فهرس الفصل الثاني | المؤلفات |
نزول سورة (براءة) |
وفي سنة تسع من الهجرة النبوية المباركة نزلت على رسول اللّه (ص) سورة براءة واُمر بإبلاغها على المشركين، فدفعها (ص) إلى أبي بكر لينبذ بها عهد المشركين، فلما سار غير بعيد نزل جبرئيل (ع) على رسول اللّه (ص) وقال: إن اللّه يقرئك السلام ويقول لك: لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك. فاستدعى رسول اللّه (ص) عليّاً (ع) وقال له: اركب ناقتي العضباء وألحق أبابكر، فخذ براءة من يده وامض بها إلى مكة وانبذ بها عهد المشركين إليهم. فركب علي (ع) ناقة رسول اللّه (ص) العضباء وسار حتى لحق بأبي بكر وأخذ منه براءة، فرجع أبو بكر إلى المدينة، فلما دخل على رسول اللّه (ص) قال: يا رسول اللّه انك أهّلتني لأمر طالت الأعناق إليه، فلما توجّهت له رددتني عنه، مالي أنزل فيّ قرآن؟ فقال له رسول اللّه (ص): ان الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّ وجل يقول: بأنه لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك، وعلي (ع) منّي، ولا يؤدّي عني إلا علي (ع). ثم انّ علياً (ع) سار ببراءة حتى أذّن بها بعرفة والمزدلفة ويوم النحر عند الجمار، وفي أيام التشريق، فكان هو المؤذّن، أذّن بأذان اللّه ورسوله يوم الحجّ الأكبر في المواقف كلها، وكان ما نادى به: ألا لا يطوف بالبيت بعد هذا العام عريان، ولا يقرب المسجد الحرام بعد هذا العام مشرك، ومن كان له عهد فإلى مدّته، ومن لم يكن له عهد فإلى أربعة أشهر، ويحتج بقوله تعالى: (براءة من اللّه ورسوله إلى الّذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)(1). ولما دخل مكة اخترط سيفه وقال: واللّه لا يطوف بالبيت عريان إلا ضربته بالسيف، حتى ألبسهم الثياب فطافوا وعليهم الثياب، وكان الطواف بالبيت عرياناً مما قد تعارف في الجاهلية، فاستساغوه مع ما عليه من القبح والهتك لحرم اللّه سبحــانه وتعالى، ولذلك نزلت براءة بكل قاطعية ونفّذها علي (ع) بلا تهاون حتى استطاع قلع الناس عنه. |
كتاب ملوك حمير إليه (ص) |
وعند رجوعه (ص) من تبوك سنة تسع من الهجرة النبوية المباركة قدم عليه كتاب من ملوك حمير، وهم: الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال، والنعمان بن قَيل ذي رعين وهمدان ومعافر مع رسولهم وفيه خبر إسلامهم، وبعث زرعة ذو يزن إلى رسول اللّه (ص) مالك بن مرة الرهاوي بإسلامه ومفارقتهم الشرك وأهله، وقد كان رسول اللّه (ص) في مسيره إلى تبوك يقول: إني بشرت بالكنزين فارس والروم، وأمددت بالملوك ملوك حمير يأكلون في اللّه ويجاهدون في سبيل اللّه، فلما قدم مالك بن مرة بإسلامهم كتب (ص) إليهم: بسم اللّه الرحمن الرحيم، من محمد رسول اللّه النبي، إلى الحارث بن عبد كلال، وإلى نعيم بن عبد كلال، وإلى النعمان بن قَيل ذي رعين وهمدان ومعافر، أما بعد: فإني أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلا هو، فإنه قد وقع بنا رسولكم عند منقلبنا من أرض الروم فلقينا بالمدينة، فبلغ ما أرسلتم به وخبر ما قلتم وأنبأنا بإسلامكم، وأنّ اللّه قد هداكم بهداه، إن أصلحتم وأطعتم اللّه ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأعطيتم من المغانم خمس اللّه وسهم النبي وصفيه وما كتب على المؤمنين من الصدقة وبيّن (ص) لهم صدقة الزرع والإبل والبقر والغنم.. ثم قال (ص): فمن زاد فهو خير له، ومن أدّى ذلك وأشهد على إسلامه وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وله ذمة اللّه ورسوله، وانه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنّ له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على يهوديّته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها وعليه الجزية على كل حالم ذكر أو اُنثى حرّ أو عبد دينار وافٍ من قيمة المعافر أو عوضه ثياباً، فمن أدّى ذلك إلى رسول اللّه فإنّ له ذمّة اللّه وذمّة رسوله، ومن منعه فإنه عدوّ للّه ولرسوله. وجاء فيما كتبه (ص) إلى زرعة: أما بعد: فإنّ محمداً النبي أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذا أتاكم رسلي فاُوصيكم بهم خيراً: معاذ بن جبل وعبداللّه بن زيد ومالك بن عبادة وعقبة بن نمر ومالك بن مرة وأصحابهم، وإن جمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخالفيكم فأبلغوها رسلي، وان أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلا راضياً. وجاء فيما كتبه (ص) إليه أيضاً: أما بعد: فإن محمداً يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنه عبده ورسوله. ثم ان مالك بن مرة الرهاوي قد حدثني أنك قد أسلمت من أول حمير وقتلت المشركين، فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيراً، ولا تخونوا ولا تخاذلوا، فإنّ رسول اللّه هو مولى غنيّكم وفقيركم، وإن الصدقة لا تحلّ لمحمد ولا لأهل بيته، انما هي زكاة يزكى بها على الفقراء والمساكين وابن السبيل، وإنّ مالكاً قد بلغ الخبر وحفظ الغيب وآمركم به خيراً، وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي، وأولي دينهم وأولي عملهم، وآمركم بهم خيراً فإنه منظور إليهم، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته. |
سرية خالد إلى نجران |
ثم انه لما فتح رسول اللّه (ص) مكة وانقادت له العرب، وأرسل رسله إلى الاُمم، وكاتب كسرى وقيصر يدعوهما إلى الإسلام، أكبر شأنه نصارى نجران وخلطاؤهم على اختلافهم في دين النصرانية، من المارونية، والنسطورية، والملكائية، وغيرها، وامتلأت قلوبهم على تفاوت منازلهم رهبةً ورعباً، وانهم كذلك إذ وردت عليهم رسل رسول اللّه (ص) بكتابه يدعوهم إلى الإسلام، فازداد القوم لذلك قلقاً واضطراباً واجتمعوا في أعظم كنائسهم للمشورة. فقام رؤساء القوم وكبارهم ومن كانوا يرون سيادتهم على الناس في بقاء نصرانيتهم، فأشاروا عليهم بعدم الإستجابة وعدم الرضوخ والجزية، والإستمداد من الروم والإستعداد للحرب والزحف على المدينة. وقام آخرون من ذوي العقل والإنصاف، وأشاروا عليهم بدراسة ما أوحى اللّه عزّوجل إلى المسيح من نعت محمد رسول اللّه (ص) وصفته وملك اُمته وذكر ذرّيته وأهل بيته (عليهم السلام). وحضر نفر من أصحاب رسول اللّه (ص) شورهم بطلب من بعض رؤسائهم، فلما قُرىء على القوم ما أوحى اللّه عزّوجل إلى المسيح من نعت محمد رسول اللّه (ص) انحاز القوم إلى رأي ذوي العقل والإنصاف وسألوهم ما يعملون؟ فقالوا لهم: تمسّكوا بدينكم حتى نسير إلى المدينة وننظر ما جاء به وما يدعو إليه، ثم توجّهوا فيما يقرب من مائة شخص إلى المدينة. وهنا لما أبطأ الأصحاب واستراث رسول اللّه (ص) خبر أصحابه أنفذ إليهم خالد بن الوليد في خيل سرحها معه لمشارفة أمرهم، فألفوهم وهم متوجّهون إلى المدينة، فرجعوا معهم إلى المدينة. |
اضطراب نصارى نجران |
وقيل: انما تحرك وفد نصارى نجران إلى المدينة لأنّ رسول اللّه (ص) كتب إلى أهل نجران: باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب الإسلام. فلما أتى إلى الاُسقف الكتاب فقرأه قطع به وذعر ذعراً شديداً، فبعث به إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة، وكان من أهل همدان، ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله، لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب، فدفع إليه الاُسقف كتاب رسول اللّه (ص) فقرأه. فقال الاُسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد اللّه إبراهيم في ذريّة اسماعيل من النبوّة، رأيي لو كان من أمر الدنيا أشرت عليك فيه برأي وجهدت لك فيه. فقال الاُسقف: تنحَ فاجلس، ثم دعا الاُسقف رجلاً آخر منهم، يقال له: عبداللّه بن شرحبيل وهو من ذي أصبح، فقال مثل قول شرحبيل، فبعث إلى آخر، يقال له: جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب، فقال له مثل قول شرحبيل وعبداللّه. فلما اجتمع الرأي على تلك المقالة جميعاً أمر الاُسقف بالناقوس فضرب به ورفعت المسوح في الصوامع، وكذلك كانوا يفعلون إذا نزل أمر بالنهار، وإذا فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع، فاجتمع أهل الوادي أعلاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية ومائة ألف وعشرون مقاتل، فقرأ عليهم كتاب رسول اللّه (ص) وسألهم عن الرأي فيه، فاجتمع رأي أهل الوادي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبداللّه بن شرحبيل وجبار بن قيس الحارثي فيأتونهم بخبر رسول اللّه(ص). |
نصارى نجران في المدينة |
فلما قدم نصارى نجران المدينة وفدوا على رسول اللّه (ص) وهم ـ على قول ـ ستّون راكباً، منهم أربعة وعشرون رجلاً من أشرافهم، والأربعة والعشرون منهم ثلاثة نفر يؤوّل إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه وأمره، واسمه عبدالمسيح، والسيد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة ابن علقمة أخو بكر بن وائل اُسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدراسهم، وكان قد شرف فيهم ودرس كتبهم، وكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. فلما توجهوا إلى رسول اللّه (ص) من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له متوجّهاً إلى رسول اللّه (ص)، وإلى جنبه أخ له يقال له: كرز بن علقمة يسايره، إذ عثرت بغلة أبي حارثة، فقال له كرز: تعس الأبعد. فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست. فقال: ولمَ يا أخي؟ قال: واللّه إنه للنبيّ الاُميّ الذي ينتظرونه. فقال له كرز: فما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ فقال: ما صنع بنا هؤلاء القوم، شرفونا وموّلونا وكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، ولو فعلت نزعوا عنا كل ما ترى، فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك. فحضرت صلاتهم وهم في المسجد، فأقبلوا يضربون بالناقوس وقاموا لصلاتهم. فقال أصحاب رسول اللّه (ص): يا رسول اللّه هذا في مسجدك؟ فقال (ص): دعوهم. فلما فرغوا دنوا من رسول اللّه (ص) وقالوا: إلى ما تدعو؟ قال (ص): إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه، واني رسول اللّه، وانّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث. قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول اللّه (ص) فقال: قل لهم: ما تقولون في آدم؟ أكان عبداً مخلوقاً يأكل ويشرب، ويحدث وينكح؟ فسألهم رسول اللّه (ص) ذلك. فقالوا: نعم. فقال: من أبوه؟ فبهتوا وبقوا ساكتين لا يحيرون جواباً. فأنزل اللّه تعالى: (إنَّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فيكون الحقّ من ربّك فلا تكن من الممترين فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين)(2). |
المباهلة: الحل الأخير |
ولما نزلت هذه الآيات وأمر اللّه فيها رسوله (ص) بأن يباهل نصارى نجران، دعاهم رسول اللّه (ص) إلى أن يباهلوه، وذلك لأنهم قد افحموا في مناظرتهم، ووقفوا على خطأهم، غير ان تعصــبهم لم يسمح لهم بأن يذعنوا للحق الذي عرفوه في قرارة أنفسهم، ولم يبــق سوى أن يروا الحق باُم أعينهم، وذلك بالإبتهال إلى اللّه تعالى في أن ينزل عذابه على المبطل منهما. ولذلك قال لهم رسول اللّه (ص): باهلوني، فإن كنت صادقاً نزلت اللعنة عليكم، وإن كنت كاذباً نزلت عليّ، وحيث لم ير نصارى نجران لأنفسهم طريقاً غير ذلك، ولم يشهدوا مناصفة كهذه قالوا: أنصفت، ثم تواعدوا للمباهلة. |
تزلزل النصارى |
ومن الواضح: انه لا يتجرّأ أحد على أن يدعو أحداً للمباهلـــة إلاّ وهو على يقين من حقانيته، ولذلك لما دعى رسول اللّه (ص) نصارى نجران للمباهلة، وتواعدوا لها، اُوجسوا في أنفسهم خيفة. فلما رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم: السيد والعاقب والأهتم: انه لو لم يكن نبياً حقاً لما دعانا إلى المباهلة، ثم جعلوا لذلك علامة وقالوا: إن باهلنا بقومه باهلناه، فإنه ليس بنبيّ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة فلا نباهله، فإنه لا يقدم على أهل بيته إلا وهو صادق. |
تفسير عملي لآية المباهلة |
فلما أصبح الصباح من اليوم الرابع والعشرين من شهر ذي الحجّة من السنة التاسعة للهجرة النبوية المباركة خرج نصارى نجران إلى موعدهم، وخرج رسول اللّه (ص) آخذاً بيد علي (ع)، والحسن والحسين (ع) بين يديه، وفاطمة (ع) تتبعه، وهو (ص) يقول: هؤلاء أبناؤنا: الحسن والحسين، وهذه نساؤنا: فاطمة(3) وهذا أنفسنا: علي. وقد سأل النصارى عنهم وقالوا: من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمه ووصيّه وختنه علي بن أبي طالب (ع)، وهذه ابنته فاطمة (ع), وهذان ابناه الحسن والحسين (ع). وتقدّم رسول اللّه (ص) بهم فجثا لركبتيه وجعل علياً (ع) بين يديه، وفاطمة بين كتفيه، والحسن (ع) عن يمينه، والحسين (ع) عن يساره وقال (ص): إذا دعوتُ فأمِّنوا، ورفع كفّه إلى السماء وفرَّج بين أصابعه ودعاهم إلى المباهلة. فلما رأى ذلك اُسقفهم عبدالمسيح بن نونان قال: جثا واللّه محمد كما تجثوا الأنبياء للمباهلة، واني أرى وجوهاً لو دعت اللّه سبحانه لاستجاب. وقال شرحبيل: إن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعنّاه لا يبقى على وجه الأرض منا شعرة ولا ظفر إلا هلك. فقال له صاحباه: فما الرأي؟ فقال: رأيي أن أحكمه، فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فتآمروا فيما بينهم، وقالوا: واللّه إنه لنبيّ، ولئن باهلنا ليستجيبنّ اللّه له فيهلكنا، ولا ينجينا شيء منه إلا أن نستقيله، فأقبلوا وقالوا لرسول اللّه (ص): نعطيك الرضا فاعفنا عن المباهلة وأقلنا. |
وثيقة صلح نجران |
فرجع رسول اللّه (ص) ولم يلاعنهم، فصالحهم على الجزية وأقالهم وكتب لهم هذا الكتاب: (بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي رسول اللّه (ص) لنجران، إذا كان عليهم حكمه: في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فافضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة، في كل رجب ألف حلة، وكل صفر ألف حلة، وكل حلة أوقية ما زادت على الخرج أو نقصت عن الأواقي فبحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بحساب، وعلى نجران مثواة رسلي ومنعهم من عشرين فدونه، ولايحبس رسول فوق شهر، وعليهم عارية ثلاثين درعاً وثلاثين فرساً وثلاثين بعيراً إذا كان كيد باليمن ذو معذرة، وما هلك مما أعاروا رسولي من دروع أو خيل أو ركاب فهو ضمان على رسولي حتى يؤدّيه إليهم، ولنجران وحِشْيتها جوار اللّه وذمّة النبيّ على أنفسهم وسكنهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم، وأن لا يغيروا مما كانوا عليه، ولا يغير حق من حقوقهم ولا ملّتهم، ولا يغير اُسقف من أساقفتهم، ولا راهب من رهبانيتهم، ولا رقة من رقيته، وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وليس عليهم دية ولا دم جاهلية ولا يخسرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل فيهم فيسهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين، ومن أكل ربا فذمّتي منه بريئة، ولا يؤخذ منهم رجل بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة بجوار اللّه وذمّة محمد رسول اللّه حتى يأتي اللّه بأمره ما نصحوا وأصلحوا فيما عليهم غير مبتلين بظلم). ثم قال لهم رسول اللّه (ص): أما والذي بعثني بالحق لو باهلتكم بمن معي من أهل بيتي ما ترك اللّه على ظهر الأرض نصرانياً إلا أهلكه، ولأضرم اللّه عليكم الوادي ناراً تأجج، ثم ساقها إلى من وراءكم في أسرع من طرفة العين فحرّقتهم تأجّجاً. فهبط عليه (ص) جبرئيل وقال له: ان اللّه يقرؤك السلام ويقول لك: وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني، لو باهلت بهؤلاء الذين معك من أهل بيتك أهلَ السماء وأهل الأرض لتساقطت عليهم السماء كسفاً متهافتة، ولتقطّعت الأرضون زبراً سايحة، فلم تستقر عليها بعد ذلك. عندها رفع رسول اللّه (ص) يديه إلى السماء وعيناه ترمقان إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال: على من ظلمكم حقكم وبخسني الأجر الذي افترضه اللّه عليهم فيكم بهلة اللّه تتابع إلى يوم القيامة. |
آية المباهلة: وسام من اللّه تعالى |
عن علي (ع) قال: خرج رسول اللّه (ص) حين خرج لمباهلة النصارى بي وبفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام). وعن مجاهد قال: قلت لابن عباس: من الذين أراد رسول اللّه (ص) أن يباهل بهم؟ قال: علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) والأنفس: النبي (ص) وعلي(ع).. وعن الشعبي قال: قال جابر: (أنفسنا وأنفسكم): رسول اللّه (ص) وعلي(ع)، و(أبناءنا): الحسن والحسين (ع)، و(نساءنا): فاطمة (ع). وعن ســعـــد بن أبي وقاص انه قال: لما نزل قـــوله تعالى: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)(4) دعا رسول اللّه (ص) علياً وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وقال: اللّهمّ هؤلاء أهلي. وإلى غير ذلك ممّا يدلّ على انّ آية المباهلة وسام من اللّه تبارك وتعالى منحه وخصّه برسوله (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) دون سائر خلقه. |
سرية البجلي |
وفي هذه السنة ـ سنة تسع من الهجرة النبوية المباركة ـ بعث رسول اللّه (ص) جرير بن عبداللّه البجلي إلى تخريب (ذي الخلصة) وهو صنم كان لقبائل من العرب. وبعث (ص) أيضاً إلى ذي الكلاع فأسلم وأسلمت امرأته خزيمة بنت أبرهة بن الصباح، واسم ذي الكلاع سميفع، وقيل: انه كان قد استعلى أمره حتى ادعى الربوبية. |
مع عمرو بن معدي كرب |
لما عاد رسول اللّه (ص) من تبوك إلى المدينة قدم إليه عمرو بن معدي كرب وهو من بني زبيد، ومن الشعراء الفرسان في الجاهلية: وذلك أوائل السنة العاشرة من الهجرة النبوية المباركة، فقال له رسول اللّه (ص): أسلم يا عمرو يؤمنك اللّه من الفزع الأكبر. قال: وما الفزع الأكبر فإني لا أفزع؟! قال (ص): يا عمرو، انه ليس كما تظنّ وتحسب، ان الناس يصاح بهم صيحة واحدة، فلا يبقى ميّت إلا نشر، ولا حيّ إلاّ مات، إلاّ ما شاء اللّه ، ثم يصاح بهم صيحة اُخرى، فينشر من مات، ويصفّون جميعاً، وتنشقّ السماء وتهدّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً، وترمي النار بمثل الجبال شرراً، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه، وذكر ذنبه، وشغل بنفسه، إلا من شاء اللّه، فأين أنت يا عمرو من هذا؟ قال عمرو: ألا إني أسمع أمراً عظيماً، فآمن باللّه ورسوله وآمن معه من قومه ناس ورجعوا إلى قومهم، ثم ان عمرو بن معدي كرب نظر إلى قاتل أبيه فأخذ برقبته ثم جاء به إلى رسول اللّه (ص) وقال: أعنّي على هذا الفاجر الذي قتل والدي. فقال له رسول اللّه (ص) بعد أن أمره بإطلاق سراحه: أهدر الإسلام ما كان في الجاهلية, فاغتاظ عمرو من ذلك وانصرف مرتدّاً، وفي طريقه أغار على قوم من بني الحارث بن كعب ثم مضى إلى قومه. |
سريتان متزامنتان |
فلما بلغ ذلك رسول اللّه (ص) استدعى علياً (ع) وأمّره على المهاجرين وأنفذه إلى بني زبيد، وأرسل خالد بن الوليد في الأعراب وأمره أن يعمد إلى جعفي ـ بطن من مذحج ـ فإذا التقيا فأمير الناس علي (ع). فسار علي (ع) واستعمل على مقدّمته خالد بن سعيد بن العاص، واستعمل خالد على مقدمته أباموسى الأشعري، فأما جعفي فإنها لما سمعت بالجيش افترقت فرقتين: فرقة ذهبت إلى اليمن، وفرقة انضمّت إلى بني زبيد. فبلغ ذلك علياً (ع) فكتب إلى خالد بن الوليد: ان قف حيث أدركك رسولي، فلم يقف، فكتب (ع) إلى خالد بن سعيد بن العاص: بأن يتعرّض له حتى يحبسه، وأدركه علي (ع)، ثم سار حتى لقي بني زيد بواد يقال له: كِسر. فلما رآه بنو زيد قالوا لعمرو: كيف أنت إذا لقيك هذا الغلام القرشي فأخذ منك الاتاوة؟ قال عمرو: سيعلم ان لقيني، فخرج عمرو يطلب مبارزاً. فنهض إليه علي (ع) وقام خالد بن سعيد وقال: يا أبا الحسن بأبي أنت واُمّي دعني اُبارزه. فقال له علي (ع): إن كنت ترى انّ لي عليك طاعة فقف مكانك، فوقف. ثم برز (ع) إليه فصاح به صيحة، فانهزم عمرو مولّياً، ولكن ثبت أخوه وابن أخيه فقتلا، وأخذت امرأته ركانة بنت سلامة وسبيت نساء منهم. ثم انصرف علي (ع) وخلّف على بني زبيد خالد بن سعيد ليقبض صدقاتهم، ويؤمّن من عاد إليه من هرابهم مسلماً، فرجع عمرو بن معدي كرب واستأذن على خالد بن سعيد، فأذن له فعاد إلى الإسلام، فكلّمه في امرأته وولده فوهبهم له، وكان لعمرو سيف يسمّيه: الصمصامة، فلما وهب خالد بن سعيد لعمرو امرأته وولده وهب له عمرو الصمصامة. |
سريتان إلى اليمن |
ثم ان رسول اللّه (ص) بعث خالد بن الوليد في السنة العاشرة من الهجرة النبوية المباركة، وذلك بعد قصة عمرو بن معدي كرب إلى أهل اليمن ليدعوهم إلى الإسلام، وأنفذ معه جماعة من المسلمين فيهم البراء بن عازب. فلما وصلها أقام على القوم ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام فلم يجبه أحد. فدعا رسول اللّه (ص) علياً (ع) وأمره أن يسير إلى اليمن وأن يقفل خالداً ومن معه، وقال له: إن أراد أحد ممن مع خالد أن يعقب معك فاتركه. قال البراء بن عازب: فكنت ممن عقب معه، فلما بلغ القوم الخبر تجمعوا له، فصلّى بنا علي بن أبي طالب (ع) الفجر، ثم تقدّم بين أيدينا فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قرأ على القوم كتاب رسول اللّه (ص) إليهم، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك علي (ع) إلى رسول اللّه (ص). فلما وصله كتاب علي (ع) وقريء عليه استبشر وابتهج وخرّ ساجداً شكراً للّه تعالى، ثم رفع رأسه وجلس وقال: السلام على همدان، ثم تتابع بعد إسلام همدان أهل اليمن على قبول الإسلام والدخول فيه. |
من تعليمات السماء |
قال علي (ع): بعثني رسول اللّه (ص) إلى اليمن وقال لي: يا علي لا تقاتلنّ أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم اللّه لئن يهدي اللّه على يديك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت. قال (ع): فقلت: يا رسول اللّه تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم؟ فضرب رسول اللّه (ص) بيده في صدري وقال: (اللّهمّ اهدِ قلبه، وثبّت لسانه) فوالّذي نفسي بيده ما شككت في قضاء بين اثنين. ثم أوصاه وقال له: يا علي اُوصيك بالدعاء، فإن معه الإجابة، وبالشكر، فإن معه المزيد، وإياك أن تخفر عهداً وتعين عليه، وأنهاك عن المكر، فإنه لا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله، وأنهاك عن البغي، فإنه من بغي عليه لينصرنّه اللّه. |
أذى علي (ع) أذى رسول اللّه (ص) |
وروي عن الفريقين، عن عمرو بن شاس الأسلمي انه قال: كنت مع علي ابن أبي طالب (ع) في خيله إلى اليمن، فلحقني من علي (ع) أمر حسبته جفاءاً منه، فوجدت عليه في نفسي، فلما قدمت المدينة اشتكيته عند من لقيته من أصحابي. فوصل ذلك إلى رسول اللّه (ص) فأقبلت يوماً ورسول اللّه (ص) جالس في المسجد، فنظر إليّ حتى جلست إليه، فقال (ص): يا عمرو بن شاس لقد آذيتني. فقلت: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، أعوذ باللّه أن أكون قد آذيت رسول اللّه. فقال (ص): (من آذى علياً فقد آذاني)(5). |
سرية اُسامة بن زيد |
وكانت هذه آخر سرية بعثها رسول اللّه (ص) في أُخريات أيامه، وسيأتي ذكرها(6).
|
1 ـ التوبة: 1 ـ 2. 2 ـ آل عمران: 59 ـ 61. 3 ـ هذا وله (ص) يومئذ عدة نسوة لم يأتِ بإحداهنّ. 4 ـ آل عمران: 61. 5 ـ راجع بحار الأنوار: ج21 ص360 ب34 ح1, وبحار الأنوار: ج39 ص232 ب89 ح1. 6 ـ راجع الفصل الأخير من الكتاب. |