فهرس الفصل الثاني | المؤلفات |
غزوة تبوك |
و(تبوك) موضع معروف من بلاد البلقاء، ذو قلعة حصينة رفيعة الجدران، عند عين ماء على منتصف طريق المدينة إلى دمشق. وتسمّى هذه الغزوة: (الفاضحة) أيضاً، لافتضاح المنافقين فيها. وكذا تسمّى: (غزوة العسرة) أيضاً، لأنهم كانوا قد خرجوا في قلة من الظهر، وشدّة من الحر، وجفاف من الماء، وجدب من البلاد، حتى كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان يلوك أحدهم التمر حتى يجد طعمها، ثم يعطيها صاحبه فيمصّها، وهكذا، فسمّيت لذلك (غزوة العسرة). وقيل: انهم كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه من الماء. وكانت في شهر رجب من السنة التاسعة من الهجرة النبوية المباركة، وهي آخر غزوات رسول اللّه (ص). وسببها: انّ نصارى العرب الذين كانوا يقطنون المناطق الحدودية للشام كانوا قد كتبوا إلى هرقل ملك الروم يطلبون منه أن يبعث إليهم من يجهّزهم لمحاربة هذا الرجل الذي خرج يدّعي النبوّة، ومن معه من المسلمين. فبعث إليهم رجلاً من عظمائهم وجهّز معه أربعين ألفاً. فبلغ ذلك النبي (ص) بسبب الصيافة التي يمترون في الصيف، حيث كانوا يقدمون إلى المدينة من الشام لبيع أمتعتهم، فأشاعوا في المدينة: ان الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول اللّه (ص) في عسكر عظيم، وانّ هرقل قد سار في جمعه وجنوده، وجلب معه غسان وجذام وفهراً وعاملة، وقد قدم عساكره البلقاء، ونزل هو حمص. فأمر اللّه تعالى رسوله (ص) بحرب الروم وغزوهم، وأمر رسول اللّه (ص) أصحابه بالتهيّؤ إلى تبوك، كما وبعث إلى القبائل من العرب وإلى أهل مكة ـ وكانوا كلهم مسلمين في هذا الوقت ـ يستنفرهم. وحضّ رسول اللّه (ص) من عنده من المسلمين على الجهاد، وأمر بعسكره فضرب في ثنية الوداع، وأمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوّة به، ومن كان عنده شيء أخرجه، وحملوا وقوّوا وحثوا على ذلك، وخطب رسول اللّه (ص) عليهم خطبة غرّاء، جاء فيها بعد الحمد للّه والثناء عليه تعالى ما يلي: |
من كلمات الرسول (ص) |
(أيها الناس انّ أصدق الحديث كتاب اللّه، وأولى القول كلمة التقوى، وخير الملل ملّة إبراهيم، وخير السنن سنّة محمّد، وأشرف الحديث ذكر اللّه، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الاُمور عزائمها، وشرّ الاُمور محدثاتها، وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتّبع، وشرّ العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت، وشرّ الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزراً، ومنهم من لا يذكر اللّه إلاّ هجراً، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة اللّه، وخير ما اُلقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر، والتباعد عمل الجاهلية، والغلول من جمر جهنّم، والسكر جمر النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الآثام، والنساء حبائل إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشرّ المكاسب كسب الربا، وشرّ المآكل أكل مال اليتيم ظلماً، والسعيد من وعظ بغيره، والشقيّ من شقي في بطن اُمّه، وانما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتيمه، وأربى الربا الكذب، وكل ما هو آتٍ قريب، وشنآن المؤمن فسق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية اللّه، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن توكّل على اللّه كفاه، ومن صبر ظفر، ومن يعفُ يعفُ اللّه عنه، ومن كظم الغيظ يأجره اللّه، ومن يصبر على الرزيّة يعوّضه اللّه، ومن يتبع السمعة يسمّع اللّه به، ومن يصم يضاعف اللّه له، ومن يعصِ اللّه يعذّبه، اللّهمّ اغفر لي ولاُمّتي، اللّهمّ اغفر لي ولاُمّتي، أستغفر اللّه لي ولكم...). قال الراوي: فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذه الخطبة، وقدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم، وقعد عنه قوم من المنافقين وغيرهم. وكان رسول اللّه (ص) قلّ ما يخرج في غزوة إلاّ كنّى عنها، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيّنها للناس لبعد الشقة وشدّة الزمان وكثرة العدوّ الذي يعمد له، ليتأهّب الناس لذلك أهبته. فأمر الناس بالجهاز وأخبر أنه يريد الروم. |
مع الجدّ بن قيس |
ثم ان رسول اللّه (ص) قال ذات يوم ـ وهو في جهازه ذلك ـ لرجل من بني سلمة يقال له (الجدّ بن قيس): يا أبا وهب ألا تنفر معنا في هذه الغزوة؟ فقال: يا رسول اللّه أو تأذن لي أن اُقيم ولا تفتني، فواللّه لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخشى ان رأيت بنات الأصفر أني لا أصبر. فأعرض عنه رسول اللّه (ص) وأذن له، فأنزل اللّه تعالى على رسوله في ذلك: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين)(1). ثم قال الجد بن قيس: أيطمع محمد انّ حرب الروم مثل حرب غيرهم؟! لا يرجع من هؤلاء أحد أبداً. كما وقال لقومه: لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد، وشكاً في الحق، وإرجافاً بالرسول، فأنزل اللّه سبحانه: (فرح المخلّفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه وقالوا لا تنفروا في الحرّ قل نار جهنّم أشدّ حرّاً). إلى قوله تعالى: (وماتوا وهم فاسقون)(2) ففضح اللّه الجدّ بن قيس وأصحابه. وقيل: ان رهطاً من المنافقين كان يقول بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الاصفر كقتال العرب بعضهم لبعض؟ واللّه لكأني بكم غداً مقرنين بالحبال، يقولون ذلك إرجافاً بالمؤمنين، فأرسل رسول اللّه (ص) إليهم عمار بن ياسر ينبّأهم بما قالوا، فانطلق إليهم عمار فنبأهم بقولهم، فأتوا رسول اللّه (ص) يعتذرون إليه وانتهوا عن مقالتهم. هذا وقد نوى ابن اُبي أن يشترك في غزوة تبوك فضرب خيمته في معسكر المسلمين، لكنه عدل عن رأيه ساعة ارتحال المسلمين ورجع هو وأصحابه إلى المدينة وقد أضمر سوءاً، فغضّ عنه رسول اللّه (ص) ولم يعترضه بشيء. |
الضعفاء |
ثم إنّ رجالاً من المسلمين أتوا رسول اللّه (ص)، وكانوا سبعة نفر. فكان من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وكان قد شهد بدراً. ومن بني حارثة: علبة بن زيد. ومن بني مازن بن النجار: أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب. ومن بني سلمة: عمرو بن غنمة. ومن بني زريق: سلمة بن صخر. ومن بني الغرّ: ناضر بن سارية السلمي. ومن بني واقف: هرمي بن عمير. هؤلاء السبعة جاءوا وهم يبكون، فاستحملوا رسول اللّه (ص) وكانوا أهل الحاجة، فقال (ص): لا أجد ما أحملكم عليه. وقيل: انهم جاءوا وقالوا: يا رسول اللّه ليس بنا قوّة أن نخرج معك، فأنزل اللّه تعالى فيهم: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الّذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا للّه ورسوله) إلى قوله سبحانه: (تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً أن لا يجدوا ما ينفقون)(3). وقد كان نفر من المسلمين أهل نيات وبصائر تخلفوا عن رسول اللّه (ص) من غير شك ولا ارتياب، ولكنهم قالوا: نلحق برسول اللّه (ص)، منهم: كعب بن مالك أخو بني سلمة، ومرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن اُمية أخو بني واقف، وأبو خيثمة أخو بني سالم، وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم. |
الإستخلاف وحديث المنزلة |
فلما اجتمع لرسول اللّه (ص) الخيول ارتحل من ثنية الوداع، وذلك بعد أن استخلف علياً (ع) على المدينة، فإنّ جبرئيل كان قد أتاه وقال له: إنّ العليّ الأعلى يقرؤك السلام ويقول لك: إمّا أن تخرج أنت ويقيم علي، أو تقيم أنت ويخرج علي. فلمّا خلّفه على المدينة وأمره بالإقامة فيهم، أرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً منه وتشؤماً به، فلما بلغ ذلك عليّاً (ع) أخذ سيفه وسلاحه ثم خرج حتى أتى رسول اللّه (ص) وهو نازل بالجرف. فقال له رسول اللّه (ص) لما رآه مقبلاً: يا علي ألم اُخلّفك على المدينة؟ قال (ع): نعم يا رسول اللّه، ولكن زعم المنافقون انك انما خلفتني لأنك استثقلتني وتشأمت بي. فقال (ص): كذب المنافقون يا علي، ولكنّي خلّفتك لما تركت ورائي، أما يكفيك انك جلدة ما بين عيني ونور بصري، وكالروح في بدني، فارجع فاخلفني، فإن المدينة لا تصلح إلاّ بي وبك، أفلا ترضى يا علي أن تكون أخي وأنا أخوك، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي، وأنت خليفتي في اُمّتي، وأنت وزيري وأخي في الدنيا والآخرة؟ فرجع علي (ع) إلى المدينة. |
مع أبي خيثمة |
ثم إنّ أبا خيثمة رجع ـ بعد أن سار رسول اللّه (ص) أياماً ـ إلى أهله في يوم حارّ، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائط قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت فيه ماءاً وهيّأت له فيه طعاماً. فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال: لا واللّه ما هذا بإنصاف، رسول اللّه (ص) في وهج الشمس ولفح الريح قد حمل السلاح يجاهد في سبيل اللّه، وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيّأ وامرأتين حسناوين في ماله وعريشه مقيم! لا واللّه ما هذا بالنصف. ثم قال: واللّه لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه (ص)، فهيّئا لي زاداً، ففعلتا، ثم قدّم ناقته فشدّ عليها رحله، ثم خرج في طلب رسول اللّه (ص) حتى أدركه حين نزل تبوك. وقد كان أدرك أبو خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول اللّه (ص) فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك، قال أبو خيثمة لعمير بن وهب: إنّ لي ذنباً فما عليك أن تتخلّف عني حتى آتي رسول اللّه (ص)، ففعل، حتى إذا دنا من رسول اللّه (ص) وهو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق. فقال رسول اللّه (ص): كن أبا خيثمة. فقالوا: يا رسول اللّه (ص) هو واللّه أبو خيثمة. فلما أناخ أقبل فسلّم على رسول اللّه (ص) وأخبره خبره. فقال له رسول اللّه (ص) خيراً، ودعا له بخير.ثم التحق الجمحي بهم أيضاً. |
من علامات النبوّة |
روى: انه نال رسول اللّه (ص) والناس معه لما ساروا يومهم إلى تبوك عطش شديد، كادت تنقطع له أعناق الرجال والخيل عطشاً، فدعا (ص) بركوة فصبّ فيها ماءاً قليلاً من إداوة كانت معه ووضع أصابعه عليها فنبع الماء من تحت أصابعه، فاستقوا وارتووا والعسكر ثلاثون ألف رجل سوى الخيل والإبل. وروي: انه لما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول اللّه (ص)، فدعا اللّه لهم بأن يسقيهم، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء، فقيل لبعض المنافقين: ويحك هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارّة. حتى إذا كان رسول اللّه (ص) ببعض الطريق ضلّت ناقته القصوى، فخرج أصحابه في طلبها، فقال عمارة بن حزم كالمستهزئ: يخبرنا محمد بخبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فقال رسول اللّه (ص): إنّ رجلاً قال: يخبرنا محمد بأمر السماء، وهو لا يدري أين ناقته؟ فاعلموا اني لا أعلم إلا ما علّمني اللّه، وقد دلّني اللّه عليها الآن، وهي في هذا الوادي من شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فرأوها كما وصف، فأخذوها وجاءوا بها إليه. |
مواساة أبي ذر |
ثم مضى رسول اللّه (ص) سائراً، فجعل يتخلّف عنه الرجل فيقولون: يا رسول اللّه تخلّف فلان. حتى قيل: يا رسول اللّه تخلّف أبو ذر وأبطأ به بعيره، وقد كان مدة تخلّف أبي ذر عن رسول اللّه (ص) ثلاثة أيام، وذلك ان جمله كان أعجف، وقد وقف عليه في بعض الطريق، فلما أبطأ عليه تركه وأخذ متاعه وثيابه، فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه (ص) ماشياً. ونزل رسول اللّه (ص) في بعض منازلـه، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقالوا: يا رسول اللّه إنّ هذا الرجل يمشي على الطريق وحده. فقال رسول اللّه (ص): كن أبا ذر. فلما تأمّله القوم قالوا: يا رسول اللّه هو واللّه أبوذر. فقال رسول اللّه (ص): أدركوه بالماء فإنه عطشان. فأدركوه بالماء، ووافى أبو ذر رسول اللّه (ص) ومعه اداوة فيها ماء، فقال له: يا أباذر معك ماء وعطشت؟ فقال: نعم يا رسول اللّه بأبي أنت واُمّي، انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد ، فقلت: لا اُشربه حتى يشربه حبيبي رسول اللّه(ص). فقال له رسول اللّه (ص): يا أبا ذر رحمك اللّه أنت المطرود عن حرمي بعدي لمحبّتك لأهل بيتي، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق، يتولّون غسلك وتجهيزك والصلاة عليك ودفنك، اُولئك رفقائي في جنّة الخلد التي وعد المتّقون. |
أبو ذر في الربذة |
وتحقّق كل ما قاله رسول اللّه (ص) في حقّ أبي ذر، فقد سيّره عثمان إلى الربذة، فمات فيها ابنه (ذر) غريباً، حيث لم يكن مع أبي ذر بالربذة أحد إلا امرأته وابنه ذر، وابنته ذرّة. فلما مات ابنه ذر وقف على قبره وقال: رحمك اللّه ياذر، لقد كنت كريم الخلق، باراً بالوالدين، وما عليّ في موتك من غضاضة، وما بي إلى غير اللّه حاجة، وقد شغلني الإهتمام لك عن الإغتمام بك، ولولا هول المطلع لأحببت أن أكون مكانك، فليت شعري ما قالوا لك وما قلت لهم؟ ثم رفع يده نحو السماء وقال: اللّهمّ انك فرضت لك عليه حقوقاً، وفرضت لي عليه حقوقاً، فإني قد وهبت له ما فرضت لي عليه من حقوقي، فهب له ما فرضت عليه من حقوقك، فإنك أولى بالحق والكرم منّي. وكانت لأبي ذر غنيمات يعيش هو وعياله منها، فأصابها داء فماتت كلها، فأصاب أباذر وأهله وابنته الجوع، فماتت أهله. فقالت ابنته: أصابنا الجوع وبقينا ثلاثة أيام لم نأكل شيئاً، فقال لي أبي: يابنيّة قومي بنا إلى الرمل نطلب القثّ وهو نبت له حبّ، فصرنا إلى الرمل فلم نجد شيئاً، فجمع أبي رملاً ووضع رأسه عليه ورأيت عينه قد انقلبت فبكيت وقلت: ياأبة كيف أصنع بك وأنا وحيدة؟ فقال: يا بنتي لا تخافي فإني إذا متُّ جاءك من أهل العراق من يكفيك أمري، فإنه أخبرني حبيبي رسول اللّه (ص) في غزوة تبوك فقال: (يا أبا ذر تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك، وتدخل الجنّة وحدك، يسعد بك أقوام من أهل العراق، يتولّون غسلك وتجهيزك ودفنك) فإذا أنا متُّ فمدّي الكساء على وجهي، ثم اقعدي على طريق العراق، فإذا أقبل ركب فقومي إليهم وقولي: هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه (ص) قد توفّي. فلما عاين الموت قال: مرحباً بحبيب أتى على فاقة، لا أفلح من ندم، اللّهمّ خنّقني خناقك، فوحقّك انك لتعلم انّي اُحب لقاءك. فلما مات مددت الكساء عليه، ثم قعدت على طريق العراق، فجاء نفر فقلت لهم: يا معشر المسلمين هذا أبوذر صاحب رسول اللّه (ص) قد توفّي. فنزلوا ومشوا يبكون، فجاءوا فغسّلوه وكفّنوه ودفنوه، وكان فيهم مالك الأشتر، فإنه قال: كفنته في حلّة كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم. ثم لما دفنوه وقف الأشتر على قبره وقال: اللّهمّ هذا أبو ذر صاحب رسول اللّه (ص) عَبَدَك في العابدين، وجاهد فيك المشركين، لم يغيّر ولم يبدّل، لكنه رأى منكراً فغيّره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي وحرم واحتقر، ثم مات وحيداً غريباً، اللّهمّ فاقصم من حرمه، ونفاه من مهاجره وحرم رسولك (ص). فقال من كان معه: آمين. وقيل: انه لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة فأصابه بها قدَره لم يكن معه بها أحد إلاّ امرأته وغلامه. فأوصاهما أن غسّلاني وكفّناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول راكب يمرّ بكم فقولوا: هذا أبوذر صاحب رسول اللّه (ص)، فأعينونا على دفنه. فلما مات فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق، وأقبل عبداللّه بن مسعود ومالك الأشتر في رهط من أهل العراق عماراً، فلم يرعهم إلا بالجنازة على ظهر الطريق، فقام إليهم الغلام فقال: هذا أبوذر صاحب رسول اللّه (ص) فأعينونا على دفنه، فاستهل عبداللّه يبكي ويقول: صدق رسول اللّه (ص)، تمشي وحدك، وتموت وحدك، ثم نزل هو وأصحابه فواروه، ثم حدثهم عبداللّه بن مسعود حديثه وما قال له رسول اللّه (ص) في مسيره إلى تبوك. |
وقود جهنم |
ومرّ رسول اللّه (ص) مع من كان معه في طريقه إلى تبوك بجبل يرشح الماء من أعلاه إلى أسفله من غير سيلان، فتعجّب القوم منه وقالوا: ما أعجب رشح هذا الجبل؟ فقال لهم رسول اللّه (ص): انه يبكي، فازداد تعجّبهم وقالوا: والجبل يبكي؟! قال (ص): نعم، أتحبّون أن تعلموا ذلك؟ قالوا بتلهّف واشتياق: نعم نحبّ ذلك. فالتفت رسول اللّه (ص) إلى الجبل وقال له وكأنّه يكلّم إنساناً: ممّ بكاؤك أيّها الجبل؟ فأجابه الجبل وقد سمعه الجماعة بلسان فصيح: يا رسول اللّه، مرّ بي عيسى بن مريم وهو يتلو: (ناراً وقودها الناس والحجارة)(4) فأنا أبكي من ذلك اليوم خوفاً أن أكون من تلك الحجارة. فقال له رسول اللّه (ص): اسكن من بكائك، فإنّك لست منها، إنما تلك الحجارة الكبريت، فسكن الجبل وجفّ ذلك الرشح منه في الوقت حتى لم ير شيء من ذلك الرشح، ومن تلك الرطوبة التي كانت بعد ذلك. |
في أرض تبوك |
وقدم رسول اللّه (ص) تبوك في شعبان يوم الثلاثاء، وأقام بقية شعبان وأياماً من شهر رمضان المبارك، فكان مدّة إقامته بها قريباً من شهرين، ولما نزل رسول اللّه (ص) ومن معه بتبوك، واختلفت الرسل بينه وبين ملك الروم، طالت في ذلك أياماً حتى نفد الزاد والأكل، فشكوا نفاد زادهم إلى رسول اللّه (ص). فقال (ص):من كان معه شيء من الدقيق،أو التمر،أو السويق، فليأتني به. فجاء أحد بكف دقيق، والآخر بكف تمر، والثالث بكف سويق، فبسط رداءه وجعل ذلك عليه ووضع يده الكريمة على كل واحد منها ثم قال: نادوا في الناس: من أراد الزاد فليأت، فأقبل الناس يأخذون الدقيق، والتمر، والسويق، حتى ملأوا جميع ما كان معهم من الأوعية، وذلك الدقيق والتمر والسويق على حاله لم ينقص من واحد منها شيء. |
مع صاحب أيلة |
وأتى رسول اللّه (ص) وهو بتبوك يُحنة بن رؤبة، صاحب أيله، وأيله بالفتح مدينة على الشريط الحدودي لبلاد الشام فصالحه على الجزية، وكتب له رسول اللّه (ص) كتاباً بذلك واشترط عليهم قري من مرّ بهم من المسلمين، والكتاب عندهم. وكذلك كتب لأهل جرباء، وأهل أذرح، وأهل مقنا، كتب لكل منهم كتاباً مستقلاً وصالحهم على الجزية وهي أيضاً من البلاد الواقعة على الشريط الحدودي لبلاد الشام. |
سرية أبي عبيدة إلى جذام |
وبعث رسول اللّه (ص) وهو بتبوك أباعبيدة بن الجراح إلى جمع من جذام، مع واحد منهم يقال له: زنباع بن روح الجذامي، فأصاب منهم طرفاً، وأصاب منهم سبايا، وبذلك قضى على غائلتهم وأمن المسلمون جانبهم. |
سرية سعد إلى بني سليم |
كما وبعث رسول اللّه (ص) وهو بتبوك أيضاً سعد بن عبادة إلى ناس من بني سليم وجموع من بلّى، فلما قارب القوم وأحسّوا به ولّوا هاربين وأقلعوا من طغيانهم وتمرّدهم. |
سرية خالد إلى الاكيدر |
وبعث رسول اللّه (ص) أيضاً وهو بتبوك خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارساً، وقيل: انه بعث الزبير وسماك بن خرشة في عشرين من المسلمين، إلى أكيدر بن عبدالملك من كندة، وكان ملكاً عليها، وكان نصرانياً وحاكماً على منطقة دومة الجندل، ودومة الجندل: حصن وقرى بين الشام والمدينة قرب جبل طيء، ودومة هي من قريات من وادي القرى، وذكر أنّ عليها حصناً حصيناً يقال له مارد وهو حصن أكيدر الملك. وأكيدر هذا كان يهدّد رسول اللّه (ص) بأنه سيقصده ويقتل أصحابه ويبيد خضراءهم، وكان المنافقون يهدّدون المسلمين بهم وبسطوهم عليهم. ولذلك قال خالد: يا رسول اللّه كيف لي به وسط بلاد كلب وأنمار وما هو عليه من العدّة والعدد وأنا في اُناس يسير؟ فقال رسول اللّه (ص): لعلّ اللّه يكفيكه بصيد البقر فتأخذه. فخرج خالد ومن معه فلما بلغ قريباً من حصنه بمنظر للعين وكانت ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له في الحصن ومعه امرأتين له يشرب الخمر معهما، إذ أقبلت البقر تنتطح وتحك بقرونها باب الحصن، فأشرفت امرأتاه على باب الحصن وقالتا لما رأتا البقر تحكّ بقرنها: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا واللّه. قالتا: فمن يترك هذه الليلة؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فاُسرج له وركب معه نفر من أهل بيته ومعه أخوه حسّان، فخرجوا من حصنهم فطلبوها. |
الاكيدر في الأسر |
فلما خرج الاكيدر ونفر معه يطلبون الصيد، تلقّتهم خيل رسول اللّه (ص)، فاستأسر أكيدر وامتنع حسّان فقاتل فقتل، وهرب من كان معه ودخل الحصن، وأغلقوا الباب دونهم، وكان على اكيدر قباء مخوَّص بالذهب، فقال: لي إليكم حاجة. فقالوا: وما هي؟ قال: تأخذون قبائي هذا مع سيفي ومنطقتي وتبعثون بها إليه (ص)، ثم تحملونني إليه في قميصي لئلا يراني في هذا الزيّ، بل يراني في زيّ التواضع، فلعلّه أن يرحمني. ففعلوا ذلك، فلما وصل المبعوث بقباء اكيدر إلى رسول اللّه (ص) جعل المسلمون يلمسونه ويتعجّبون منه ويقولون: هذا من حليّ الجنّة. فقال رسول اللّه (ص): أتعجبون من هذا؟ لمنديل سعد بن معاذ في الجنّة خير من هذا. قالوا: وذلك خير من هذا؟ قال (ص): لخيط منه في الجنّة أفضل من ملء الأرض إلى السماء مثل هذا الذهب. ثم بعد أن بعث خالد بقباء اكيدر وسيفه ومنطقته إلى رسول اللّه (ص) أقبل بأكيدر وسار معه أصحابه إلى باب الحصن، حتى إذا وصله سألهم أن يفتحوه له, فأبوا. فقال له اكيدر: أرسلني أفتح الباب. فأخذ عليه موثقاً وأرسله، فدخل وفتح الباب حتى دخل خالد وأصحابه، وأعطاه ثمانمائة رأس، وألفي بعير، وأربعمائة درع، وأربعمائة رمح، وخمسمائة سيف. فقبل ذلك منه وأقبل به إلى رسول اللّه (ص) فحقن (ص) دمه وصالحه على الجزية، وعلى أن يضيّفوا من مرّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام، وأن يزوّدوهم إلى المرحلة التي تليها، ثم خلّى سبيله بعد أن كتب له كتاباً بإمارته على قومه. |
عبداللّه ذو البجادين |
قال عبداللّه بن مسعود: قمت في جوف ليلة من الليالي ونحن في غزوة تبوك، فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر، فاتبعتها أنظر إليها، فإذا رسول اللّه (ص) وجماعة، وإذا (عبداللّه ذو البجادين) قد مات، وإذا هم قد حفروا له ورسول اللّه (ص) في حفرته. فلما هيّأه لشقه قال: اللّهمّ إني أمسيت راضياً عنه فارض عنه، وكان يقول عبداللّه بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحفرة. وانما سمي (ذو البجادين) لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره، والبجاد: الكساء الغليظ، فهرب منهم إلى رسول اللّه (ص)، فلما كان قريباً منه شق بجاده بإثنتين فاتّزر بواحدة واشتمل بالاُخرى، ثم أتى رسول اللّه (ص) فقيل له (ذو البجادين) . |
المفاوضات وفوائدها |
ثم انه كانت نتيجة اختلاف الرسل بين رسول اللّه (ص) وبين هرقل ملك الروم، أن بعث هرقل رجلاً من خاصته ومورد ثقته وكان من غسّان فجاء لينظر إلى رسول اللّه (ص) وصفته وعلاماته، وإلى خاتم النبوّة بين كتفيه، وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من صفات النبي (ص) ثم انصرف إلى هرقل فذكرها له. فدعا هرقل قومه إلى التصديق به، فأبوا عليه حتى خافهم على ملكه فتركهم، ولكنه امتنع من قتال النبي (ص)، وكان اللّه قد أخبر نبيّه من قبل بأنه لا يحتاج في هذه الغزوة إلى حرب، ولا يبتلى بقتال عدوّ، وان الاُمور تنقاد له بغير سيف، وانه يرجع منها بامتحان أصحابه واختبارهم. ولذلك عاد رسول اللّه (ص) من غير قتال، وذلك بعد أن أرعب جانب العدوّ الرومي، وأبرم معاهدات مع البلاد الحدودية للشام وصالحهم على الجزية، وعلى عدم التعرّض ممّا مهّد الطريق بعدها كما مهدت حرب مؤتة من قبل الطريق لفتح بلاد الشام ودخول الناس في الإسلام. وقيل: انه شاور رسول اللّه (ص) أصحابه في التقدّم والمسير إليهم، فقال بعضهم: إن كنت أمرت بالمسير فسر. فقال رسول اللّه (ص): لو أمرت ما استشرتكم فيه. فقالوا: يا رسول اللّه إن للروم جموعاً كثيرة، وليس بها أحد من أهل الإسلام، وقد دنوت وأفزعهم دنوّك، لو رجعت هذه السنة حتى ترى أو يحدث اللّه لك في ذلك أمراً عظيماً. فانصرف رسول اللّه (ص) إلى المدينة، ولم يلق كيداً. وكان في الطريق ماء يخرج من وشل يروي الراكب والراكبين والثلاثة بواد يقال له: (وادي المشقق)، فقال رسول اللّه (ص): من سبقنا إلى الماء فلا يسقينّ منه شيئاً حتى نأتيه، فسبقه إليه نفر من المنافقين، فاستقوا ما فيه، فلما أتاه رسول اللّه(ص) وقف عليه فلم ير فيه شيئاً. فقال (ص): من سبقنا إلى هذا؟ فقيل: يا رسول اللّه فلان وفلان. فقال (ص): ألم أنهكم أن تستقوا منه شيئاً حتى آتيه؟ ثم نزل ووضع يده تحت الوشل، فجعل يصب في يده ما شاء اللّه أن يصب، ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا بما شاء اللّه أن يدعو، فانخرق من الماء وإن له حساً كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه. فقال رسول اللّه (ص): لئن بقيتم أو بقي منكم لتسمعنّ بهذا الطريق وقد أخصب ما بينه وما خلفه. |
المتآمرون على النبي (ص) وخليفته (ع) |
وفي مرجع رسول اللّه (ص) من تبوك، همّ المنافقون الذين كانوا مع رسول اللّه (ص) في تبوك بالغدر به وذلك في ليلة العقبة فعصمه اللّه منهم، كما وهمّ من بقي من مردة المنافقين بالمدينة في مؤامرة مشتركة بقتل علي (ع)، فما قدروا على مغالبة ربّهم، وقد حملهم على ذلك حسدهم لرسول اللّه (ص) في علي (ع). فعن حذيفة قال: كنت آخذاً بخطام ناقة رسول اللّه (ص) أقود به، وعمّار يسوق الناقة، ومرّة أنا أسوق وعمّار يقوده، حتى إذا كنّا بالعقبة، فإذا أنا بسبعة عشر راكباً قد اعترضوه فيها. قال: فصرخ بهم رسول اللّه (ص) وجعل عليهم لعنة اللّه، فولّوا مدبرين. فقال لنا رسول اللّه (ص): هل عرفتم القوم؟ قلنا: يا رسول اللّه قد كانوا متلثّمين، ولكن عرفناهم برواحلهم. قال (ص): هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة، ثم قال (ص): هل تدرون ما أرادوا؟ قلنا: لا . قال (ص): هذا جبرئيل نزل عليّ يخبرني بأنهم أرادوا أن ينفروا بي في العقبة فيقتلوني بها. قلنا: يا رسول اللّه ألا تبعث لعشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال (ص): لا، أكره أن تتحدّث العرب أنَّ محمداً قاتل بالقوم حتى إذا أظهره اللّه بهم أقبل عليهم يقتلهم. ثم قال (ص): اللّهمّ ارمهم بالدبيلة. قلنا: يا رسول اللّه وما الدبيلة؟ قال (ص): شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيورده النار وساءت مصيراً. |
القرآن يفضح المتآمرين |
ثم أخبر رسول اللّه (ص) حذيفة وعماراً بأسمائهم وأعدادهم، فكانوا اثني عشر رجلاً من بني اُمية، وخمسة من غيرهم، وكلهم من قريش، وما همّوا به، وأمرهما أن يكتما عليهم، وكان حذيفة يقال له: صاحب السرّ الذي لا يعلمه غيره. وفيهم أنزل تعالى: (يحذر المنافقون أن تُنزَّل عليهم سورة تنبّئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إنّ اللّه مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولنّ انما كنا نخوض ونلعب قل أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون). إلى قوله تعالى: (وما لهم في الأرض من وليّ ولا نصير)(5). وذلك ان القرآن مازال ينزل بكلام المنافقين حتى تركوا الكلام واقتصروا بالحواجب يغمزون. فقال بعضهم: ما تأمنون أن تسمّوا في القرآن فتفتضحوا أنتم وأعقابكم؟ هذه عقبة بين أيدينا لو رميناه منها لتقطع، فقعدوا على العقبة ويقال لها: عقبة ذي فتق، وائتمروا بينهم ليقتلوه. فقال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: انما كنا نخوض ونلعب، وإن لم يفطن لنقتلنّه، فحفظ اللّه رسوله من كيدهم، وأنزل فيهم تلك الآيات. |
مع مسجد ضرار |
ثم أقبل رسول اللّه (ص) من تبوك، فلمّا نزل بذي أوان وهو بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، جاءه خبر أبي عامر ومسجد الضرار من السماء. وكان من قصّة أبي عامر الراهب الذي سماه رسول اللّه (ص) بالفاسق لتآمره على الإسلام والمسلمين وتجسّسه عليهم انه كتب إلى مَن كان في المدينة من المنافقين كتاباً جاء فيه: ابنوا مسجدكم واستعدّوا بما استطعتم من قوّة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجند من الروم، فاُخرج محمداً وأصحابه من المدينة. فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا رسول اللّه (ص) فقالوا: إنّا فرغنا من بناء مسجدنا، وقد بنيناه لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية، فنحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة. فقال رسول اللّه (ص): إني على جناح سفر، وكان يتجهّز إلى تبوك. فانصرفوا، حتى إذا قدم رسول اللّه (ص) من تبوك غانماً ظافراً، ونزل بذي أوان، أتوه ثانية وسألوه اتيان مسجدهم، فأنزل اللّه تعالى عليه: (والّذين اتَّخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب اللّه ورسوله من قبل) إلى قوله سبحانه: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطّع قلوبهم واللّه عليم حكيم)(6). فبعث إليه رسول اللّه (ص) بأمر من اللّه تعالى من يهدمه ويحرقه ويتّخذه كناسة تلقى فيه الجيف، ففعلوا ذلك، وتفرّق عنه أهله، وهم يتوقّعون مجيء أبي عامر، لكنه مات قبل أن يبلغ ملك الروم. |
المتطهّرون والثناء عليهم |
ولما كان فيما نزل على رسول اللّه (ص) بشأن مسجد ضرار وذمّه، ومدح مسجد قباء وأهله قوله تعالى: (لمسجد اُسِّس على التقوى من أوّل يومٍ أحقّ أن تقوم فيه فيه رجال يحبّون أن يتطهَّروا واللّه يحبّ المطّـهّرين)(7). قال رسول اللّه (ص) لأهل قباء: ماذا تفعلون في طهركم، فإنّ اللّه تعالى قد أحسن الثناء عليكم؟ فقالوا: يا رسول اللّه إنا لا نكتفي بالإستنجاء بالأحجار، بل نغسل أثر الغائط ونتطهَّر منه ومن البول بالماء. فقال رسول اللّه (ص): لقد أنزل اللّه تعالى فيكم: ـ على رواية ـ (واللّه يحبّ المطّـهّرين). وبهذا وأمثاله من التعليمات السماوية حافظ الإسلام على اُصول الصحّة، وأساس النظافة ورعاية آدابها بالنسبة إلى الفرد والمجتمع. |
أول من يزوره الرسول (ص) |
ثم انّ رسول اللّه (ص) قدم المدينة، وكان إذا قدم من سفر استقبل بالحسن والحسين (عليهما السلام) فأخذهما إليه وضمَّهما إلى صدره، وحفّ المسلمون به حتى يدخل أول ما يدخل على ابنته فاطمة الزهراء (ع) احتفاءاً بها، وتقديراً لها، وإظهاراً لما لها من الفضل عند اللّه تعالى ورسوله (ص)، والمسلمون يقعدون بالباب، فإذا خرج من عندها مشوا معه، فإذا دخل منزله تفرَّقوا عنه وودَّعوه إلى منازلهم. |
هذه طابة |
وعن أبي حميد الساعدي قال: أقبلنا مع رسول اللّه (ص) من غزوة تبوك، حتى إذا أشرفنا على المدينة، ألقى بنظرة إليها وقال (ص): هذه طابة، وهذا اُحد، جبل يحبّنا ونحبّه. وفيه اشارة إلى مدح المدينة وأهلها وإلى بناء أمره على المحبّة والرحمة لكلّ شيء. |
مع الشركاء الغائبين |
ثم لما دنا رسول اللّه (ص) من المدينة التفت إلى أصحابه وقال: إنّ بالمدينة لأقواماً ما سرتم من مسير، ولا قطعتم من وادٍ، إلا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول اللّه وهم بالمدينة؟ قال (ص): نعم، وهم بالمدينة حبسهم العذر. وبهذا أشار رسول اللّه (ص) إلى انّ النية الحسنة لمن حبسه العذر الشرعي، لها الأثر الكبير في تقرير مصير الإنسان وانّها تشرك أصحابها في إحسان المحسنين، وتكسبهم من الأجر والثواب ما للمجاهدين عند اللّه من الأجر العظيم. |
المتخلّفون عن تبوك |
وقد تخلّف عن رسول اللّه (ص) قوم من المنافقين، وقوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق، منهم: كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن اُمية الواقفي. فلما تاب اللّه عليهم قال كعب: ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول اللّه (ص) إلى تبوك، وما اجتمعت لي راحلتان قطّ إلاّ في ذلك اليوم، فكنت أقول: أخرج غداً، أخرج بعد غد، فإنّي القوي وتوانيت، وبقيت بعد خروج النبي (ص) أياماً أدخل السوق ولا أقضي حاجة، فلقيت هلال بن اُمية، ومرارة بن الربيع، وقد كانا تخلّفا أيضاً، فتوافقنا أن نبكّر إلى السوق، فلم تقض لنا حاجة، فما زلنا نقول: نخرج غداً وبعد غد، حتى بلغنا إقبال رسول اللّه (ص) فندمنا. فلما وافى رسول اللّه (ص) استقبلناه نهنّيه بالسلامة، فسلّمنا عليه، فلم يردّ علينا السلام، وأعرض عنّا، وسلّمنا على إخواننا فلم يردّوا علينا السلام، فبلغ ذلك إلى أهلينا فقطعوا كلامهم معنا، وكنا نحضر المسجد فلا يسلّم علينا أحد ولا يكلّمنا. |
قصة المتخلفين |
وقيل: انّ كعب بن مالك قال: ما تخلّفت عن رسول اللّه (ص) في غزوة غزاها قط، غير أني كنت قد تخلّفت عنه في غزوة بدر، وكان في غزوة بدر لم يُعاقب أحد تخلّف عنها، وذلك أنّ رسول اللّه (ص) إنما خرج يريد عير قريش، فجمع اللّه بينه وبين عدوّه على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول اللّه (ص) العقبة، وما أحبّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت غزوة بدر أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلّفت عنه في غزوة تبوك اني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت منه تلك الغزوة، واللّه ما اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة، وكان رسول اللّه (ص) قلّ ما يريد غزوة يغزوها إلاّ ورّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول اللّه (ص) في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل عدواً كثيراً، فجلا للناس أمرهم ليتأهّبوا لذلك أهبته، وأخبرهم بوجهه الذي يريده، والمسلمون مع رسول اللّه (ص) كثير. قال: وغزا رسول اللّه (ص) تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وجعلت أغدو لأتجهّز معه فأرجع ولم أقض شيئاً، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إن أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى شمر بالناس الجد، وأصبح رسول اللّه (ص) غادياً والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً. فقلت: أتجهّز بعد يوم أو يومين ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهّز فرجعت فلم أقض شيئاً، ثم غدوت ورجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، وليتني فعلت ولم أفعل، وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول اللّه (ص) فطفت فيهم يحزنني أن لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه بالنفاق، أو رجلاً ممن عذره اللّه من الضعفاء، ولم يذكرني رسول اللّه (ص) حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة: يا رسول اللّه حبسه برداه ونظره في عطفيه. فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت، واللّه يا رسول اللّه ما علمنا منه إلاّ خيراً، فسكت رسول اللّه (ص). فلما بلغني أنّ رسول اللّه (ص) توجّه قافلاً حضرني همّي وطفقت أُفكّر كيف اُقدّم عذري لرسول اللّه (ص) وأُوجّه له تخلّفي عنه، فلم أر شيئاً أحسن من الصدق، فأجمعت أن اُصدقه. قال: وأصبح رسول اللّه (ص) قادماً إلى المدينة، وكان إذا قدم من سفر جاء إلى المسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاء المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل رسول اللّه (ص) علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى اللّه، حتى جئت فسلّمت عليه، فلما سلمت عليه تبسّم تبسّم المغضب ثم قال (ص): تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه فقال (ص): ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى يا رسول اللّه ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه إني لأرجو فيه عفو اللّه، لا واللّه ما كان لي من عذر، وما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت. فقال رسول اللّه (ص): أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي اللّه فيك. فقمت وسألت رجالاً من بني سلمة: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالوا مثل ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن اُمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدر فيهما اُسوة، فمضيت حين ذكروهما لي، والتقيت بهما فكنتُ لهما ثالثاً. هذا وكان قد نهى رسول اللّه (ص) المسلمين عن كلامنا فاجتنبنا الناس وتغيّروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف. |
توبة المخلّفين الثلاثة |
قال كعب: فلما رأينا ما حلّ بنا قلنا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلّمنا رسول اللّه (ص) ولا إخواننا، ولا أهلونا؟ فهلمّوا نخرج إلى هذا الجبل فنقيم فيه حتى يتوب اللّه علينا أو نموت. فخرجوا إلى ذناب جبل بالمدينة، فكانوا يصومون النهار ويحيون الليل، وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه في ناحية ثم يولّون عنهم ولا يكلّمونهم، فبقوا على هذه الحالة أياماً كثيرة يبكون بالليل والنهار، ويدعون اللّه أن يغفر لهم. فلما طال عليهم الأمد قال لهم كعب: يا قوم قد سخط اللّه علينا، ورسوله قد سخط علينا، وإخواننا قد سخطوا علينا، وأهلونا قد سخطوا علينا، فلا يكلّمنا أحد، فلماذا لا يسخط بعضنا على بعض؟ فتفرَّقوا في الجبل وحلفوا أن لا يكلّم أحد صاحبه حتى يموت أو يتوب اللّه عليه، فبقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام، كل واحد منهم في ناحية من الجبل، لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلّمه. فلما كان في الليلة الثالثة ورسول اللّه (ص) في بيت اُمّ سلمة، نزلت توبتهم على رسول اللّه (ص) لما عرف اللّه من صدق نيّاتهم، وأنزل فيهم: (وعلى الثلاثة الّذين خلّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنّوا أن لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إِنّ اللّه هو التوّاب الرّحيم)(8). فأصبح المسلمون يبتدرونهم ويبشّرونهم. قال كعب: فجئتُ إلى رسول اللّه (ص) وهو في المسجد، وكان إذا سرّ يستبشر كأن وجهه فلقة قمر، فقال لي ووجهه يشرق سروراً: أبشر بخير يومٍ طلع عليك شرفه منذ ولدتك اُمّك. قال كعب: فقلت له: أمن عند اللّه أم عندك يا رسول اللّه؟ فقال (ص): من عند اللّه. وتصدّق كعب بثلث ماله شكراً للّه على توبته. وفي رواية: انهم انطلقوا لما تاب اللّه عليهم فجاءوا بأموالهم إلى رسول اللّه (ص) وقالوا: يا رسول اللّه هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك، فخذها وتصدّق بها عنّا. فقال (ص): ما اُمرت فيها بأمر، فنزل: (خذ من أموالهم صدقةً)(9) الآيات. |
المخلّفون وتوبتهم |
وقيل: ان كعب بن مالك قال: لما نهى رسول اللّه (ص) عن كلامنا.. فما كلّمنا أحد حتى تسوّرت حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحبّ الناس إليّ، فسلّمت عليه، فواللّه ما ردّ عليّ السلام. فقلت: يا أبا قتادة اُنشدك باللّه هل تعلمني أحب اللّه ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته، فسكت، فعدت له فنشدته، فقال: اللّه ورسوله أعلم، ففاضت عيناي وتولّيت حتى تسوّرت الجدار. قال: فبينا أنا أمشي في سوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدلني على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إليَّ كتاباً من ملك غسّان، وكنت كاتباً فقرأته فإذا فيه: (أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك اللّه بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسيك). فقلت لما قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع فيَّ رجل من أهل الشرك، فتيممت بها التنور فسجرته بها. حتى إذا مضت أيام وكملت خمسون ليلة آذن رسول اللّه (ص) بتوبة اللّه علينا حين صلّى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشّرون، فانطلقت إلى رسول اللّه (ص)، فتلقّاني الناس فوجاً فوجاً يهنّئوني بالتوبة ويقولون: ليهنك توبة اللّه عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول اللّه (ص) جالس وحوله الناس، فلما سلمت على رسول اللّه (ص)، قال رسول اللّه (ص) وهو يبرق وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك اُمك. قال: قلت: أمن عندك يا رسول اللّه أم من عند اللّه؟ قال (ص): لا، بل من عند اللّه، وكان رسول اللّه (ص) إذا سرّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه إن من توبتي أن أتخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله. قال رسول اللّه (ص): أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك. قلت: فإني أمسكت سهمي الذي بخيبر، ثم قلت: يا رسول اللّه إنما نجاني اللّه بالصدق، وإن من توبتي أن لا اُحدث إلا صدقاً ما بقيت، فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين ابتلاه اللّه في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه (ص) أحسن مما ابتلاني، وما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه (ص) إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقى.
|
1 ـ التوبة: 49. 2 ـ التوبة: 81 ـ 84. 3 ـ التوبة: 91 ـ 92. 4 ـ التحريم: 6. 5 ـ التوبة: 64 ـ 74. 6 ـ التوبة: 107 ـ 110. 7 ـ التوبة: 108. 8 ـ التوبة: 118. 9 ـ التوبة: 103. |