وقادة الإسلام وحدهم ـ مع الغض عن سائر أنبياء الله (عليهم السلام) وشرائع السماء ـ هكذا..

منهج معاشرة الناس عامة  

وأما الناس عامة: فمنهج الإسلام بالنسبة إلى معاشرتهم واضح لا غبار عليه، وقد حدده القرآن الحكيم في آيات: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)(27).

و(خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين)(28).

و(إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(29).

و(وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)(30).

وكذلك: وردت أحاديث كثيرة عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) وأئمة المسلمين (عليهم السلام) بهذا الصدد.

وكلها ترنو إلى شيء واحد وهو: إيجاد مجتمع صالح، يسوده الرخاء والاطمئنان، ويكتنفه الأمن والهدوء.. في نطاق العدل والإحسان، والإخاء والمساواة.. لا في الأمور العامة المهمة فحسب، بل حتى في الصغار التي لا تقيم القوانين والمبادئ لها أية قيمة.. حتى في النظر إلى المجلس، وإليك هذا الحديث الذي يكشف عن مدى اهتمام الإسلام بالعدل في كل صغير وكبير:

روى جميل بن دراج عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) ، قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقسم لحظاته بين أصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية!

قال: ولم يبسط رسول الله (صلى الله عليه وآله) رجليه بين أصحابه قط:

وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يده من يده حتى يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه مال بيده فنزعها من يده)(31).

وقد نظم الإسلام مناهج العشرة تنظيماً دقيقاً، حتى ينتشر في جميع جوانبها العدل والفضل، فقرر:

مناهج اللسان..

ودساتير للعين..

وأنظمة للأذن..

وقوانين للملمس..

وأحكاماً للجسد عامة..

كما أرشد إلى الفضيلة والرذيلة في القلب..

ثم بين كيفية معاشرة الجار، والصاحب، والصديق، والغني، والفقير، والحر، والعبد، والعالم، والمتعلم، والحاكم والمحكوم، والتاجر، والزارع، و.. و..

وفي كل ذلك يبين الطريقة العادلة التي ينبغي السير عليها، ويحذر عن السبل الملتوية، والمناهج المنحرفة إشاعة للعدل، واجتثاثاً لأصول الظلم والعدوان..

وباتباع هذه المناهج تمكن المسلمون الأول من توحيد الصفوف، وحمل راية العدل ومشاعل الفضيلة.. إلى مشارق الأرض ومغاربها، في ظل دولة موحدة تعمل بالقرآن والسنة، فذابت الفوارق القبلية، والنزعات الطائفية، والأنانيات النفسية، والحواجز الإقليمية.. كما أماتت العناوين المزعومة، والسيادات المزيفة..

فكل مسلم أخو المسلم.. وكل إنسان صديق إنسان.. وكل بلدة شقيقة بلدة.. وكل جار محب جار..

لا غيبة ولا نميمة، ولا غش ولا خداع، ولا ظلم ولا عدوان، ولا استغلال ولا احتكار، ولا بخل ولا حسد، ولا.. ولا..

بل أخوة وصداقة، وحب وألفة، وتزاور وتحابب، وإحسان وإكرام، وبشر وبشاشة، وعدل وفضل، وتوقير واحترام، ورحم ومروءة، وعلم وعمل، ودنيا وآخرة..

ولا نكران: في أن الشواذ من المسلمين كانوا يخترقون أنظمة الإسلام، ويخرجون عن حدوده، ولكن الصبغة العامة كانت هي العدالة والفضيلة..

وبالعكس من ذلك كله: دنيا اليوم فالموجود في قاموسها كل تباعد وتناكر، وعداء وبغضاء، وظلم واستعباد، وتفسخ واستهتار، وهي الصبغة العامة للمجتمعات إلا ما شذّ !.

ولا يرجع إلى البشر بصورة عامة، وإلى المسلمين بصورة خاصة، ما فقدوه من الضياء والهدى.. إلا بالرجوع إلى شرائع السماء، وتعاليم الوحي، وإرشادات الأنبياء (عليهم السلام) .. وبالأخص إلى الإسلام الذي تفيأوا بظلاله طيلة ثلاثة عشر قرناً، فوفر لهم الحرية بكل ما في الكلمة من معنى: من حرية التجارة والصحافة، والسفر، والتنقل، والعمل والعلم.. كما منحهم المساواة بمعناها الصحيح.. والرفاه والعز والكرامة، مما يليق بالإنسانية.

أما مناهج الغرب والشرق، التي وقع المسلمون وغير المسلمين ـ على حد سواء ـ في دوامتها ممن أعرضوا عن شرائع الأنبياء، فلا تزيد إلا المشاكل، ولا تجرّ إلا إلى العبودية، ولا تبث إلا الشقاق، ولا توفر إلا التطاحن والتهاتر، ولا تنتج ـ أخيراً ـ إلا الحروب المدمرة، والإبادة الجماعية، وتبديل دفء الحياة ببرد الموت، وعمارة الأرض بشظايا ودماء.

ولنذكر في هذا العدد مقتطفات من مناهج الإسلام المقررة والمعاشرة إلماعاً إلى طرف من العدالة الاجتماعية التي اعتنى بها الإسلام أكبر اعتناء، وحدد حدودها، وبين معالمها لسعادة الإنسان، والإبقاء على حضارته وازدهاره..

قال معاوية بن وهب لأبي عبد الله (عليه السلام) : (كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وفيما بيننا وبين خلطائنا من الناس؟

قال: فقـــال (عليه السلام) : (تؤدون الأمانة إليهــــم، وتقيمــــون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم)(32).

وعن زيد الشحام: قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : (اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزوجل، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله) . أدوا الأمانة إلى من أئتمنكم عليها، براً أو فاجراً، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك، ويدخل علي منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر..! وإذا كان على غير ذلك، دخل عليّ بلاؤه وعاره، وقيل هذا أدب جعفر..! فوالله لحدثني أبي (عليه السلام) : إن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (عليه السلام) ، فيكون زينها، آداهم للأمانة وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه، فتقول: من مثل فلان؟! إنه لآدانا للأمانة وأصدقنا للحديث)(33).

وقال مرارزم: قال أبو عبد الله (عليه السلام) : (عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة، وحضور الجنائز، إنه لابد لكم من الناس، إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته، والناس لابد لبعضهم من بعض)(34).

إن هذه الأمور آداب إسلامية، وليست بفرائض ـ إلا نادراً ـ ومع ذلك فالإسلام يحث عليها أشد الحث.. حتى أنه يصدرها بكلمة: (عليكم).. ولماذا؟ لأن الإسلام دين اجتماع وألفة، وتحبب وتودد..

يروي أبو بصير عن الإمام الباقر (عليه السلام) : قال: (إن أعرابياً من بني تميم أتى النبي (صلى الله عليه وآله) ، فقال له: أوصني، فكان مما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك)(35).

ويروي موسى بن بكير عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال: (التودد إلى الناس نصف العقل)(36).

وقد بين الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) مقياس الاجتماع الصحيح، وأنه لا يتحقق إلا بالألفة والمحبة، فلا اجتماع بدونها، وإن كانت القرابة تتوسط الأطراف، قال (عليه السلام) : (القريب من قرّبته المودة وإن بعد نسبه، والبعيد من بعدته المودة وإن قرب نسبه..)(37).

ثم مثل الإمام (عليه السلام) لذلك مثلاً رائعاً، فقال: (.. لا شيء أقرب إلى شيء من يد إلى جسد، وإن اليد تغل فتقطع، وتقطع فتحسم)(38).

وأخيراً فإن التحبب إلى الناس ـ في نظر الإسلام ـ من العقل بل نصف العقل:

قال الإمام الصادق (عليه السلام) : (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : التودد إلى الناس نصف العقل)(39).

والناس في المعاشرة صنفان: صنف يصارح كل أحد بما يكره، ثم يعتز بصفته هذه ويفتخر: بأنه صريح..!

وهذا خلاف الموازين الأخلاقية والعدالة الاجتماعية، فإن الأفراد لو صارحوا الناس بمساويهم، لم يبق اجتماع صالح، بل ينقلب المجتمع جحيماً لا يطاق..!

وصنف يداجي ويماري، ويذكر كل أحد بما يحب.. وإن كان ذلك خيالياً، وبعيداً عن موازين العدل: إنه مداجاة ظالم، وقد كان الأحرى أن يخاشن ردعاً عن الباطل، وتوجيهاً إلى الحق.. وبعد ذلك يفتخر هذا الصنف: بأنه حسن الأخلاق، يعاشر الناس بالحسن..! ولكن الحق في خلافه أيضاً.

إنهما بعيدان عن العدل، بين مُفرِط ومفرِّط، والوسط هو المجاملة.. إنها مندوبة عقلاً وشرعاً.

روى السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : ثلاث يصفين ود المؤمن لأخيه المسلم: يلقاه بالبشر إذا لقيه، ويوسع له في المجلس إذا جلس إليه، ويدعوه بأحب الأسماء إليه)(40).

إنها مجاملة وقد مدحها الإسلام: قال الصادق (عليه السلام) : (مجاملة الناس ثلث العقل)(41).

أما التعدي عن ذلك إلى الباطل، فيمدح من لا يستحق المدح، أو يثني بما ليس في الرجل، أو يخضع للباطل، فإنها ليست بمجاملة.. وإنما هي محايلة كما أن التنقيب عن المساوئ، والتجسس عن العيوب، والتفحص عن المذام، فإنها خلال رذيلة تأباها الشرائع والعقول.

وضع أحد الحكماء ـ أمام تلاميذه ـ ورقاً أبيض، في وسطه نقطة سوداء، ثم قال لهم: ما ترون؟

قالوا: نرى نقطة سوداء.

قال: فهلا رأيتم الورق الأبيض؟!!

كلكم يغمض عن البياض ويرى السواد!

ويروى (أن عيسى المسيح (عليه السلام) ، كان يسافر مع جمع من الحواريين، فرموا على كلب ميت منتن، قد كلح وجهه، حتى بدت أسنانه.. فوقف عليه المسيح (عليه السلام) ، وإذا بأصحابه ينفرون، ويذكرون ما للكلب من بشاعة المنظر، وكراهة الريح.. قال المسيح العظيم (عليه السلام) : أما أنا فأرى أسنانه البيضاء).

الرجل الطيب يرى الطيب، ويتغاضى عن الخبيث، وبالعكس الشخص غير المهذب.. أما رأيت الذباب، يترك المواضع الحسناء من الجسد، ويحط على القروح والدماميل؟!

كان أحد الخطباء بليغاً مجيداً للخطابة.. ولكن كان يبدل السين بالشين، فلم يكن يقدر على النطق بهذا الحرف، يقول الشاعر سعدي، كنت في مجلس يخطب فيه هذا الرجل، وكنت مغرماً بخطاباته الرنانة، وإذا بشخص إلى جنبي يقول: لا يجيد الخطيب السين..! قلت له: هلا نظرت إلى خطابته البليغة؟!

وعلى أي.. فالإسلام يكره كل كشف عن العيوب وذكرها، فإن ذلك يثير البغضاء، ويفصم عرى الاجتماع، ويخل بالتوازن، وينافي العدالة.! كما يكره كل رياء ومداجاة ومداهنة ومصانعة.

يقول القرآن الحكيم: (ولا تجسسوا)(42).

ويقول: (ودوا لو تدهن فيدهنون)(43).

ولكن لا يحابي الإسلام الحقوق والواجبات، بل يجعل إزاء كل واجب حقاً، فمن دفع الحق استحق الواجب، وإلا فلا..

عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) : في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) قال: (يا علي من لم تنتفع بدينه ولا دنياه فلا خير لك في مجالسته، ومن لم يوجب لك فلا توجب له ولا كرامة)(44).

وليس معنى هذا أن الإسلام لا يحب العفو والإحسان، بل معناه: أن الحقوق بإزاء الواجبات، وبعد ذلك يبقى الفضل، وإن انتهى دور العدل..

جاء رجل إلى الصادق (عليه السلام) ، فقال: يا ابن رسول الله أخبرني عن مكارم الأخلاق، فقال: (العفو عمن ظلمك، وصلة من قطعك، وإعطاء من حرمك، وقول الحق ولو على نفسك)(45).

وبعدما يفرغ الإسلام من وضع الخطط العامة لعدالة العشرة، ومنهاج الحياة المستقيمة، يتوجه إلى الفروع والتوابع: فيبين كل فضيلة وكل رذيلة.. ويرغب في الأولى ويحذر عن الأخرى، ليعيش المجتمع في ظل الرفاه ويسوده العدل والإخاء.. وللأخلاق في الإسلام عرض عريض، نحيله إلى كتب الأخلاق(46).

ونذكر ههنا أنموذجاً من التوجيهات الإسلامية بهذا الصدد:

الإنصاف 

الإنسان يحتاج إلى معاشرة الناس، في بيعه وشرائه.. في زواجه وفراقه.. في تعليمه وتعلمه.. في حله وترحاله.. والعشرة لابد وأن يقع فيها التضارب، ومن طبيعة البشر الشرهة (أن تجر النار إلى قرصها) وبهذا تتعقد المشاكل، وتدور المهاترات، ويقع الناس في دوامة العداء والبغضاء.. إن كل واحد من الطرفين لا يفكر إلا في أن الحق لنفسه ولا ينظر إلى المتخاصم فيه إلا من زاوية لنفسه، وبذلك تتباين وجهات النظر.

وإذا اصطدمت المشكلة بالمحاكم، فحدث عن الأموال والأعراض والأوقات المهدورة ولا حرج، وبعد كل ذلك، فالمشكلة بحالها..!

وليس من حل صحيح للمشاكل إلا: (بالإنصاف) فلو نظر كل فرد إلى نفسه وإلى غريمه، من زاوية حيادية، ورأى ماله وما عليه، فسرعان ما تحل المشاكل.. إن لم يكن كلها فالكثرة الغالبة منها، وفي القلة الباقية تتوافق وجهات الأنظار إلا في قليل من الخصومة، وأجدر بها أن تزول بشيء من التنازل، أو يسير من التواضع..

ومعظم الفضل في حل المشاكل سريعاً، في ظل الدساتير الإسلامية يرجع إلى تشبع المسلمين بروح الإنصاف ـ آنذاك ـ.

أما الغرب الآخذ بالزمام ـ اليوم ـ فقد محا عن قاموسه ذلك، ولذا ترى المحاكم دعوى مخمرة منذ ثلاثين سنة، وعشرين وعشرة.. وأمام عيني الآن ترافع ـ في قطعة من الأرض ـ طال ثلاث عشرة سنة، حتى مات أحد المتخاصمين بعدما استنفذت المحاكم والمحامون ومن إليهم.. قوى الطرفين الخيرة من مال وجاه ونشاط بدني وفكري..!!

أما الإسلام فمن جانب: يشبع الطرفين بروح الإنصاف،ومن جانب: يسير دفة المحاكم على العدل والبساطة، ولذا لا تطول المرافعة في ظل الإسلام أكثر من ساعات..!!

وبالعكس من كلا الجانبين الأنظمة الغريبة: التي تبني المحاكم على الرشوة والخديعة والظلم.. وتملأ الأفراد بالشحناء والكراهية والتعدي.. فلا تحل المشاكل إلى يوم يبعثون..!!

ولهذا الغرض ـ لا تحل المشاكل الترافعية فحسب، بل تحل كل خلاف بين الأفراد والجماعات، مهما كان نوعه ـ: يحث الإسلام على تحلي الناس بالإنصاف، حتى إذا حدث خلاف.. أو مالوا إليه.. رجعوا إلى الميزان الفطري، الذي ينطوي عليه الرجل المنصف، وإذا به يندك أمام هذه الفضيلة الرفيعة.

روى السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (سيد الأعمال: إنصاف الناس من نفسك، ومواساة الأخ في الله، وذكر الله على كل حال)(47).

وروى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: (ألا إنه من ينصف الناس من نفسه، لم يزده الله إلا عزاً)(48).

وروى محمد بن مسلم عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، قال: (ثلاث هم أقرب الخلق إلى الله عزوجل يوم القيامة، حتى يفرغ من الحساب: رجل لم تدعه قدرة في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، ورجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة، ورجل قال بالحق فيما له وعليه)(49).

وعن جعفر بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (من واسى الفقير من ماله، وأنصف الناس من نفسه، فذلك المؤمن حقاً)(50).

وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في آخر خطبته: طوبى لمن طاب خلقه وطهرت سجيته، وصلحت سريرته، وحسنت علانيته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، وأنصف الناس من نفسه)(51).

وعن معاوية بن وهب: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (من يضمن لي أربعة بأربعة أبيات في الجنة، أنفق ولا تخف فقراً، وافش السلام في العالم، واترك المراء وإن كنت محقاً، وانصف الناس من نفسك)(52).

إلى أحاديث.. وأحاديث..

التآخي  

أفراد الإنسان فرع شجرة واحدة: أصلها: آدم وحواء (عليهما السلام)، ثم رؤوس القبائل كالأغصان، والأفراد كالأوراق، فهم أخوة في أصل الخلق، ينتهون إلى نسب واحد.

وينسب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام):

الناس من جهة التمثال أكفــــاء          أبـــوهم آدم والأم حـــــــواء(53)

إذاً: فالأفضل بهم أن يتآخوا خُلُقاً وعشرة، كما هم أخوة نسباً وأصلاً.

وبالأخوة البشرية تتقارب القلوب وينتظم الاجتماع، وتصفو النفوس، ويسود الجميع حب وسلام.. ومن العدل أن يتكافأ الأفراد أخوة ووداداً.. كما أن من الظلم أن يتجنب بعض عن بعض، ويبتعد إنسان عن إنسان، ولماذا تميل كفة أحدهم إلى العلو، وكفة الآخر إلى الأسفل؟! إنهما كفتان متقابلتان.

أما المال والجاه والشرف، فأجدر بهما أن تكونا أسباباً للعدل لاللظلم، وللتواضع لا للتكبر!!

وقد حرص الإسلام الحرص كله، على الأخوة الإسلامية ـ بما في الكلمة من معنى ـ وقد آخى نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله) بين المسلمين، بعدما هاجر من مكة إلى المدينة، وما نرى اليوم من خطاب المسلمين بعضهم لبعض بكلمة: (الأخ) ليس إلا من تلك البذرة التي بذرها الإسلام قبل أربعة عشر قرناَ، في الجزيرة العربية، فأصبح المسلم في شرق الأرض أخاً للمسلم في غربها، من غير فرق بين الفقير والغني.. والحاكم والمحكوم.. والعالم والمتعلم.. والحر والعبد.. والشريف والوضيع.. حتى أن من يخرج عن هذه الأخوة، يعد خارجاً عن ربقة الإسلام، فالمسلم أخ المسلم رضي أو كره..

وليس هذا فحسب.. بل حرض الإسلام على استفادة الإخوان والتحبب إليهم، وإيجاد الصداقة مع الناس، كل ذلك حرصاً على العدالة الاجتماعية، وإذابة للفوارق المزعومة.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (لا يدخل الجنة رجل ليس له فرط، قيل يا رسول الله ولكل فرط؟ قال: نعم إن من فرط الرجل أخاه في الله)(54).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) :

عليك بإخوان الصفا، فإنــهم          وما بكـــثير ألف خـــــــل وصاحــب

عماد إذا استنجدتهــم وظهـور          وإن عــــدواً واحــــداً لكثيــــــر(55)

وروى محمد بن زيد قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: (من استفاد أخا في الله، استفاد بيتاً في الجنة)(56).

وروى جعفر بن ابراهيم، عن جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) قال: (أكثروا من الأصدقاء في الدنيا، فإنهم ينفعون في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فحوائج يقومون بها، وأما الآخرة فإن أهل جهنم قالوا: (فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم)(57) )(58).

وروي عن الصادق (عليه السلام) قال: (استكثروا من الإخوان، فإن لكل مؤمن دعوة مستجابة.. وقال: استكثروا من الإخوان، فإن لكل مؤمن شفاعة.. وقال: أكثروا من مؤاخاة المؤمنين، فإن لهم عند الله يداً، يكافئهم بها يوم القيامة)(59).

وفي نهج البلاغة عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : (أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم)(60).

وليست الأخوة الإسلامية، أخوة إسمية، وإنما هي عنوان على الأخوة الراقية، يحب أحدهما للآخر ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.

سأل ابن أعين الصادق (عليه السلام) : (عن حق المسلم على أخيه؟

فلم يجبه..

قال: فلما جئت أودعه..

قلت: سألتك فلم تجبني؟

قال: إني أخاف أن تكفروا، وان من أشد ما افترض الله على خلقه ثلاثاً: إنصاف المؤمن من نفسه، حتى لا يرضى لأخيه المؤمن من نفسه إلا بما يرضى لنفسه، ومواساة الأخ المؤمن في المال، وذكر الله على كل حال، ليس سبحان الله والحمد لله، ولكن عند ما حرم الله عليه فيدعه)(61).

قال الوصافي: قال لي أبو جعفر (عليه السلام) : (أرأيت من قبلكم إذا كان الرجل ليس عليه رداء، وعند بعض إخوانه رداء يطرحه عليه؟

قلت: لا.

قال: فإذا كان عنده ليس إزار يوصل إليه بعض إخوانه بفضل إزاره حتى يجد له إزاراً؟

قلت: لا.

فضرب بيده على فخذه، ثم قال: ما هؤلاء بأخوة)(62).

العدالة حتى مع الأعداء  

والإسلام بعد الحث على العدالة بالنسبة إلى الأقرباء والأباعد يذهب شوطاً آخر، وهو الحث على العدالة بالنسبة إلى الأعداء، وهذا في الحقيقة من كمال الإسلام الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وما أحوج المجتمع إلى الإرشاد بالنسبة إلى العدالة مع الأعداء، فإن الإنسان مهما لزم جانب العدل والإنصاف، نحو الأقرباء وسائر الناس.. فانه يزيغ مع الأعداء عادة، فإن العدو ـ بما له من اصطدام عنيف مع النفس ـ يولد في النفوس وقعاً عدوانياً، وهو كاف للخروج عن الموازين.. ولذا نرى أن من سبَّه أحداً يقابل بأضعافه من الشتم والوقيعة.. وهكذا من ضرب رجلاً ضربة تلقى ضربات..

وعلى هذا يقرر الإسلام ـ أولاً ـ رد الاعتداء بمثله، لا أكثر، فإذا رد أكثر كان ينظر الإسلام المقدار الزائد اعتداءاً وظلماً، وبهذا المعنى يروى:

(إن المظلوم قد يصبح ظالماً..).

يقول القرآن الحكيم: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)(63).

وثانياً: يحبذ العفو وعدم الانتقام، وقلع جذور البغضاء والعدوان عن النفس يقول القرآن الحكيم: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)(64).

ويقول: (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(65).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (ثلاث والذي نفسي بيده، إن كنت حالفاً لحلفت عليهن: ما نقصت صدقة من مال فقد قرا، ولا عافا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر).

وقال (صلى الله عليه وآله) : (العفو لا يزيد الناس إلا عزاً، فاعفوا يعزكم الله)(66).

وقال (صلى الله عليه وآله) لعتبة: (ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة؟: تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك)(67).

وقال (صلى الله عليه وآله) : (قال موسى: يا رب أي عبادك أعز عليك؟ قال: الذي إذا قدر عفا).

إلى مئات الأحاديث.. وألوفها.. مما تأمر بالعفو وحسن معاشرة الأعداء..!

ولقد عفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن (وحشي) قاتل (حمزة سيد الشهداء) مع ما ارتكبه من عظيم الإثم(68).. وعفى عن أهل مكة(69).. مع أنهم كانوا رؤساء المؤامرات على النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه من أول البعثة إلى أواخر عمره الشريف.. وعفى.. وعفى..

وعفى أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أهل الجمل(70): كمروان وابن الزبير وأضرابهما، مع أنهم جروا إليه كل أذية وصعوبة كان (عليه السلام) يقاسيها طيلة حياته، وبسبب ذلك قتل شهيداً، وأوذي في ولده: فإن الجمل صار سبباً لصفين.. وصفين ولد النهروان.. وكان قتله (عليه السلام) من ولائد النهروان..

وعفى الإمام الحسن (عليه السلام) عمن كان يسبه بأمر مروان، حين أقدم الإمام الحسين (عليه السلام) وأراد الانتقام منه.. وعفى.. وعفى..

وعفى الإمام الحسين (عليه السلام) عن الحر بن يزيد الرياحي، مع أنه كان أول خارج عليه، وأول من حبسه حتى انجر إلى قتله(71).

وهكذا سائر الأئمة (عليهم السلام) :

فهذا علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) كان من أعدى أعدائه وأعداء أبيه: مروان، آذى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأقام عليه حرباً.. وآذى الإمام الحسن (عليه السلام) وسبه ورمى جنازته بالنبال.. وآذى الإمام الحسين (عليه السلام) وشتمه وكان شريكاً في تشريده (عليه السلام) من وطنه إلى حيث قتل، ثم فرح بذلك وآذى الإمام السجاد (عليه السلام) بنفسه..

ثم انظر: أرسل يزيد بن معاوية جيشاً لإباحة المدينة المنورة ـ فأباحوها في يوم الحرة ـ وإذا بمروان يأتي إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، ويقول: إن لي حرماً، وحرمي يكون مع حرمك؟ ـ وكان غير حرم علي بن الحسين (عليه السلام) مستباح العرض والقتل وكل شيء ـ .

فقال الإمام (عليه السلام) : افعل.

فبعث مروان بامرأته، وهي عائشة ابنة عثمان بن عفان وحرمه إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ، فخرج الإمام (عليه السلام) بحرمه وحرم مروان إلى ينبع.. فما أصيب حرم مروان بشيء..!!(72)

وهذا الإمام الباقر (عليه السلام) : قال له نصراني: أنت بقر!

قال: لا، أنا باقر.

قال: أنت ابن الطباخة!

قال: ذاك حرفتها.

قال: أنت ابن السوداء الزنجية البذية!

قال: إن كنت صدقت غفر الله لها وإن كنت كذبت غفر الله لك.!!!

فأسلم النصراني(73).

وهكذا سائر أئمة الإسلام (عليهم السلام) .. مما هو مذكور في كتب السير والأخبار والتواريخ.. 

 

1 ـ سورة الأنفال: 75.

2 ـ سورة البقرة: 83.

3 ـ هناك كلمة غير مقروءة في النسخة الموجودة عندنا. (الناشر)

4 ـ الأخلاق الإسلامية: ص97.

5 ـ سورة النساء: 36.

6 ـ سورة النساء: 1.

7 ـ سورة الرعد: 21 و22.

8 ـ الكافي: ج2 ص151 ح5.

9 ـ الكافي: ج2 ص152 ح15.

10 ـ الكافي: ج2 ص152 ح16.

11 ـ الكافي: ج2 ص156 ح29.

12 ـ الكافي: ج2 ص152 ح14.

13 ـ الكافي: ج2 ص152 ح17.

14 ـ الكافي: ج2 ص157 ح31.

15 ـ الكافي: ج2 ص157 ح32.

16 ـ الكافي: ج2 ص151 ح6.

17 ـ وسائل الشيعة: ج15 ص222 ب108 ح1.

18 ـ وسائل الشيعة: ج15 ص215 ب103 ح1.

19 ـ وكذلك في قوله تعالى: عن لسان إبراهيم حيث خاطب عمه آزر:(وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر…) سورة الأنعام: 74.

20 ـ الكافي: ج2 ص161 ح12.

21 ـ وسائل الشيعة: ج15 ص207 ب94 ح2.

22 ـ سورة آل عمران: 134.

23 ـ الارشاد: ج2 ص145.

24 ـ مشكاة الأنوار: ص217.

25 ـ سورة الرعد: 21.

26 ـ غيبة الطوسي: ص197.

27 ـ سورة النحل: 90.

28 ـ سورة الأعراف: 199.

29 ـ سورة الحجرات: 13.

30 ـ سورة البقرة: 195.

31 ـ الكافي: ج2 ص671 ح1.

32 ـ الكافي: ج2 ص635 ح2.

33 ـ الكافي: ج2 ص636 ح5.

34 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص399 ب1 ح5.

35 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص433 ب29 ح1.

36 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص433 ب29 ح2.

37 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص433 ب29 ح4.

38 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص433 ب29 ح4.

39 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص433 ب29 ح5.

40 ـ الكافي: ج2 ص643 ح3.

41 ـ الكافي: ج2 ص643 ح2.

42 ـ سورة الحجرات: 12.

43 ـ سورة القلم: 9.

44 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص431 ب28 ح1.

45 ـ بحار الأنوار: ج66 ص368 ب38 ح6.

46 ـ انظر (الفضائل والأضداد) و(الأخلاق الإسلامية) و(الفضيلة الإسلامية) وموسوعة الفقه كتاب (الآداب والسنن) للإمام الشيرازي.

47 ـ وسائل الشيعة: ج11 ص225 ب34 ح2.

48 ـ وسائل الشيعة: ج11 ص225 ب34 ح3.

49 ـ الكافي: ج2 ص140 ح5.

50 ـ الكافي: ج2 ص147 ح17.

51 ـ الكافي: ج2 ص144 ح1.

52 ـ الكافي: ج2 ص144 ح2.

53 ـ ديوان الإمام علي (عليه السلام) : ص24.

54 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص407 ب7 ح4.

55 ـ ديوان الإمام علي (عليه السلام) : ص207.

56 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص407 ب7 ح1.

57 ـ سورة الشعراء: 100، 101.

58 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص407 ب7 ح5.

59 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص408 ب7 ح6.

60 ـ نهج البلاغة: ج18 ص12 ص112.

61 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص415 ب14 ح5.

62 ـ وسائل الشيعة: ج8 ص414 ب14 ح1.

63 ـ سورة البقرة: 194.

64 ـ سورة النحل: 126.

65 ـ سورة الأعراف: 199.

66 ـ راجع وسائل الشيعة: ج11 ص218 ب29 ح1، وفيه: «العفو يزيد صاحبه عزاً». الحديث.

67 ـ راجع وسائل الشيعة: ج8 ص521 ب113 ح5، وفيه: «ألا أدلكم على خير خلائق أهل الدنيا والآخرة…». الحديث.

68 ـ راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج1 ـ 2، للإمام المؤلف (دام ظله).

69 ـ راجع كتاب (ولأول مرة في تاريخ العالم) ج1 ـ 2، للإمام المؤلف (دام ظله).

70 ـ راجع كتاب (الحكومة الإسلامية في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) )، للإمام المؤلف (دام ظله).

71 ـ راجع كتاب (جهاد الحسين (عليه السلام) ومصرعه)، للإمام المؤلف (دام ظله).

72 ـ راجع كتاب (حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله) والإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام) ) للإمام المؤلف (دام ظله).

73 ـ بحار الأنوار: ج46 ص289 ب6 ح12.