فهرس الفصل الثاني | المؤلفات |
معدن الحلم والكرم |
قالوا: لما فرغ رسول اللّه (ص) من تقسيم الغنائم ركب واتبعه الناس يقولون: يا رسول اللّه أقسم علينا فيئنا، حتى الجأوه إلى شجرة، فانتزع عنه رداؤه. فقال: أيها الناس ردّوا عليّ ردائي، فوالّذي نفسي بيده لو كان عندي عدد شجرتها نعماً لقسّمته عليكم، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً. ثم جاءه رجل يخبره بمقالة أحدهم فيه، وطعنه في القسمة، فأجابه رسول اللّه (ص) وهو يريد أن يخفّف عليه شدّة ما تحامل عليه البعض فيما يخص القسمة قائلاً: (قد اوذي أخي موسى بأكثر من هذا فصبر). وقيل: إنه (ص) لما أراد أن يقسم الغنائم أمر زيد بن ثابت حتى أحضر الناس، ثم عدّ الإبل والغنم وقسّمها على الناس، فوقع في سهم كل رجل أربع من الإبل مع أربعين شاة من الغنم، وإن كان فارساً وقع في سهمه اثناعشر بعيراً مع مائة وعشرين شاة من الغنم. |
من معجزات الرسول (ص) |
روي انه لما حاصر رسول اللّه (ص) أهل الطائف قال عيينة بن حصن الفزاري وكان من المؤلّفة قلوبهم: إئذن لي حتى آتي الحصن فاُكلّمهم، فأذن له، فجاءهم وقال: أدنو منكم وأنا آمن؟ قالوا: نعم، وعرفه أبو محجن فقال: اُدن. فدخل عليهم وقال لهم: فداكم أبي واُمّي لقد سرّني ما رأيت منكم، وما في العرب أحد غيركم، واللّه ما في محمد مثلكم، ولقد قلّ المقام وطعامكم كثير، وماؤكم وافر لا تخافون قطعه، وشجّعهم على المقاومة والمجابهة. فلما خرج قالت ثقيف لأبي محجن: إنّا قد كرهنا دخوله وخشينا أن يخبر محمداً بخلل يراه فينا أو في حصننا. فقال أبو محجن: أنا كنت أعرف به، ليس أحد منا أشدّ على محمد منه، وإن كان معه. فلما رجع عيينة إلى رسول اللّه (ص) قال: قلت لهم: إدخلوا في الإسلام، فو اللّه لا يبرح محمد من عقر داركم حتى تنزلوا وتأخذوا لأنفسكم أماناً. فقال له رسول اللّه (ص): لقد قلت بخلاف ما تقول، قلت لهم كذا وكذا، وأخبره بكل ما قاله لهم، فعاتبه جماعة وأنّبوه على فعله. فقال: استغفر اللّه وأتوب إليه ولا أعود أبداً. فعفا رسول اللّه (ص) عنه. |
مغادرة مكة |
ثم خرج رسول اللّه (ص) بعد تقسيم الغنائم من الجعرانة إلى مكة معتمراً، فلما فرغ رسول اللّه (ص) من عمرته انصرف راجعاً إلى المدينة، وكانت عمرته في منتصف ذي القعدة، فقدم رسول اللّه (ص) المدينة في بقية ذي القعدة أو في أول ذي الحجة. وذلك بعد أن استخلف عتاب بن اُسيد على مكة، وخلّف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس في الدين ويعلّمهم الأحكام. ثم حجّ عتاب بن اُسيد بالناس تلك السنة، وهي السنة الثامنة من الهجرة النبوية المباركة، وعتاب بن اسيد هذا، هو الذي استعمله رسول اللّه (ص) على مكة وكان ابن عشرين سنة أو أكثر بقليل، وكان في غاية الورع والزهد، وهو أول أمير أقام الحج في الإسلام. كما واستعمل (ص) على هوازن مالك بن عوف، وعلى ثقيف عثمان بن أبي العاص، وكانا شابين أيضاً. وكانت مدة غيبة رسول اللّه (ص) منذ خرج من المدينة إلى فتح مكة وأوقع بهوازن وحارب الطائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوماً. |
معيار الأفضلية في الإسلام |
وكان استخلاف رسول اللّه (ص) عتّاباً على مكة وهو ابن عشرين سنة وأقرانه على هوازن وثقيف مثاراً للجدل والنقاش بين بعض أهل مكة، الذين كانوا يرون المناصب للشيوخ وذوي الأسنان منهم، ولذلك قالوا: إنّ محمداً لا يزال يستخفّ بنا حتى ولّى علينا غلاماً حدث السن ابن ثمانية عشر سنة، ونحن مشايخ ذوو الأسنان، وجيران حرم اللّه الآمن، وخير بقعة على وجه الأرض. فكتب رسول اللّه (ص) إلى عتّاب كتاباً أجابهم فيه على ذلك قائلاً: لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه، فليس الأكبر هو الأفضل، بل الأفضل هو الأكبر، وهو الأكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا، ومعاداة أعدائنا، فلذلك جعلناه الأمير عليكم، والرئيس عليكم، فمن أطاعه فمرحباً به، ومن خالفه فلا يُبعد اللّه غيره. وبقوله (ص): (ليس الأكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الأكبر) أبطل مقاييس الجاهلية في تفويض المناصب إلى الشيوخ وذوي الأسنان وإن لم يكونوا أكفاءاً، وأثبت مقياس الإسلام والقرآن بتفويض المناصب إلى ذوي الكفاءات وإن لم يكونوا شيوخاً وذوي اسنان، وهذا هو منطق العقل أيضاً. وكأنّ رسول اللّه (ص) باستخلاف عتّاب وأمثاله كان يريد تمهيد الأمر لاستخلافه علياً (ع) من بعده بأمر اللّه تعالى. |
عروة بن مسعود |
وقيل: إنّ رسول اللّه (ص) لما انصرف عنهم من الطائف اتبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يصل إلى المدينة فأسلم، وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام. فقال له رسول اللّه (ص): إنهم قاتلوك، وعرف رسول اللّه (ص) أنّ فيهم نخوة الإمتناع الذي كان منهم. فقال له عروة: يا رسول اللّه أنا أحب إليهم من أبصارهم، وكان فيهم كذلك محبباً مجاباً مطاعاً. فخرج يدعو قومه إلى الإسلام ورجا أن لا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف عليهم على علية له وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه، فأصابه سهم فقتله. فقيل له: ما ترى في دمك؟ فقال: كرامة أكرمني اللّه بها وشهادة ساقها اللّه إليَّ، فليس فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول اللّه (ص) قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم. فقال رسول اللّه (ص): مثله في قومه كمثل صاحب ياسين في قومه. |
إسلام ثقيف |
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهراً، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لاطاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا، وقال بعضهم لبعض: ألا ترون أنه لا يأمن لكم سرب ولا يخرج منكم أحد إلا اقتطع؟ فائتمروا بينهم وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول اللّه (ص) رجلاً كما أرسلوا عروة، فكلموا عبديا ليل بن عمرو بن عميرـ وكان في سن عروة بن مسعود ـ وعرضوا ذلك عليه، فأبى أن يفعل، وخشي أن يصنع به إذا رجع كما صنع بعروة فقال: لست فاعلاً حتى ترسلوا معي رجالاً، فأجمعوا أن يرسلوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونون ستة، فبعثوا كما أراد. ولما قدموا ضرب رسول اللّه (ص) قبة عليهم في ناحية مسجده. وقيل: كان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول اللّه(ص) حتى كتبوا كتابهم، وكان خالد هو الذي يكتب كتابهم بيده، وكانوا لا يطعمون طعاماً يأتيهم من عند رسول اللّه (ص) حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا وفرغوا من كتابهم. وقد كانوا فيما سألوا رسول اللّه (ص) أن يدع لهم اللات لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول اللّه (ص) ذلك، فما برحوا يسألونه سنة سنة وهو يأبى عليهم، حتى سألوه شهراً واحداً فأبى عليهم أن يدعها شيئاً مسمى، وإنما يريدون في ذلك ـ على ما قيل ـ أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول اللّه (ص)، وقد كانوا سألوه أيضاً أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال رسول اللّه (ص): أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فلا، فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه. فقالوا: يا محمد فسنؤتكها. فلما أسلموا وكتب لهم رسول اللّه (ص) كتابهم أمر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنّاً، وذلك: لأنه كان أحرصهم على التفقّه في الدين وفي الإسلام. فلما فرغوا من أمرهم وتوجّهوا إلى بلادهم راجعين بعث معهم رسول اللّه(ص) من يهدم لهم صنمهم، فهدمه دون حدوث شيء مما كانوا يزعمونه، فوقفوا عند ذلك على سخافة ما كانوا يعتقدونه وخرافته. |
مع لامية كعب بن زهير |
ولما رجع رسول اللّه (ص) إلى المدينة كتب بجير بن زهير، إلى أخيه كعب بن زهير، وزهير هذا هو زهير بن أبي سلمى أحد شعراء الجاهلية، وصاحب إحدى المعلّقات السبع التي كانت من مفاخرهم، وقد نصبوها في الكعبـــة حتى قُبيل نزول القرآن الحكيم، وقد مات زهير وخلّف من بعده ابنين: أحدهما: بجير وكان قد أسلم وشهد مع رسول اللّه (ص) فتح مكة وغزوة حنين والطائف. والآخر: كعب وكان شاعراً يهجو في شعره رسول اللّه (ص) ولم يكن أسلم بعد. فلما عاد بجير مع رسول اللّه (ص) والمسلمين إلى المدينة، كتب إلى أخيه شفقةً منه عليه ونصيحةً له: يا كعب إن كانت لك في نفسك حاجة، فطِر إلى رسول اللّه (ص) فإنه لا يقتل أحداً جاءه تائباً. فلما وصل الكتاب إلى كعب خرج حتى قدم المدينة، فنزل على رجل من جهينة كانت بينه وبين ذلك الرجل معرفة وصداقة، فغدا به إلى مسجد رسول اللّه(ص) وهو يتهيّأ لصلاة الصبح. فصلّى كعب مع رسول اللّه (ص) صلاة الصبح لأوّل مرّة، وبعد السلام أشار له الرجل إلى رسول اللّه (ص) وقال: هذا رسول اللّه (ص) فقم إليه واستأمنه. فقام كعب إلى رسول اللّه (ص) حتى جلس إليه فوضع يده في يده وقال: يا رسول اللّه إنّ كعب بن زهير قد جاء ليستأمنك تائباً مسلماً، فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟ قال رسول اللّه (ص): نعم. قال: أنا يا رسول اللّه كعب بن زهير، ثم قام وأنشد قصيدته اللامية المشهورة التي كان قد أنشأها من قبل، والتي قال في مطلعها: باتت سعاد فقلبي اليوم متبولُ متــيّم إثــرها لم يغد مكبولُ إلى أن قال: كل ابـــن اُنثــى وإن طالـــت سلامته يـــــوماً عـــلى آلة حــــدباء محمول نبئت أنّ رســـول اللّه (ص) أوعدني والعفو عند رسول اللّه (ص) مأمول مهلاً هـــداك الـذي أعطـــاك نــــافلة القرآن فيـــها مـواعيـــظ وتفصــــيل لا تأخـــذنّي بـأقـــوال الـوشـــــاة ولم اُذنـــــب ولــو كثـــرت فـيَّ الأقاويل إلى أن قال: ان الرسول لنور يستضاء به مهنّد من سيوف اللّه مسلول إلى آخر الأشعار. فلما فرغ كعب من إنشاد قصيدته على مسامع رسول اللّه (ص) والمسلمين، كساه رسول اللّه (ص) بردة كانت عليه. ويقال: انه لما كان زمن معاوية، ومعاوية كان يحاول إضفاء الشرعية على حكومته بعث إلى كعب من يقول له: بعنا بُردة رسول اللّه (ص) بعشرة آلاف. فقال: ما كنت لاُوثر بثوب رسول اللّه (ص) أحداً. فلمّا مات كعب بعث معاوية إلى ورثته بعشرين ألفاً وأخذها منهم، وتوارثها من بعده الأمويّون واحداً بعد واحد، ثم انتقلت منهم إلى العباسيين. |
جباية الزكوات |
ولما دخلت سنة تسع بعث رسول اللّه (ص) المصدّقين يأخذون الصدقات من الأعراب. وقيل: انه لما رأى رسول اللّه (ص) هلال المحرم سنة تسع بعث المصّدقين يصدقون الأعراب: فبعث (ص) عيينة بن حصن إلى بني تميم, كما وبعث يزيد ابن الحصين إلى أسلم وغفار, وبعث رافع بن مكيث إلى جهينة, وبعث عمرو بن العاص إلى فزارة, وبعث الضحاك بن سفيان إلى بني كلاب, وبعث بشير بن سفيان إلى بني كعب. وبعث ابن اللتبية الأزدي إلى بني ذبيان. هذا وقد أمرهم رسول اللّه (ص) أن يأخذوا العفو منهم ويتوّقوا كرائم أموالهم. وبعث المهاجر بن اُمية إلى صنعاء. وكذا بعث (ص) زياد بن لبيد إلى حضرموت, وبعث مالك بن نويرة على صدقات بني حنظلة. وفرّق صدقات بني سعد على رجلين: فبعث الزبرقان ابن بدر على ناحية، وقيس بن عاصم على ناحية. وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين. وبعث علياً (ع) إلى نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم. |