الفهرس

فهرس الفصل السادس

المؤلفات

 التاريخ

الصفحة الرئيسية

 

النبي (ص) ساعة الوداع

قال ابن مسعود: لما دنا فراق رسول اللّه (ص) جمعنا في بيت فنظر إلينا فدمعت عيناه ثم قال (ص): مرحباً بكم، حياكم اللّه، حفظكم اللّه، نصركم اللّه، نفعكم اللّه، هداكم اللّه، وفّقكم اللّه، سلمكم اللّه، قبلكم اللّه، رزقكم اللّه، رفعكم اللّه، اُوصيكم بـــتقوى اللّه، واُوصي اللّه بكم(1)، اني لكم نذير مبين أن لا تعلوا على اللّه في عباده وبلاده، فإن اللّه تعالى قال لي ولكم: (تلك الدار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتّقين)(2). وقال سبحانه: (أليس في جهنّم مثوىً للمتكبّرين)(3).

قلنا: متى يا رسول اللّه أجلك؟

قال (ص): دنا الأجل والمنقلب إلى اللّه وإلى سدرة المنتهى، وجنّة المأوى والعرش الأعلى، والكأس الأوفى، والعيش الأهنأ.

قلنا: فمن يغسّلك؟ قال (ص): أخي.

من كلمات الوداع

قال علي (ع): بينما نحن عند النبي (ص) وهو يجود بنفسه وهو مسجّى بثوب وملاءة خفيفة على وجهه، فمكث ماشاءاللّه أن يمكث ونحن حوله بين باكٍ ومسترجع إذ تكلّم (ص) وقال: (ابيضّت وجوه، واسودّت وجوه، وسعد أقوام، وشقي آخرون، أصحاب الكساء الخمسة أنا سيّدهم ولا فخر، عترتي أهل بيتي السابقون المقرّبون، يسعد من اتّبعهم وشايعهم على ديني ودين آبائي، أنجزتَ مواعيدك يا رب إلى يوم القيامة في أهل بيتي).

الأولى حتى من جبرئيل

وعن علي (ع) انه قال: دخلت على رسول اللّه (ص) في شكاته فإذا رأسه في حجر رجل أحسن ما رأيت من الخلق، والنبي (ص) نائم، فلما دخلت التفت إليّ ذلك الرجل وقال لي: ادن إلى ابن عمك فأنت أحقّ به منّي، فدنوتُ منهما، فقام الرجل وجلست مكانه ووضعتُ رأس النبي (ص) في حجري كما كان في حجر الرجل، فمكث ساعة، ثم استيقظ النبي (ص) فقال: يا علي أين الرجل الذي كان رأسي في حجره؟

قلت: يا رسول اللّه إنّي لما دخلت دعاني إليك ثم قال: ادن إلى ابن عمك فأنت أحقّ به منّي، ثم قام فجلستُ مكانه.

فقال النبي (ص): فهل تدري من الرجل؟ ذاك جبرئيل كان يحدّثني حتى خفّ عني وجعي، ونمت ورأسي في حجره.

قال عمار: لما حضر رسول اللّه (ص) أمر اللّه دعا بعلي (ع) فسارّه طويلاً ثم قال له: يا علي أنت وصيّي ووارثي، قد أعطاك اللّه علمي وفهمي، فإذا متّ ظهرت لك ضغائن في صدور قوم، وغصبت على حقك.

فبكت فاطمة (ع) وبكى الحسن والحسين (عليهما السلام).

فقال (ص) لفاطمة: يا سيّدة النسوان ممّ بكاؤك؟

قالت (ع) : يا أبة أخشى الضيعة بعدك.

فقال (ص): أبشري يا فاطمة فإنك أول من يلحقني من أهل بيتي، لا تبكي ولا تحزني، فإنّك سيدة نساء أهل الجنّة، وأباك سيد الأنبياء، وابن عمك سيد الأوصياء، وابناك سيدا شباب أهل الجنّة، ومن صلب الحسين (ع) يخرج اللّه الأئمّة التسعة مطهّرون معصومون، ومنك مهدي هذه الاُمّة.

جبرئيل وكتاب الوصيّة

قال علي (ع): دعاني رسول اللّه (ص) عند ارتحاله من هذه الدنيا وأخرج من كان عنده في البيت غيري، والبيت فيه جبرئيل والملائكة معه، فأخذ رسول اللّه (ص) كتاب الوصية من يد جبرئيل مختومة، فدفعها إليّ وأمرني أن أفضّها، ففعلت، وأمرني أن أقرأها فقرأتها، فإذا فيها كل ما كان رسول اللّه (ص) يوصيني به شيئاً شيئاً ما تغادر حرفاً.

قال موسى بن جعفر (ع): قلت لأبي عبداللّه (ع): أليس كان أميرالمؤمنين(ع) كاتب الوصية ورسول اللّه (ص) المملي عليه وجبرئيل والملائكة المقرّبون شهود؟

فقال (ع): قد كان ما قلت، ولكن حين نزل برسول اللّه (ص) الأمر نزلت الوصية من عند اللّه كتاباً مسجّلاً، نزل به جبرئيل مع اُمناء اللّه تبارك وتعالى من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمد مر بإخراج من عندك إلاّ وصيّك ليقبضها منا، وتشهدنا بدفعك إياها إليه.

ففعل رسول اللّه (ص) ذلك وأشهدهم عليه وقال: يا علي تفي بما فيها مِن موالاة مَن والى اللّه ورسوله، والعداوة لمن عادى اللّه ورسوله والبراءة منهم، على الصبر منك، وعلى كظم الغيظ، وعلى ذهاب حقّك، وغصب خمسك، وانتهاك حرمتك.

فقال: نعم يا رسول اللّه.

فقال أمير المؤمنين (ع): والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل يقول للنبي (ص): يا محمد عرّفه انه ينتهك الحرمة وهي حرمة اللّه وحرمة رسول اللّه (ص).

قال أمير المؤمنين (ع): فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل حتى سقطت على وجهي وقلت: نعم قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة.

ثم دعا رسول اللّه (ص) فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وأعلمهم مثل ما أعلم أميرالمؤمنين (ع) فقالوا مثل قوله، فختمت الوصية ودفعت إلى أمير المؤمنين (ع) وخرج جبرئيل والملائكة معه إلى السماء.

ثم عرض على رسول اللّه (ص) ضعف شديد، فلما أفاق دخلت عليه النساء يبكين وارتفعت الأصوات وضجّ الناس بالباب من المهاجرين والأنصار.

وديعة اللّه ووديعة رسوله

قال موسى بن جعفر (ع): فقلت لأبي (ع): فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول اللّه (ص)؟

فقال (ع): ثم دعا (ص) علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال لمن في بيته: اخرجوا عني، وقال لاُم سلمة: كوني على الباب فلا يقربه أحد، ثم التفت إلى علي (ع) وقال له: يا علي ادن مني، فدنا منه، فأخذ بيد فاطمة (ع) فوضعها على صدره طويلاً، وأخذ بيد علي (ع) بيده الاُخرى، فلما أراد رسول اللّه (ص) الكلام غلبته العبرة فلم يقدر على الكلام.

فبكت فاطمة (ع) بكاءاً شديداً وأكبّت على وجهه تقبّله، وبكى علي والحسن والحسين (عليهم السلام) لبكاء رسول اللّه (ص) ثم أكبّوا على وجهه.

فرفع رسول اللّه (ص) رأسه إليهم ويدها في يده، فوضعها في يد علي (ع) وقال له: يا أبا الحسن هذه وديعة اللّه ووديعة رسوله محمد عندك فاحفظ اللّه واحفظني فيها، وانك لفاعل هذا يا علي، هذه واللّه سيّدة نساء أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين، هذه واللّه مريم الكبرى، أما واللّه ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت اللّه لها ولكم، فأعطاني ما سألته، يا علي أنفذ لما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل، وأمرتها أن تلقيها إليك، فانفذها، فهي الصادقة الصدوقة، واعلم يا علي اني راضٍ عمّن رضيَت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته، يا علي ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزّها حقها، وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذى حليلها، وويل لمن شاقّها وبارزها، اللّهم اني منهم بريء، وهم مني براء، ثم سماهم رسول اللّه (ص) وضمّ فاطمة إليه وعلياً والحسن والحسين (عليهم السلام) الحديث.

الإقرار بقبول الوصيّة

قال أبو عبداللّه الصادق (ع): ثم انّ رسول اللّه (ص) قال لعلي (ع) بعد أن دفع إليه الوصية وأشهد على ذلك جبرئيل ومن معه من الملائكة: يا علي أضمنت دَيْني تقضيه عنّي؟

قال (ع): نعم، الحديث.

حنوط من الجنة

قال علي (ع): ثم انه كان في الوصية أن يدفع إليَّ الحنوط، فدعاني رسول اللّه (ص) قبل ارتحاله عن الدنيا بقليل وقال: يا علي ويا فاطمة هذا حنوطي من الجنة، وكان وزنه أربعين درهماً، قد دفعه إليَّ جبرئيل، وهو يقرئكما السلام ويقول لكما: اقسماه وأعزلا منه لي ولكما.

قالت فاطمة (ع) : لك يا أبه ثلثه، وليكن الناظر في الباقي علي بن أبي طالب (ع)، فبكى رسول اللّه (ص) وضمّها إليه وقال: موفقة رشيدة، مهدية ملهمة، يا علي قل في الباقي.

قال (ع): نصف ما بقي لها، ونصف لمن ترى يا رسول اللّه.

قال (ص): هو لك فاقبضه

النبي (ص) يستدعي أخاه

ولما ثقل رسول اللّه (ص) وحجب الناس عنه كان أمير المؤمنين (ع) لا يفارقه إلا لضرورة، فقام (ع) في بعض شؤونه، فأفاق رسول اللّه (ص) إفاقة فافتقد علياً (ع) فقال وأزواجه حوله: (ادعوا لي أخي وصاحبي) وعاوده الضعف فصمت.

فدُعي له غير علي (ع)، فلما فتح (ص) عينه ونظر إليه أعرض عنه بوجهه.

فقالت اُمّ سلمة: اُدعوا له علياً (ع)، فإنه لا يريد غيره.

فدعي أمير المؤمنين (ع) فلما دنا منه أومأ (ص) إليه، فأكبّ عليه فناجاه رسول اللّه (ص) طويلاً، ثم قام فجلس ناحية، فقال له الناس بعد ذلك: ما الذي أوعز إليك يا أبا الحسن؟

فقال (ع): علّمني ألف باب من العلم، يفتح لي في كل باب ألف باب، وأوصاني بما أنا قائم به إن شاء اللّه تعالى.

وفي رواية انه قال (ع): علّمني رسول اللّه (ص) ألف باب من الحلال والحرام، وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، كل باب منها يفتح ألف باب، فذلك ألف ألف باب، حتى علمت علم المنايا والبلايا وفصل الخطاب.

وفي رواية في المستدرك: ألف ألف باب يفتح لي من كلّ باب ألف باب.

بين الحبيب وحبيبه

ثم انّ اُم سلمة استأذنت على رسول اللّه (ص) فقال لها: ادعي لي حبيبتي وقرّة عيني وثمرة فؤادي فاطمة المظلومة بعدي، فدعتها، فأقبلت وهي تبكي، فاعتنقها رسول اللّه (ص) وضمها إلى صدره، فناجاها فرفعت رأسها وعيناها تهملان دموعاً، ثم ناجاها وأسرّ إليها شيئاً تهلّل وجهها له، ولما سئلت بعد ذلك عن بكائها وعن تهلّل وجهها؟

قالت (ع) : نعى إليّ نفسه فبكيت، ثم أخبرني بأني أول أهل بيته لحوقاً به، وانه لن تطول المدّة لي بعده حتى أدركه، وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنّة، وابناي سيدا شباب أهل الجنة وان الأئمة الإثني عشر خلفاؤه هم بعلي ووُلدي: علي (ع) أبوهم وأولهم، والمهدي ابني آخرهم، فتهلّل وجهي لذلك.

ثم انه (ص) دعا الحسن والحسين وقبّلهما وشمّهما وجعل يترشفهما وعيناه تهملان وأخبر (ص) بأنهما سيُظلمان بعده ويقتلان ظلماً، ولعن قاتلهما.

قال ابن عباس: ثم قالت فاطمة (ع) للنبي (ص) وهو في لحظاته الأخيرة: يا أبة أنا لا أصبر عنك ساعة من الدنيا، فأين الميعاد غداً؟

قال (ص): أما انك أول أهلي لحوقاً بي ـ وكان كذلك فقد لحقت بأبيها بعد خمسة وسبعين يوماً مظلومة شهيدة(4) ـ والميعاد على جسر جهنّم.

قالت (ع) : يا أبة أليس قد حرّم اللّه عزّوجل جسمك ولحمك على النار؟

قال (ص): بلى، ولكني قائم حتى تجوز اُمتي.

قالت (ع) : فإن لم أرك هناك ؟

قال (ص): تريني عند القنطرة السابعة من قناطر جهنّم، أستوهب الظالم من المظلوم.

قالت (ع) : فإن لم أرك هناك؟

قال (ص): تريني في مقام الشفاعة وأنا أشفع لاُمّتي.

قالت (ع) : فإن لم أرك هناك؟

قال (ص): تريني عند الميزان وأنا أسأل لاُمتي الخلاص من النار.

قالت : فإن لم أرك هناك؟

قال (ص): تريني عند الحوض، حوضي عرضه ما بين ايله إلى صنعاء، على حوضي ألف غلام(5) بألف كأس كاللؤلؤ المنظوم، وكالبيض المكنون، من تناول منه شربة فشربها لم يظمأ بعدها أبداً، وجعل يكرّرها.

النبي (ص) حياً وميتاً

ثم ان رسول اللّه (ص) ثقل وهو (ص) في بيت فاطمة (ع) فأشار إلى علي (ع) فدنا منه، فقال له وهو في لحظاته الأخيرة: (ضع يا علي رأسي في حجرك، فقد جاء أمر اللّه تعالى، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثمّ وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري، فاستق لي ست قرب من ماء بئر غرص، فغسّلني وكفّني وحنّطني، فإذا فرغت فخذ بمجامع كفني واجلسني ثم سلني عما شئت، فو اللّه لاتسألني عن شيء إلا أجبتك، وصلِّ عليّ أول الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي، يا علي ادفنّي في هذا المكان فإنّ بيتي قبري، وارفع قبري من الأرض أربع أصابع، وفي رواية: قدر شبر وأربع أصابع، وفي رواية: واجعل حول قبري حائطاً، ورش عليه من الماء واستعن باللّه تعالى).

فأخذ علي (ع) رأس رسول اللّه (ص) فوضعه في حجره وقد انقطع عن الكلام لما نزل به، فأكبت فاطمة (ع) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه          ثمــال اليتامى عصــمة للأرامل

ففتح رسول اللّه (ص) عينه وقال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمك أبي طالب، لا تقوليه، ولكن قولي: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم)(6).

على مشارف الآخرة

ولما كان صباح يوم الاثنين لليلتين بقيتا من شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية المباركة استأذن على رسول اللّه (ص) ملك الموت، وهو (ص) في بيت فاطمة (ع) وعمر رسول اللّه (ص) إذ ذاك ثلاث وستّون سنة.

قال ابن عباس: فلما طرق الباب قالت فاطمة (ع) : من ذا؟

قال: أنا غريب أتيت رسول اللّه (ص) فهل تأذنون لي في الدخول عليه؟

فأجابت: امضِ رحمك اللّه لحاجتك، فرسول اللّه (ص) عنك مشغول.

فمضى ثم رجع فدقّ الباب وقال: غريب يستأذن على رسول اللّه (ص) فهل تأذنون للغرباء؟

فأفاق رسول اللّه (ص) وقال: يا فاطمة ان هذا مفرق الجماعات، ومنغّص اللذّات، هذا ملك الموت، ما استأذن واللّه على أحد قبلي، ولا يستأذن على أحد بعدي، استأذن عليَّ لكرامتي على اللّه، ائذني له.

فقالت (ع) : اُدخل رحمك اللّه، فلما اُذن له دخل كريح هفّافة وقال: السلام عليك يا رسول اللّه وعلى أهل بيتك.

قال (ص): وعليك السلام يا ملك الموت.

فقال: انّ ربك أرسلني إليك وهو يقرؤك السلام ويخيّرك بين لقائه والرجوع إلى الدنيا.

فاستمهله (ص) حتى ينزل جبرئيل ويستشيره، فخرج ملك الموت من عنده وجاء جبرئيل فقال: السلام عليك يا أباالقاسم.

قال (ص): وعليك السلام يا حبيبي جبرائيل.

فقال: يا رسول اللّه انّ ربك إليك مشتاق، وما استأذن ملك الموت على أحد قبلك، ولا يستأذن على أحد بعدك.

قال (ص): يا حبيبي جبرئيل ان ملك الموت قد خيّرني عن ربّي بين لقائه وبين الرجوع إلى الدنيا، فما الذي ترى؟

فقال: يا رسول اللّه (وللآخرة خير لك من الاُولى ولسوف يعطيك ربّك فترضى)(7).

قال (ص): نعم، لقاء ربي خير لي، لا تبرح يا حبيبي جبرئيل حتى ينزل ملك الموت، فنزل ملك الموت فقال له رسول اللّه (ص): امضِ لما اُمرت له.

وفي رواية: قال جبرئيل: يا رسول اللّه أتريد الرجوع إلى الدنيا؟

قال (ص): لا، وقد بلّغت.

ثم قال ثانية: يا رسول اللّه أتريد الرجوع إلى الدنيا؟

قال (ص): لا، الرفيق الأعلى.

فقال جبرائيل: يا رسول اللّه هذا آخر يوم أهبط فيه إلى الأرض(8) انما كنت حاجتي من الدنيا.

فقال له رسول اللّه (ص): يا حبيبي جبرئيل ادن مني، فدنا منه، فكان جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن شماله، وملك الموت قابضاً لروحه (ص).

ثم مدّ (ص) يده إلى علي (ع) فجذبه إليه وهو يقول: ادن مني يا أخي فقد جاء أمر اللّه، فدنا (ع) منه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه، ووضع فاه في اُذنه وجعل يناجيه طويلاً حتى فارقت روحه الدنيا، صلوات اللّه عليه وآله، ويد أمير المؤمنين (ع) اليمنى تحت حنكه، ففاضت نفسه فيها، فرفعها (ع) إلى وجهه فمسحه بها.

ثم انسل علي (ع) من تحت ثيابه، وقال: أعظم اللّه اُجوركم في نبيّكم، فقد قبضه اللّه إليه ثم مدّ عليه ازاره، وقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، يالها من مصيبة خصت الأقربين وعمت المؤمنين، لما يصابوا بمثلها قط، ولا عاينوا مثلها.

فارتفعت عندها الأصوات بالضجّة والبكاء. فصاحت فاطمة (ع) وصاح المسلمون، وصاروا يضعون التراب على رؤوسهم، وفاطمة (ع) تقول: يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه، يا أبتاه من ربّه ما أدناه، يا أبتاه جنان الفردوس مأواه، يا أبتاه أجاب ربّاً دعاه، واجتمعت نسوة بني هاشم وجعلن يذكرن النبي (ص). وقالت اُم سلمة: وضعت يدي على صدر رسول اللّه (ص) يوم قبض فمرّت بي أيام وأسابيع آكل وأتوضأ ما تذهب رائحة المسك من يدي.

أعظم المصائب

وكان رسول اللّه (ص) قد قال لعلي (ع): يا علي من اُصيب بمصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب، وإلى هذا المعنى يشير ما جاء في الديوان المنسوب إلى أمير المؤمنين (ع) من انه كان يقول:

ما غــاض دمعــــي عنــــد نائبة          إلا جــعــــلتــك للبــــكـــا سـببـــــاً

وإذا ذكــرتك ســـــامحـــتــك بــه         مني الجــــفون فــفاض وانسـكبا

وأنشأ أمير المؤمنين (ع) أيضاً يقول:

المـــوت لا والـــداً أبقـــى ولا ولـداً          هـذا الســــبيل إلى أن لا ترى أحداً

هـــذا النـــبــي ولــم يــخــــلد لاُمته          لو خلّـــد اللّـــه خــلقاً قبــــله خُلدا

لــلـمـــــوت فيـنا سهام غير خاطئة          مـن فـــاته اليوم سهم لم يفته غداً

وأنشأت الزهراء (ع) تقول:

إذا مـــــات يـــومــاً ميّـــت قلّ ذكره          وذكر أبي طـــول الدُنــى فـــي تزيّد

تــذكـــــرت لمــا فــرّق الـموت بيننا          فعــــزّيت نفســـــي بــالنبي محمــد

فقلـت لهـــا: إن المـمـــات ســــبيلنا         ومن لم يمت في يومه مات في غد

التعزية من اللّه تبارك وتعالى

عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: لما قُبض رسول اللّه (ص) بات آل محمد (عليهم السلام) بأطول ليلة حتى ظنّوا أن لا سماء تظلّهم، ولا أرض تقلّهم، لأنّ رسول اللّه (ص) وتر الأقربين والأبعدين في اللّه.

فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت لا يرونه ويسمعون كلامه، فقال: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته، انّ في اللّه عزاء من كل مصيبة، ونجاة من كل هلكة، ودركاً لما فات (كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون اُجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار واُدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)(9) انّ اللّه اختاركم وفضّلكم وطهَّركم وجعلكم أهل بيت نبيّه، واستودعكم علمه، وأورثكم كتابه، وجعلكم تابوت علمه، وعصا عزّه(10)، وضرب لكم مثلاً من نوره(11)، وعصمكم من الزلل، وأمنكم من الفتن، فتعزّوا بعزاء اللّه، فإن اللّه لم ينزع منكم رحمته، ولن يزيل عنكم نعمته، فأنتم أهل اللّه عزّوجل الذين بهم تمّت النعمة، واجتمعت الفرقة، وائتلفت الكلمة، وأنتم أولياؤه، فمن تولاّكم فاز، ومن ظلم حقكم زهق، مودّتكم من اللّه واجبة في كتابه على عباده المؤمنين، ثم اللّه على نصركم إذا يشاء قدير، فاصبروا لعواقب الاُمور فإنها إلى اللّه تصير، قد قبلكم اللّه من نبيّه وديعة، واستودعكم أولياءه المؤمنين في الأرض، فمن أدّى أمانته آتاه اللّه صدقه، فأنتم الأمانة المستودعة، ولكم المودّة الواجبة، والطاعة المفروضة، وقد قبض رسول اللّه (ص) وقد أكمل لكم الدين، وبيّن لكم سبيل المخرج، فلم يترك لجاهل حجّة، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى اللّه حسابه، واللّه من وراء حوائجكم، واستودعكم اللّه، والسلام عليكم).

قال الراوي: فسألتُ أبا جعفر (ع) ممّن أتاهم التعزية؟قال (ع): من اللّه تبارك وتعالى.

جبرئيل يعزّي أهل البيت (عليهم السلام)

وعن أبي عبداللّه (ع) قال: لما قبض رسول اللّه (ص) جاءهم جبرئيل، والنبي (ص) مسجّى، وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة (كلّ نفس ذائقة الموت وإنما توفّون اُجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار واُدخل الجنّة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)(12) ان في اللّه عزاء من كل مصيبة، ودركاً من كل ما فات، وخلفاً من كل هالك، فباللّه فثقوا، وإياه فارجوا، إنما المصاب من حرم الثواب.

الخضر يعزّي آل الرسول (عليهم السلام)

عن أبي الحسن الرضا (ع) قال: لما قبض رسول اللّه (ص) أتاهم آت فوقف على باب البيت فعزّاهم به وأهل البيت يسمعون كلامه ولا يرون شخصه، فقال علي بن أبي طالب (ع): هذا هو الخضر أتاكم يعزّيكم بنبيّكم، فكان مما قال في تعزيته:

(السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته (كلّ نفس ذائقة الموت وإنّما توفّون اُجوركم يوم القيامة)(13) انّ في اللّه عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فباللّه فثقوا، وعليه فتوكّلوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب وأستغفر اللّه لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته).

وفي رواية عن أبي ذر عن علي (ع) انه بعث اللّه عزّوجل إليهم حين قبض رسول اللّه (ص): بالتعزية وفاطمة (ع) تبكيه، قال (ع): سمعنا حساً على الباب، وقائلاً يقول: (السلام عليكم أهل البيت ورحمة اللّه وبركاته، ربّكم عزّوجل يقرئكم السلام، ويقول لكم: انّ في اللّه خلفاً من كلّ مصيبة، وعزاءاً من كل هالك، ودركاً من كل فوت، فتعزّوا بعزاء اللّه، واعلموا انّ أهل الأرض يموتون، وانّ أهل السماء لا يبقون، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته).

قال (ع): وأنا في البيت وفاطمة والحسن والحسين أربعة لا خامس لنا إلاّ رسول اللّه (ص) مسجّى بيننا.

المعصوم لا يليه إلا معصوم

قال ابن مسعود: قلت للنبي (ص) وهو في شكاته: يا رسول اللّه من يغسّلك إذا حدث بك حادث؟

قال (ص): يغسّل كل نبي وصيّه.

قلت: فمن يا رسول اللّه وصيّك؟

قال (ص): علي بن أبي طالب.

وقال سلمان: أتيت علياً (ع) وهو يغسّل رسول اللّه (ص) وكان قد أوصى (ص) أن لا يغسّله غير علي (ع)، وأخبر انه لا يريد أن يقلّب منه عضواً إلا قُلب له.

وقد قال أمير المؤمنين (ع) لرسول اللّه (ص): من يعينني على غسلك يا رسول اللّه؟

قال (ص): جبرئيل.

فلما غسّله وكفّنه وحنّطه أدخلني وأدخل أبا ذر والمقداد وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فتقدّم وصففنا خلفه وصلّى عليه، ثم أدخل عشرة من المهاجرين وعشرة من الأنصار، فيصلّون ويخرجون، حتى لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلاّ صلّى عليه.

وفي رواية: ثم أدخل عليه عشرة فداروا حوله، ثم وقف أمير المؤمنين (ع) في وسطهم، فقال: (إنّ اللّه وملائكته يصلّون على النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً) فيقول القوم كما يقول، حتى صلّى عليه (ص) أهل المدينة وأهل العوالي كلهم.

انقطاع النبوّة أكبر فجيعة للأرض

قال ابن عباس: لما قبض رسول اللّه (ص) تولّى غسله علي بن أبي طالب (ع)، فلما فرغ من غسله كشف الازار عن وجهه ثم قال (ع): (بأبي أنت واُمّي طبت حياً وطبت ميتاً، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوّة والأنباء، وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مسلّياً عمّن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء، ولولا انك أمرتَ بالصبر ونهيت عن الجزع لأنفدْنا عليك ماء الشؤن، ولكان الداء مماطلاً، والكمد مخالفاً، وقلاّ لك، ولكنه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه، بأبي أنت واُمّي اذكرنا عند ربّك، واجعلنا من همّك)، ثم أكبّ (ع) عليه (ص) فقبّل وجهه.

وفي نهج البلاغة: (ولقد قُبِض رسول اللّه (ص) وانّ رأسه لعلى صدري، وقد سالتْ نفسه في كفّي، فأمررتها على وجهي، ولقد ولّيت غسله (ص) والملائكة أعواني، فضجّت الدار والأفنية، ملأ يهبط، وملأ يعرج، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه، حتى واريناه في ضريحه، فمن ذا أحق به منّي حياً وميّتاً؟)(14).

وفي النهج أيضاً: (إلاّ انّ لي في التأسّي بعظيم فرقتك، وفادح مصيبتك موضع تعزٍّ، فلقد وسّدتك في ملحودة قبرك، وفاضت بين نحري وصدري نفسك، فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(15).

النبي (ص) في مثواه الأخير

ولما فرغ المسلمون من الصلاة على رسول اللّه (ص) ـ وقد صلّوا عليه فوجاً فوجاً ـ خاضوا في موضع دفنه فقال بعضهم في البقيع، وقال آخرون: في صحن المسجد.

فقال علي (ع): انّ اللّه سبحانه لم يقبض نبياً في مكان إلا وارتضاه لرمسه فيه، واني دافنه في حجرته التي قبض فيها، وهي بيت فاطمة (ع) فرضي المسلمون بذلك.

فلما تهيّأ القبر وضع علي (ع) رسول اللّه (ص) على يديه ثم دلاّه في حفرته، ثم نزل علي (ع) في القبر فكشف عن وجهه، ووضع خدّه على الأرض موجّهاً إلى القبلة على يمينه، ثم وضع عليه اللبن وأهال عليه التراب..

فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

(السلام عليك يا رسول اللّه، السلام عليك يا محمد بن عبداللّه، السلام عليك يا خيرة اللّه، السلام عليك يا حبيب اللّه، السلام عليك يا صفوة اللّه، السلام عليك يا أمين اللّه، أشهد أنّك رسول اللّه، وأشهد أنّك محمد بن عبداللّه، وأشهد أنّك قد نصحت لاُمّتك، وجاهدت في سبيل ربِّك، وعبدته حتى أتاك اليقين، فجزاك اللّه يا رسول اللّه أفضل ما جزى نبياً عن اُمَّته، اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد أفضل ما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم انّك حميد مجيد)(16).

 

1 ـ أي: أطلب من الله سبحانه أن يتفضل بالمزيد عليكم ولفظ (اوصي) من باب المشاكلة مثل قوله تعالى: (تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك).

2 ـ القصص: 83.

3 ـ الزمر: 60.

4 ـ أو بعد خمسة وتسعين يوماً, على اختلاف الروايات.

5 ـ هذا مثال الزيادة, لا العدد, فهو من قبيل قوله تعالى: (وإن تستغفر لهم سبعين مرة) [التوبة: 80].

6 ـ آل عمران: 144,

7 ـ الضحى: 4 ـ 5.

8 ـ أي آخر هبوط على رسول الله (ص) لأجل إبلاغ الوحي وإلاّ فقد نزل جبرائيل بعده, في قصص مختلفة لا لأجل الوحي.

9 ـ آل عمران: 185.

10 ـ تشبيه بتابوت بني إسرائيل, وعصا موسى (عليه السلام).

11 ـ المراد آية النور.

12 ـ آل عمران: 185.

13 ـ آل عمران: 185.

14 ـ نهج البلاغة: الخطبة 197.

15 ـ نهج البلاغة: الخطبة 202.

16 ـ وهذا مروي عن البزنـــطي قال: قلت للرضا (ع): كيف الصـــلاة على رسول الله... وكيف السلام عليه؟ فقال (ع): (تقول: ...).