فهرس الفصل الثاني | المؤلفات |
الدخول إلى مكة |
فلما ظهر رسول اللّه (ص) بكتيبته على ثنية أذاخر دخل من ناحيتها، وضربت له خيمة من أدم بالحجون عند قبر عمّه أبي طالب (ع) وأبى أن يدخل بيته أو بيوتهم بمكة الذي صادره المشركون. وكان ذلك بعد أن أمر كتائب أصحابه واُمراء عسكره أن يحيطوا بمكة كاملة، ثم يدخلوها من جميع المداخل والطرق النافذة إليها من أعلاها وأسفلها، ومن كل جوانبها حتى يسدّوا على أهلها طريق المجابهة، وأمرهم أن يكفّوا أيديهم عن القتال، ولا يقاتلوا إلا مَن قاتلهم. كما وعقد لواءاً لأبي رويحة الخثعمي وأمره أن ينادي بين أهل مكة: ألا ومن دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن، إضافة إلى المآمن الثلاثة المذكورة، ولذلك اطمئنّ الناس وألقوا أسلحتهم ودخلوا بيوتهم آمنين لم تُسب لهم ذرّية ولم يُسفك منهم دم. وقيل : انه بعث رسول اللّه (ص) الزبير بن العوام على المهاجرين وخيلهم وأمره أن يدخل من كدل على مكة، وأمره أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه. وقيل : انه بعث خالد بن الوليد في قبائل قضاعة وسُليم وغيرهم وأمره أن يدخل من أسفل مكة وأن يفرز رايته عند أدنى البيوت. وبعث ابن عبادة في كتيبة الأنصار في مقدمة رسول اللّه (ص) وأمرهم أن يكفّوا أيديهم عن القتال، ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم. |
على مشارف مكة |
ولما انتهى رسول اللّه (ص) في كتيبته الخضراء فاتحاً منتصراً إلى ذي طوى وهو موضع مرتفع يرى منه بيوت مكة ومنازلها، ولمح بطرفه منازل مكة وبيوتها، ونظر إلى مسقط رأسه وموطنه الذي خرج منه عنوة، واليوم قد دخلها وفتحها، وتلمّس الفتح الذي منّ اللّه تعالى به عليه، والعودة التي بشّره جبرئيل (ع) بها، اغرورقت عيناه بدموع الشوق والرحمة، وسجد للّه تعالى تواضعاً وشكراً، وحمده على نعمه وأياديه. ثم نزل في خيمته التي ضربت له بالحجون عند قبر عمّه أبي طالب (ع) ليستريح فيها قليلاً، ويتهيّأ منها لزيارة المسجد الحرام والطواف حول بيت اللّه العتيق. |
تطهير البيت من الأصنام |
ثم انّ رسول اللّه (ص) بعد أن استراح قليلاً في خيمته اغتسل وركب راحلته القصواء واتّجه نحو المسجد الحرام، ولم يكن محرماً لحجّ ولا عمرة، وعليه السلاح، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله، وعليهم السلاح، وهم يردّدون مع رسول اللّه (ص) قوله تعالى: (جاء الحقّ وزهق الباطل إنَّ الباطل كان زهوقاً)(1). وقد ارتجَّت مكة من قولهم، حتى دخل الرسول (ص) المسجد الحرام، فأقبل إلى الحجر الأسود فاستلمه، ثم طاف بالبيت وهو على راحلته، وفي يده قوس، وحول البيت وعليه ثلاثمائة وستّون صنماً، فجعل يطعنها (ص) بالقوس ويقول: (جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقاً)(2) (جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد)(3) والأصنام تتساقط على وجوهها. ثم رفع (ص) علياً (ع) على منكبيه حتى أسقط ما تبقّى من الأصنام التي كانت على الكعبة، وكان رسول اللّه (ص) قد خصّ علياً (ع) بهذه المنقبة دون غيره، وإليه أشار ابن العرندس حيث يقول في قصيدته: وصعود غارب أحمد فضل له دون القرابة والصحـــابة أفضلا وأمر رسول اللّه (ص) ابن أسد الخزاعي فحدد أنصاب الحرم، وبث رسول اللّه (ص) سراياه إلى الأوثان التي كانت فكسرت كلها. ومما كسرها رسول اللّه (ص) اللاّت والعزّى ومناة الثالثة الاُخرى، ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنماً إلاّ كسره. |
من ذكريات الكعبة |
فلما فرغ من طوافه أتى الصفا، فعلا عليه، وقيل: جلس في ناحية من المسجد حتى نظر إلى البيت، فجعل يحمد اللّه ويدعو ما شاء أن يدعو، ثم دعا بسادن الكعبة وهو يومئذ عثمان بن طلحة، وكان قد أغلق باب البيت لما بلغه انّ النبي (ص) قد دخل مكة، وامتنع من تسليم المفتاح. فقام إليه علي (ع) وأخذه منه وسلّمه إلى رسول اللّه (ص). فأمر (ص) بباب الكعبة ففتحت، فدخلها، فرأى فيها صورتين، فدعا بثوب فبلّه في ماء ثم محاهما، فانطمستا، ثم صلّى بين العمودين على الرخامة الحمراء ركعتين، ثم أقبل على أركان البيت وكبّر إلى كل ركن منه. ثم قصد (ص) الباب وقريش قد ملأت المسجد صفوفاً ينظرون ماذا يفعل بهم، وهم يظنون ـ حسب أعراف الجاهلية الخشناء ـ ان السيف لا يرفع عنهم، وانهم سوف يبادون عن آخرهم، لكن الواقع لم يكن كذلك، فإن الإسلام هو دين المكارم والمحاسن، والنبي (ص) هو رسول الرحمة والإنسانية، ولذلك رأوه (ص) أقبل حتى أخذ بعضادتي الباب وخطب فيهم الخطبة التالية: |
لائحة حقوق الإنسان |
ابتدأ رسول اللّه (ص) خطابه بحمد اللّه تعالى والثناء عليه وقال: لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده. ثم قال : ألا كل مأثرة، أو مال، أو دم يدّعى، أو مظلمة، أو احنة كانت في الجاهلية، فهو تحت قدميّ هاتين، إلاّ سدانة البيت وسقاية الحاج، فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إن مكة محرمة بتحريم اللّه، لم تحلّ لأحد كان قبلي، ولم تحلّ لي إلا ساعة من نهار، وهي محرّمة إلى أن تقوم الساعة، لا يختلى خلاها، ولا يقطع شجرها، ولا ينفر صيدها، ولاتحلّ لقطتها إلا لمنشد. ثم قال: أيّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب إن اللّه قد أذهب عنكم بالإسلام نخوة الجاهلية والتفاخر بآبائها وعشائرها، ألا انكم من آدم، وآدم من طين، وعلى رواية: وآدم من تراب. ثم تلا قوله تعالى: (يا أيّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر واُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم)(4) الآية. ثم قال : ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقى اللّه، ان العربيّة ليست بأب والد، ولكنها لسان ناطق، فمن قصر به عمله لم يبلغ به حسبه. ثم التفت إلى القوم وقال وهو يخاطبهم: ألا لبئس جيران النبي كنتم، لقد كذبتم، وطردتم، وأخرجتم، وآذيتم، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلوني، والآن يا معشر قريش ماذا تقولون؟ وماذا تظنون اني فاعل بكم؟ قالوا : نظن خيراً، ونقول خيراً، أخ كريم، وابن أخ كريم، وقد قدرت. قال (ص) : فإنّي أقول لكم كما قال يوسف (ع) لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين)(5) اذهبوا فأنتم الطلقاء. فخرج القوم كأنما انشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام، وقد كان اللّه سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة، وكانوا له فيئاً، فلذلك سمّي أهل مكة: (الطلقاء). |
مع سدانة الكعبة |
ثم جلس رسول اللّه (ص) في المسجد، فقام إليه علي (ع) ومفتاح الكعبة في يده، ليُسلّمها إليه، فقام العباس وسأل رسول اللّه (ص) أن يعطيه المفتاح، فنزل: (إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها)(6). فأمر رسول اللّه (ص) علياً (ع) أن يردّ المفتاح إلى عثمان بن طلحة. فلمّا ردّه إليه قال عثمان بن طلحة، وكان لا يتوقّع أن يُردّ المفتاح إليه: يا علي أخذته مني بكره، وجئت به إليّ برفق؟ قال (ع) : نعم، لقد أنزل اللّه عزّوجل فيك قرآناً يقول: (إنَّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها). فلمّا سمع عثمان بن طلحة ذلك، أسلم، فأقرّه النبي (ص) في يده. وروي : عن عثمان بن طلحة انه قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل النبي (ص) يوماً وهو يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، وذلك قبل الهجرة، فأغلقت له ونلت منه. فحلم (ص) عنّي ثم قال: يا عثمان لعلّك سترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت. فقلت : لقد هلكت قريش يومئذ وذلّت. فقال (ص) : بل عمرت وعزّت يومئذ، ودخل الكعبة، فوقعت كلمته منّي موقعاً ظننت أن الأمر سيصير إلى ما قال. فلما كان يوم الفتح قال: يا عثمان ائتني بالمفتاح، فأبيت أن آتيه به، فأخذه منّي علي، ثم دفعه إليه، فلما أتم صلاته وزيارته داخل البيت ردّه عليَّ وقال: يا عثمان بن طلحة إنّ اللّه استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف. قال : فلما وليت ناداني فقال: ألم يكن الذي قلتُ لك؟ قال : فذكرت قوله (ص) لي بمكة قبل الهجرة، فقلت: بلى أشهد أنّك رسول اللّه. |
أول أذان على سطح الكعبة |
فلما دخل وقت صلاة الظهر، أمر رسول اللّه (ص) بلالاً أن يصعد فيؤذّن على الكعبة، وأبوسفيان بن حرب وخالد وعتاب ابنا اُسيد والحارث بن هشام وأشراف قريش جلوس بفناء الكعبة. فقال خالد : لقد أكرم اللّه اُسيداً ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث : أما واللّه لو أعلم أنه حق لاتّبعته. وقال أبو سفيان : واللّه لا أقول شيئاً، ولو تكلمت بشيء لأخبرت عني هذه الحصباء والجدد، هذا وعتاب يسمع كلامهم. فبعث إليهم النبي (ص) فقال لهم: قد علمت الذي قلتم، ثم ذكر لهم ذلك. فقال أبو سفيان : أنت تعلم اني لم أقل شيئاً. فقال (ص) : اللّهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون. عندها قال الحارث وخالد: نشهد أنّك رسول اللّه، واللّه ما اطّلع على هذا أحد معنا فنقول أخبرك. وقال عتاب لما جاء إليه: نستغفر اللّه ونتوب إليه، قد واللّه يا رسول اللّه قلنا ذلك، فأسلم وحسن إسلامه، فولاّه رسول اللّه (ص) مكة. وكان فتح مكة لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. |
في دار اُم هاني |
ثم ان رسول اللّه (ص) كان قد عهد إلى المسلمين أن لا يقتلوا بمكة إلا من قاتلهم، سوى نفر كانوا يؤذون النبي (ص) ومن أسلم معه، ويحرّضون على حربهم ومقاتلتهم، ويصدّون الناس عن سبيل اللّه والحقّ، مثل هبار بن الأسود الذي تعرّض لزينب بنت رسول اللّه (ص) حين هجرتها فأرعبها مما سبّب إسقاط جنينها ومرضها حتّى ماتت منه. ومثل : عكرمة بن أبي جهل الذي كان أحد مثيري الحروب ومؤجّجي نيران الفتن ضد المسلمين. ومثل : قينتين كانتا تغنّيان بهجاء رسول اللّه (ص) وتحضّضان المشركين يوم أحد عليه. فاستتر هؤلاء عن أعين المسلمين، فبلغ علياً (ع) أن نفرين منهم وكانا حموين لاُم هاني اُخت علي (ع) قد استجارا باُم هاني فأجارتهما في بيتها، فقصد علي (ع) نحو دارها مقنعاً بالحديد، ونادى: أخرجوا من آويتم، فرعبا، وخافت اُم هاني عليهما، فخرجت إليه (ع) وهي لا تعرفه، فقالت: يا عبد اللّه أنا اُم هاني بنت عم رسول اللّه (ص) واُخت علي بن أبي طالب (ع) فانصرف عن داري. فقال (ع): اخرجوهم. فقالت : واللّه لأشكونّك إلى رسول اللّه (ص). فنزع علي (ع) المغفر عن رأسه فعرفته، فجاءت إليه تشتدّ حتى التزمته وقالت: فديتك، حلفت لأشكونّك إلى رسول اللّه (ص). فقال لها: اذهبي فبرّي قسمك، فإنه بأعلى الوادي. فجاءت إليه تشتد ، فلما سمع رسول اللّه (ص) كلامها قال لها: مرحباً بكِ يا اُم هاني، قد أجرنا من أجرتِ يا اُمّ هاني. وأمّا هبار: ففرّ، ثم أسلم، وعفى (ص) عنه. واستؤمن رسول اللّه (ص) لسارة وإحدى القينتين فأمنهما فأسلمتا. وأما ابن أبي سرح فإنه أسلم فجاء به عثمان، فاستأمن له رسول اللّه (ص)، فأمنه, وكان قد أسلم قبل ذلك ثم هاجر ثم ارتدّ ورجع إلى مكة. |
مع فضالة بن الملوح |
وقيل : إن فضالة بن عمير بن الملوح همّ أن يقتل رسول اللّه (ص) وهو يطوف بالبيت، فلمّا دنا منه قال رسول اللّه (ص): أفضالة؟ قال : نعم. قال (ص) : ماذا تحدّث به نفسك؟ قال : لا شيء كنت أذكر اللّه. فضحك النبي (ص) ثم قال: استغفر اللّه، ثم وضع يده إلى صدره فسكن قلبه. وكان فضالة يقول: واللّه ما رفع يده عن صدري حتى ما خلق اللّه شيئاً أحبّ إليّ منه. قال فضالة : فرجعتُ إلى أهلي، فمررت بامرأة كنت أتحدث إليها، فقالت شعراً، فأجبتها شعراً: قالت هلمّ إلى الحديث فقلت: لا يــأبى الإله عليــك والإســـلام لو قد رأيت محمــــداً وقبــيــله بالفتــــح يــوم تكسـر الأصنام لرأيت دين اللّه أضــحى بيــننا والشرك يغشي وجهه الاظلام |
من مكارم رسول اللّه (ص) |
ثم ان أكثر هؤلاء النفر الذين أهدر رسول اللّه (ص) دمهم استأمن لهم بعض معارفهم، فخرجوا من استتارهم، وجاءوا إلى رسول اللّه (ص) فأسلموا على يديه، فقبل إسلامهم وعفا عنهم. وكان أحد هؤلاء: صفوان بن اُمية، وقد فرَّ يومئذ، فاستأمن له عمير بن وهب الجمحي رسول اللّه (ص)، فأمنه، وأعطاه عمامته التي دخل بها مكة. فلحقه عمير وهو يريد أن يركب البحر فردّه وقال: يا صفوان، اذكر اللّه في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول اللّه (ص) قد جئتك به. فقال صفوان، وهو يستبعد ذلك حسب رأيه: اُغرب عني فلا تكلّمني. فقال له عمير، وهو يريد أن يُطمئنه: أي صفوان اُعلمك انّ أفضل الناس وأبرّ الناس وخير الناس ابن عمك، عزّه عزّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك. فقال صفوان، وهو يبدي ما في قرارة نفسه وما انطوى عليه الجاهليون من الغدر: إني أخافه على نفسي. فقال له عمير : انه ليس كما تتصوّر، هو أحلم من ذلك وأكرم. فاطمأنّ صفوان لما أراه عمير عمامة رسول اللّه (ص) بعثها إليه علامة لأمانه، فرجع معه حتى وقف به على رسول اللّه (ص)، فقال : هذا يزعم أنك أمنتني؟ فقال (ص) : صدق. قال : فاجعلني بالخيار شهرين. قال (ص) : أنت بالخيار أربعة أشهر. وكان ممّن استأمن لهم فآمنهم رسول اللّه (ص) عكرمة بن أبي جهل، حيث استأمنت له زوجته اُم حكيم بنت الحارث بن هشام وأخبرت زوجها بذلك وهي تقول له: جئتك من عند أوصل الناس، وأبرّ الناس، وخير الناس، لا تهلك نفسك وقد استأمنت لك، فآمنك. فجاء معها إلى رسول اللّه (ص) وأسلم على يديه، ثم قال: يا رسول اللّه مرني بخير ما تعلم فاعلمه. قال (ص): قل أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وجاهد في سبيل اللّه. ولهذه الأخلاق الكريمة، والسيرة الطيّبة أسلم الناس زرافات زرافات، ورسول اللّه (ص) يقرأ ـ على رواية ـ: (بسم اللّه الرحمن الرحيم إذا جاء نصر اللّه والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين اللّه أفواجاً فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّاباً)(7). |
البيعة رجالاً ونساءاً |
ثم اجتمع الناس للبيعة، فجلس رسول اللّه (ص) على الصفا يبايع الناس، فبايعه الرجال على الإسلام والجهاد والطاعة للّه ولرسوله. ولما فرغ من بيعة الرجال، أقبلت النساء يبايعنه وهو على الصفا، فأنزل اللّه عزّوجلّ: (يا أيها النبيّ إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن باللّه شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهنّ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ ولا يعصينك في معروف فبايعهنّ واستغفر لهنّ اللّه إنّ اللّه غفور رحيم)(8). فقالت هند، وكانت بين النساء وهي متنكّرة حتى لا يعرفها رسول اللّه (ص) لما صنعت بحمزة (ع): إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال! ثم قالت: أما المال فقد أصبتُ من مال أبي سفيان هنات لأنه رجل ممسك لا يوسّع على عياله. فقال لها رسول اللّه (ص) : وانكِ لهند؟ قالت : نعم، فاعف عمّا سلف، عفى اللّه عنك. ثم قالت: وأما الزنا فلا تزني الحرّة، وأمّا الولد فقد ربّيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر. فتأثّر رسول اللّه (ص) من ذلك ولم يقل لها شيئاً، ثم قالت: وأما البهتان فإنه قبيح، وما تأمرنا إلاّ بالرشد ومكارم الأخلاق، وأما انه لا نعصيك في معروف، فإنّا ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء. وقيل : انها لما رجعت جعلت تكسر صنمها وتقول: كنا منك في غرور. ثم ان اُم حكيم بنت الحارث بن هشام زوجة عكرمة بن أبي جهل كانت بين النساء أيضاً فقالت: يا رسول اللّه ما ذلك المعروف الذي أمرنا اللّه أن لا نعصيك فيه؟ فقال (ص) : لا تلطمنّ خدّاً، ولا تخمشن وجهاً، ولا تنتفن شعراً، ولا تدعين بويل وثبور. وكان ذلك دأب النساء على موتى الجاهلية فقد كنّ ينتفن شعر رأسهنّ حتى لا يبقى في رأسهنّ طاقة شعر، ويدعين بالويل والثبور. فقالت : يا رسول اللّه كيف نبايعك؟ قال (ص) : إنني لا اُصافح النساء، ثم دعا بقدح من ماء، فأدخل يده فيه ثم أخرجها وقال: ادخلن أيديكنّ في هذا الماء فهي البيعة، ففعلن. |
معيار التفاضل في الإسلام |
ثم قام رسول اللّه (ص) على الصفا يخطب في عشيرته، بني هاشم وبني عبدالمطلب، ويوصيهم بوصاياه، لأنهم هم الذين سيخلّفونه إذا ارتحل عن مكة، ويجسّدونه في أعمالهم وتصرّفاتهم، وأهل مكة الذين هم حديثوا عهد بالإسلام ينظرون إليهم نظر اقتداء وتأسّي، لأنهم يرونهم رهط رسول اللّه (ص) وعشيرته، وممثّلوه فيهم. ولذلك خطب (ص) عليهم يحفّزهم على الخير والتقوى، وعلى العمل للآخرة، ويحذّرهم الإتّكال على الأماني والإقتناع بحسبهم ونسبهم والإشتغال بالدنيا، فقال (ص): (يا بني هاشم، ويا بني عبد المطلب، انّي رسول اللّه إليكم، واني شفيق عليكم، لا تقولوا انّ محمداً منّا، فواللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتَّقون، ألا فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم، وفيما بين اللّه عزّوجل وبينكم، وانّ لي عملي ولكم أعمالكم). |
مع بديل بن ورقاء |
ثم ان العباس الذي كان يقوم بدور الوسيط بين النبي (ص) وشخصيات قريش وكبار الجاهليين ويسعى لجذبهم وتقريب قلوبهم إلى الإسلام، جاء يوم الفتح بالخزاعي: بديل بن ورقاء حتى أوقفه بين يدي رسول اللّه (ص) وقال: يا رسول اللّه هذا يوم قد شرفت فيه قوماً، فما بال خالك (بديل بن ورقاء) وهو قعيد حيه؟ أي لم يشرف كبقية الشخصيات بوسام، ولم يعهد إليه أمر من قبل رسول اللّه (ص). وكان بديل شيخاً طاعناً في السنّ، وقد جاء متلثّماً، فالتفت إليه رسول اللّه (ص) وقال: (إحسر عن حاجبيك يا بديل)، فحسر عنهما وحدر لثامه. فرأى رسول اللّه (ص) سواداً بعارض بديل. فقال (ص) له : كم سنّوك يا بديل؟ فقال : سبع وتسعون يا رسول اللّه. فتبسّم رسول اللّه (ص) وقال: (زادك اللّه جمالاً وسواداً، وأمتعك وولدك)، لكن رسول اللّه قد نيف على الستّين وقد أسرع الشيب فيه. ثم قال (ص) له: يا بديل اركب جملك هذا الأورق وناد في الناس: انها أيام أكل وشرب. وكان بديل جهير الصوت، فأتمر بأمر رسول اللّه (ص) وأخذ ينتقل بين خيامهم ويقول: أنا رسول رسول اللّه (ص) إليكم يقول لكم: إنها أيام أكل وشرب، وهي لغة خزاعة يعني: الإجتماع والاُلفة. وهكذا كان يكرم رسول اللّه (ص) كبار القوم، ويبقيهم في مكانتهم، أو يمنحهم مكانة وجاهاً، حتى يستهوي قلوبهم ويشدّهم إلى الإسلام والايمان، ويجذب الآخرين الذين لم تطلهم يد رسول اللّه (ص) ولم يسلموا بعد إلى الإسلام. |
سرية غالب الي بني مدلج |
ثم ان رسول اللّه (ص) بعث ـ بعد ان فتح مكة ـ السرايا فيما حول مكة، يدعون الناس الى اللّه عز وجل، ولم يأمرهم بقتال. فبعث (ص) غالب بن عبد اللّه الي بني مدلج. فقالوا: لسنا عليك ولسنا معك. فقال الناس: اغزهم يا رسول اللّه. فقال: ان لهم سيداً اديباً أريباً، وربَّ غازٍ من بني مدلج شهيد في سبيل اللّه(9). |
سرية عمرو الي بني الديل |
وبعث رسول اللّه (ص) ايضاً عمرو بن اُمية الضمري الي بني الديل، فدعاهم إلى اللّه ورسوله، فأبوا أشد الإباء. فقال الناس: اغزهم يا رسول اللّه. فقال (ص) : ان سيدهم قد أسلم، فيقول لقومه: اسلموا، فيقولون: نعم ويسلمون، وهكذا كان. |
سرية عبد اللّه بن سهيل |
كما وبعث رسول اللّه (ص) ايضاً عبد اللّه بن سهيل بن عمرو الي بني محارب بن فهر، فقبلوا منه وأسلموا، وجاء معه نفر منهم ليلتقوا برسول اللّه (ص) من قريب ويتعلموا منه الاسلام وأحكامه. |
سرية خالد الي بني جذيمة |
وكان ممن بعث رسول اللّه (ص) بعد فتح مكة ليدعو الناس إلى اللّه خالد بن الوليد، بعثه إلى بني جذيمة داعياً ولم يبعثه مقاتلاً، وانما بعث اليهم خالداً للترة التي كانت بينه وبينهم، فقد أصابوا في الجاهلية الفاكه بن المغيرة عم خالد، وعوف بن عبد عوف أبا عبد الرحمن، وكانا قد أقبلا في تجارة من اليمن، فأخذت بنو جذيمة ما معهما وقتلتهما، ولذلك أنفذ رسول اللّه (ص) عبد الرحمن بن عوف مع خالد للترة أيضاً التي كانت بين ابن عوف وبينهم. هذا و رسول اللّه (ص) كان قد خطب يوم الفتح وقال: (ألا كل مال، أو مأثرة، أو دم، أو مظلمة، أو احنة كانت في الجاهلية فهو تحت قدمي). فلما نزل خالد بمن معه علي الغميصاء وهو ماء من مياه بني جذيمة، اخذ بنو جذيمة السلاح وقالوا: يا خالد إنا لم نأخذ السلاح على اللّه وعلى رسوله، ونحن مسلمون، فانظر فان كان بعثك رسول اللّه (ص) ساعياً فهذه ابلنا وغنمنا فاغد عليها. فقال خالد: ضعوا السلاح. قالوا: انا نخاف منك أن تأخذنا باحنة الجاهلية وقد اماتها اللّه ورسوله. فانصرف عنهم بمن معه ونزلوا قريباً، ثم شنّ عليهم الخيل فقتل وأسر منهم رجالاً، ثم أمر بهم خالد فكتفوا، ثم عرضهم على السيف وقتلهم. |
أنباء الغدر وتداركها |
فلما غدر خالد ببني جذيمة جاء رسولهم إلى رسول اللّه (ص) وأخبره بما فعل خالد بهم، فرفع (ص) يديه إلى السماء بعد أن صعد المنبر وأعلم الناس بفعل خالد وقال: (اللّهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد) يعيد ذلك ثلاث مرات وبكى. ثم دعا (ص) علياً (ع) وقد قدم عليه تبر ومتاع، فأعطى علياً (ع) التبر وقال: يا علي أئت بني جذيمة فانظر في أمرهم وارضهم مما صنع خالد، ثم رفع (ص) قدميه وقال: يا علي اجعل قضاء اهل الجاهلية تحت قدميك. فلما أتاهم علي (ع) حكم فيهم بحكم اللّه تعالى، فلما رجع الي النبي (ص) قال: يا علي اخبرني بما صنعت. قال (ع) له: يا رسول اللّه عمدت فأعطيت لكل دم دية، ولكل جنين غرّة، ولكل مال مالاً، وفضلت معي فضلة فأعطيتهم لميلغة كلابهم، وحيلة رعاتهم، وروعة نسائهم، وفزع صبيانهم، ولما يعلمون ولما لا يعلمون، ثم فضلت معي فضلة، فأعطيتهم ليرضوا عنك يا رسول اللّه. فقال عندها رسول اللّه (ص) وقد ظهر الرضا علي وجهه المبارك مؤكداً: يا علي أعطيتهم ليرضوا عني؟ رضي اللّه عنك ، واللّه ما يسرني يا علي أن لي بما صنعت حمر النعم. ثم قال (ص): يا علي إنما أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، يا علي أنت هادي اُمتي، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبك وأخذ بطريقتك ألا إن الشقي كل الشقي من خالفك ورغب عن طريقك إلى يوم القيامة(10).
|
1 ـ الإسراء: 81. 2 ـ الإسراء: 81. 3 ـ سبأ: 49. 4 ـ الحجرات: 13. 5 ـ يوسف: 92. 6 ـ النساء: 58. 7 ـ النصر: 1ـ3. 8 ـ الممتحنة: 12. 9 ـ وهذا التعبير: (ان لهم سيداً أديباً أريباً) والذي يأتي بعده: (أن سيدهم قد أسلم) يدل على دور القيادة الصالحة في إسعاد الأمة والعكس بالعكس. 10 ـ بحار الأنوار: ج21 ص143 ب27 ح6. |