|
الفرض الخامس |
|
أن يناط الأمر بالمهم بكون المكلف ممن يصدر عنه العصيان في المستقبل أو كونه ملحوقاً بالعصيان، وحيث إن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعية ـ لا المتصورة ـ فالعلم بصدور العصيان في المستقبل أو عدم صدوره لا يؤثر في وجود الأمر بالمهم وعدمه إلا مع مطابقته، للواقع، كما لا يخفى. والإشكال في هذا الفرض من جهات: (الأولى): من جهة التضايف، حيث إن اللاحق والملحوق متضايفان، وهما متكافئان قوة وفعلاً، فكيف يكون الملحوق ـ وهو المكلف الذي سيعصي ـ بالفعل، واللاحق ـ وهو نفس العصيان ـ بالقوة؟ وفيه: أن ما ليسا بمتكافئين غير متضايفين، وما هما متضايفان متكافئان، بتقريب: أن ذات الملحوق واللاحق ليسا بمتضايفين، ولذا يمكن تصور أحدهما منفكاً عن تصور الآخر، مع تلازم المتضايفين تحققاً وتعقلاً، كما أن ذات العلة والمعلول ليسا بمتضايفين، ولذا يمكن تصور ذات أحدهما بدون تصور الآخر. نعم اللاحق والملحوق ـ بما هما كذلك ـ متضايفان لكنهما متكافئان في الوجود الذهني، لاستحالة تصور أحدهما بدون تصور الآخر، والأمر هنا كذلك لتلازم تصور كون المكلف ملحوقاً بالوصف مع تصور اللاحق. (الثانية): من جهة إناطة الوجوب بالشرط المتأخر. قال المحقق الأصفهاني (قده): (إن كون المكلف ممن يعصي ليس من أكوان المكلف المنتزعة عنه بلحاظ العصيان المتأخر، بل إخبار يتحقق العصيان منه في المستقبل، فلا كون ثبوتي بالفعل ليكون شرطاً مقارناً للوجوب). انتهى. وفيه: أنه لا يشترط في صدق العنوان الانتزاعي على المنتزع منه واتصافه به حقيقة وجود صفة عينية فيه، بل يكفي في الصدق: كونه لو عقل، عقل معه ذلك العنوان، سواء كان ذاتياً له بذاتي كتاب الكليات، كما في الأجناس والفصول المنتزعة من الوجود الخاص ـ بناءً على أصالة الوجود واعتبارية الماهية ـ أو ذاتياً له بذاتي كتاب البرهان، بأن لم يكن مقوماً للذات، ولكن كان لحاظه بنفسه كافياً في انتزاع ذلك العنوان، دون توقف ذلك على لحاظ الغرائب والمنضمات، كما في انتزاع الزوجية من الأربعة، أو لم يكن كذلك بأن توقف انتزاعه على لحاظ أمر خارج عنه، كما في انتزاع عنوان الأب والابن والمتقدم والمتأخر والمتيامن والمتياسر ونحوها.. وما نحن فيه من هذا القبيل، فإن تصور الذات مع لحاظ وصف تلبسها بالمبدأ في المستقبل كاف في انتزاع عنوان (الملحوق بالعصيان) وصدقه عليها حقيقة الآن، فيكون الشرط مقارناً لا متأخراً، كما في نظائره مما سبق التمثيل به. (مع) إمكان فرض وجود كون ثبوتي عيني في المكلف بالفعل، وذلك فيما إذا أخذت مبادئ العصيان موضوعاً، فإن العصيان المستقبلي مقتضى لمقدمات ومقتضيات موجودة بالفعل في نفس العاصي، فيؤخذ من توجد فيه هذه المقتضيات المنتهية لذلك المقتضى موضوعاً لوجوب الضد المهم، لكنه خروج عن مورد البحث كما لا يخفى. (الثالثة): من جهة الخلف، حيث إن المكلف مع هذا الكون ـ أي كونه ممن يعصي ـ يجوز له ترك المهم إلى فعل الأهم لفرض الأهمية وإطلاق وجوبه، ولا شيء من الواجب التعييني بحيث يجوز تركه إلى فعل غيره، والمفروض وجوب كل من الأهم والمهم تعييناً لا تخييراً، وهذا بخلاف ما إذا كان العصيان بنفسه شرطاً مقارناً فإنه لا مجال لتركه إلى فعل الأهم في فرض ترك الأهم. ويرد عليه: أولاً: عدم ظهور الفرق بين أخذ (العصيان) شرطاً وأخذ (كون المكلف ممن يعصي) شرطاً، فإن المحمولات غير الضرورية وإن لم تكن حتمية الثبوت للموضوع لو لوحظ الموضوع بذاته وبما هو هو، إلا أنها تصبح ضرورية الثبوت لو أخذ بشرط المحمول، وإلا لزم اجتماع النقيضين، وكذا لو أخذ الموضوع بشرط وجود العلة، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته، وعليه: فكما لا يمكن للمكلف العاصي ـ بقيد أنه عاصي ـ ترك العصيان إلى نقيضه، كذلك لا يمكن للمكلف الذي يعصي ـ بقيد أنه يعصي ـ استبدال النقيض بالعصيان، وإلا لزم أن ينقلب المكلف الذي سوف يصدر منه العصيان إلىالمكلف الذي سوف لا يصدر عنه العصيان، وهو جمع بين المتناقضين، فإن لم تكن الضرورة الأولى مخلة بكون وجوب المهم تعيينياً فلتكن الثانية كذلك، وإن كانت مخلة فلتكن الأولى مثلها. وعلى كل: فلا فرق بين الماضي والحاضر والمستقبل في ضرورية ثبوت المحمول للموضوع وعدمها، بلحاظ ذات الموضوع مجرداً، أو بشرط المحمول، أو بشرط العلة، كما قرر في مبحث (الإمكان الاستقبالي) في محله. ثانياً: إن انحفاظ الموضوع شرط في تحقق التخيير في الوجوب، فجواز ترك الواجب إلى غيره بهدم موضوعه ليس من التخيير في شيء، فالحاضر مثلاً يجوز له ترك الإتمام إلى القصر بالسفر ولا ينافي ذلك كون وجوب كل منهما تعيينياً. والأمر في المقام كذلك حيث إن ترك المهم إلى فعل الأهم إنما يكون بتبديل الموضوع ـ بل هو مستبطن فيه ـ فلا ينافي وجوبه التعييني. ومنه ينقدح النظر في ما قد يجاب به عن الإشكال من: (أنه لا مانع من الالتزام بجواز ترك المهم إلى الأهم، بأن يكون وجوب المهم سنخاً آخر من الوجوب لا يماثله غيره، والحصر في التعييني والتخييري: المتقوم بجواز ترك كل من الطرفين إلى الآخر ـ ليس عقلياً، فلا مانع من وجود قسم آخر. نعم: لا يجوز العدول من المهم إلى ثالث، بمعنى استحقاق العقاب عليه، مضافاً إلى استحقاق العقاب على ترك الأهم). ثم لا يخفى أن الامتناع بالغير لا يكون سبباً لانقلاب الحكم عما هو عليه، وإلا لزم عدم ثبوت الأحكام في شأن العصاة، لامتناع الطاعة في حقهم فإن الشيء ما لم يمتنع لم يعدم، إذ لا يخلو الشيء من وجود علته التامة أو عدم الوجود، والأول ينفيه الشيء في الخارج، والثاني مستلزم لامتناع الوجود لامتناع وجود المعلول بدون وجود علته التامة، ففي المقام: وإن امتنع ترك المهم إلى فعل الأهم لو لوحظ كون المكلف ممن يعصي بما هو كذلك إلا أنه امتناع بالغير، فلا يقلب جواز الترك عما هو عليه، بمعنى الترخيص في ذلك وعدم العقاب عليه. هذه بعض الفروض التي يمكن أن يناط بها الأمر بالمهم، وهنالك فروض أخر قد يظهر حكمها مما سبق. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. |