الفهرس

المؤلفات

 الاجتماع

الصفحة الرئيسية

 

الخطوط العامة للعدالة

الإسلام يرى الكون جهازاً موحداً يرتبط بعض أجزائه ببعض كارتباط الطائرة بعض آلاتها ببعض، وقد خلق الجميع خالق عالم قدير لأغراض معقولة، وأهداف حكيمة، لا فرق في ذلك بين سمائه وأرضه.. نباته وجماده.. حيوانه وإنسانه.. صلبه وسائله.. كبيره وصغيره..

فالكل مرتبط في تناسق بديع، وإحكام رصين، والكل في قبضته يديرها كيف يشاء، ويقلبها كما يريد.. فكل ذرة وضعت في موضعها اللائق بها، بحيث لو حادت عنه، أورثت تفككاً وخبالاً…

فبالعدل جعلت الكواكب، وخلقت الأقمار، واختلف الليل والنهار..

وبالعدل جرت الأنهار وعذبت.. وركدت البحار وملحت..

وبالعدل ينبت النبات وتخرج الأرض زهرتها..

وبالعدل يحس الحيوان ويدرك مطاليبه ومقوماته..

وبالعدل يبصر الإنسان ويسمع ويشم ويتذوق، ويلمس ويدرك، ويعلم ويشعر، ويجوع ويعطش.

لا كما يظن الخراصون! من أن العالم خلق صدفة، وتولد الإنسان من سلالة القرود، وكل شيء يرجع إلى أصل واحد، ثم تنوع حسب البيئات والصدف، عن طبيعة عمياء جاهلة!، إنه ـ في منطق الإسلام والعلم ـ فرار عن الحقائق ولجوء إلى أوهام.

إذاً: فبالعدل قامت السماوات والأرضون.. وبالمقاييس الدقيقة والمقادير العادلة تجري الأكوان لمستقر لها، ذلك تقدير العزيز العليم(1).. حتى أن كل حبة من حبات الرمال، وكل جرثومة من جراثيم الحياة، وكل خلية من خلايا الأشجار.. وهكذا.. جعلت في المحل اللائق بها، والمكان المناسب لها، وإن لم يعرف السر والحكمة أقوام، وجهل العلة والسبب أجيال.

أرأيت كيف فشل (دارون) (2) لما سُلط الضوء على الزائدة الدودية؟

أرأيت كيف انسحب من المعركة (فرويد)(3) حيث تقدم علم النفس؟

أرأيت كيف شُجب (ماركس)(4) إذ تبينت أصالة الغرائز الطبقية في الإنسان؟

وأرأيت..؟ وأرأيت..؟

فالعدل هو المقياس العام الذي يلف في إطاره الكون: من المجرة إلى الذرة.. ومن المادة إلى الروح.. ومن الحياة إلى الموت.. ومن الضياء إلى الظلمة.. ومن الدفء إلى البرد.. قال الإمام الصادق (عليه السلام) لمفضل: (جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة، وقصرت أفهامهم عن تأمل الصواب والحكمة، في ما ذرأ الباري جل قدسه وبرأ من صنوف خلقه في البر والبحر والسهل والوعر، فخرجوا لقصر علومهم إلى الجحود… وادعوا أن كونها بالإهمال، لا صنعة فيها ولا تقدير.. فهم في ضلالهم وعماهم وتحيرهم بمنزلة عميان دخلوا داراً، قد بنيت أتقن بناء وأحسنه، وفرشت بأحسن الفرش وأفخره، وأعد فيها ضروب الأطعمة والأشربة، والملابس والمآدب، التي يحتاج إليها لا يستغني عنها، ووضع كل شيء من ذلك موضعه، على صواب من التقدير وحكمة من التدبير، فجعلوا يترددون فيها يميناً وشمالاً، ويطوفون بيوتها إقبالاً وإدباراً، محجوبة أبصارهم عنها، لا يبصرون بنية الدار، وما أعد فيها، وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه، وأعد للحاجة إليه، وهو جاهل بالمعنى فيه، ولما أعد، ولماذا جعل كذلك، فتذمر وتسخط وذم الدار وبانيها، فهذا حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة، وثبات الصنعة، فإنهم لما غربت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء، صاروا يجولون في هذا العالم، حيارى ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته، وحسن صنعته، وصواب تهيئته، وربما وقف بعضهم على الشيء لجهل سببه، والإرب فيه، فيسرع إلى ذمه ووصفه بالإحالة والخطأ.. (5).

يا مفضل، أول العبر والأدلة على الباري جل قدسه، تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك، وميزته بعقلك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شيء فيها لشأنه معد، والإنسان كالمملك ذلك البيت والــمخول جميع ما فـــيه، وضروب الــنبات مهيأة لمآدبه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه... (6).

كل شيء موضوع في محله، وكل جزء منه مرتبط بالآخر فشمس تمد الهواء، وهواء يرفع الماء، وماء يحيي الأرض، فتهتز وتنبت من كل زوج بهيج.. ونبات يأكله الحيوان فينقلب منياً ثم يصبح حيواناً.. ثم يعدم ويمسي جزءاً من الأرض التي استمد منها.. وهكذا وهكذا..

حتى أن لبعض الأشياء مما لا يرى له أي ارتباط مع الآخر، يظهر له أوثق الصلات به لدى الدقة والتعمق.

وفي كتاب (غرائز الحيوانات): لو لم يكن للطائر ريش لما عاش على ظهر الأرض إنسان أو حيوان! لأن الريش هو الكساء الذي يغطي جسم الطائر ويصونه من حر الصيف وبرد الشتاء، ولولاه لهلك الطائر وزال أهم عائق طبيعي يعوق نمو الحشرات، فتنتشر بشكل مروع، وتحصد الزرع وتأكل الخضرة، وتموت الحيوانات آكلة العشب، ثم تموت الحيوانات آكلة اللحوم، وتصبح الأرض قبراً، لادبيب للحياة فيها.

وفي الطبيعة توازن عجيب بين الحشرات والطيور، فالأولى تظهر في أواخر الربيع من بيضة وضعت في العام السابق، أو من شرنقة كانت تضمها في الشتاء، وفي نفس الوقت الذي تكثر فيه الحشرات، تكون صغار الطيور قد خرجت من بيضها واحتاجت إلى الغذاء، فيجمع لها أبواها الحشرات بمقادير كبيرة من مطلع الشمس إلى مغربها، فينقص عدد الحشرات نقصاً بالغاً، ولولا ذلك لأصبحت وباءاً يعجز الإنسان عن مكافحته.

وإذا كان الإسلام ينظر إلى الكون هذه النظرة، ويؤمن بالعدل في كل شيء.. فمن البديهي أن يقرر القوانين العادلة، وينظم الأنظمة المستقيمة، للسير بالكون إلى الأمام.. إلى النمو الصحيح والازدهار.. حتى أن كل منهج من مناهجه، وكل حكم من أحكامه.. سياسية كانت، أم اجتماعية، أم قضائية، أم اقتصادية، أم نفسية، أم مادية.. أم.. أم.. أول ما يلاحظ فيها العدل..

فالاجتماع الرصين، والسياسة الراشدة، والقضاء العادل، والاقتصاد المتكامل، والنفس المستقيمة.. هو هدف الإسلام الذي يتوخاه، من جعل الأنظمة، وسن الدساتير.. وعلى هذه النظرة العامة يضرب الإسلام بيد من حديد، على كل من يمزق العدل، ويبغي الانحراف عن سنة الكون..

فالمنحرف المعتدي، لا يسبب خبالاً على نفسه، ولا فساداً في مجتمعه فحسب، بل هو يمزق النظام، ويسير بالكون إلى غير الهدف، وإن ظهر بادئ ذي بدء ظالماً لنفسه، أو معتدياً على فرد فحسب.. إنه بعمله الاعتدائي، يمثل من يفسد من معمل النسيج ـ مثلاً ـ وتداً، إنه ضئيل جداً في أول نظرة: وتد! وما قيمته؟ لكن لدى الدقة يعرف الخبال الشامل:

1: المعمل سكن عن العمل.

2: العمال تعطلوا وهم زهاء ألف.

3: عوائلهم يتضورون جوعاً.

4: معمل الغزل الذي كان ينتج لغرض نسج هذا المعمل سكن.

5: عماله تعطلوا.

6: عوائلهم افتقروا.

7: جهاز بيع الصوف المصروف لغرض الغزل توقف.

8: كسر السوق على مقدار افتقار العمال، فأثر في سائر البضائع.

9: تشكل جيش من العاطلين.

10: وأخيراً: انتشرت البطالة والتذمر، مما نظم مظاهرة مسلحة ذهبت ضحيتها نفوس.

وقد مثلوا قديماً: بـ«العجوز التي أثارت فتنة عظيمة بين قبيلتين بإلقائها وردة في الماء» وهكذا يكون التعدي عن العدل، فإن صغيره في النظر، كبير في الواقع.. ولذا يمنح الإسلام هذه الناحية اهتماماً كبيراً، فيوجب العدل، ويحرم الظلم، ويعاقب مقترفه نكالاً شديداً، ويتوعده ـ في الآخرة ـ بكل شر.

وفي القرآن الحكيم، والأحاديث الكريمة كثرة هائلة، بهذا العدد:

يقول تعالى: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم)(7).

ويقول سبحانه: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)(8).

ويقول تعالى: (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)(9).

ويقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولايجرمنكم شنئآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)(10).

ويقول تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى)(11).

إلى غير هذه من الآيات الكثيرة.. وسيأتي بعضها في الفصول القادمة.

أما الأحاديث المحرضة على العدل ـ بصورة عامة ـ فهي كثيرة:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة، قيام ليلها وصيام نهارها)(12).

وقال الصادق (عليه السلام) : (العدل أحلى من الماء يصيبه الظمآن، ما أوسع العدل إذا عدل فيه وإن قل)(13).

وقال (عليه السلام) : (العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحاً من المسك)(14).

وقال (عليه السلام) : (اتقوا الله واعدلوا..)(15).

وهذه الخطوط العامة للعدل، لا يقصد بها الإسلام أمراً معيناً أو أموراً، بل المقصود منها العدل في كل شيء:

العدل في الزواج والطلاق.

والعدل في تربية الأولاد.

والعدل في صلة الأرحام.

والعدل في معاشرة الناس.

والعدل في المعاملة.

والعدل في السلطة والقضاء.

والعدل في العبادة والطاعة..

وبالجملة: العدل في كل حركة وسكون، وائتلاف وافتراق، وقصد وعمل..

وعلى ضوء هذا المعنى العام من العدل، يضع الإسلام خطوط المساواة بين الأفراد والمجتمعات.. فليست المساواة في نظر الإسلام بالمعنى الذي يحلو لبعض الناس التشدق به، من توزيع الثروات.. واستواء الأفراد ـ مهما افترقوا في العمل والعلم وسائر الميزات ـ أمام القانون.

إنه الجور الواضح، فكيف يساوى بين العالم القدير الذي تشع من أنوار علمه المدن والأرياف، وبين الجاهل الذي لا يساهم في ترقية الحياة شيء، وهكذا.. قل: بين الطبيب والمهندس والفقيه و.. و.. وبين غيرهم ممن لا طائل في وجودهم؟

إذاً: فالمساواة في نظر الإسلام مساواة عادلة، لا مساواة عمياء.. مساواة تراعي الحقوق المايزة.. فهي مساواة في جهة التساوي وتمايز في جهة الاختلاف، فلا تمايز بلا مبرر، ولا تساوي مــن غير استواء، وعلى هذه القاعدة قسم الإسلام الحقوق والواجبات.. على الــرجل والمرأة.. والغني والفقير.. والملك والسوقة.. والكبير والصغير.. والشريف والوضيع.. والأفراد والجماعات..

 

1 ـ إشارة إلى قوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم). سورة يس: 38.

2 ـ داروين تشارلز روبرت (1809 ـ 1882م) صاحب النظرية الداروينية في اصل الانواع وتطورها وهو يقول بان الكائنات الحية تنزع الى انتاج مواليد تختلف اختلافا طفيفا عن آبائها، وبان عملية الاصطفاء الطبيعي (را.) تفضي الى بقاء الاصلح او الاكثر تكيفا مع البيئة وبان ذلك كله يؤدى في نهاية المطاف الى ظهور انواع جديدة لم تكن معروفة من قبل، وقد بسط داروين مذهبه هدا في كتابه (في اصل الأنواع) .on the origin of species الذي أثار عند نشره عام 1859م عاصفة في الدوائر العلمية والفلسفية والدينية جميعاً فهلل له جمع وسفهه آخرون وقد وجهت له حملات نقدية كثيرة حتى الآن.

3 ـ فرويد (1856-1939م) طبيب امراض عصبية، نمساوي، اكد على اثر اللاوعي والغريزة الجنسية في تكوين الشخصية، اصيب بالسرطان حوالي عام 1923م ومات به، اشهر آثاره (دراسات في الهستيريا) stu bien ber hysteyie عام 1895م، و(تأويل الاحلام) dile tyaumdeutung عام 1899م.

4 ـ ماركس كارل (1818م ـ 1883م) ، نشر مع صديقه (فريد ريك انجلز) كتاب (البيان الشيوعي) عام 1848م communist manifesto وأشهر آثاره (رأس المال) das kapital في ثلاثة مجلدات.

5 ـ بحار الأنوار: ج3 ص59 ب4 ح1.

6 ـ بحار الأنوار: ج3 ص61 ب4 ح1.

7 ـ سورة الشورى: 15.

8 ـ سورة الأعراف: 159.

9 ـ سورة الأعراف: 181.

10 ـ سورة المائدة: 8.

11 ـ سورة النحل: 90.

12 ـ بحار الأنوار: ج72 ص352 ب81 ح61.

13 ـ الكافي: ج2 ص147 ح15.

14 ـ الكافي: ج2 ص147 ح14.

15 ـ بحار الأنوار: ج72 ص38 ب35 ح36.