فهرس الفصل الثاني | المؤلفات |
غزوة الفتح |
خرج رسول اللّه (ص) يوم الجمعة حين صلّى العصر بالناس، بكتائب الإسلام وجنود الرحمن، وهم عشرة آلاف من المسلمين، ونحو من أربعمائة فارس، وذلك لنقض قريش العهد الذي وقع بينهم وبين رسول اللّه (ص) بالحديبيّة. وكان خروجه في شهر رمضان من السنة الثامنة من الهجرة النبويّة المباركة، بعد أن استخلف على المدينة أبا لبابة، وقيل: أبا ذر الغفاري. وكان سببها : ان بني بكر بن عبد مناة من كنانة، كانت بينهم وبين خزاعة حروب قبل الإسلام وقتل، فلما جاء الإسلام تشاغل الناس به، فلما كانت الهدنة عام الحديبية دخلت بنو بكر من كنانة في عقد قريش وعهدهم، ودخلت خزاعة في عهد رسول اللّه (ص) وعقده. فلما مضت سنتان من القضية، وقد استتبّ الأمن في البلاد وساد الهدوء في المنطقة، وصلت قريش أنباء حرب مؤتة وانهزام المسلمين بعد أن قتل فيها اُمراؤها الثلاثة، مما أطمعهم في التجرؤ على إثارة البلبلة في البلاد، والإخلال بأمن المنطقة، ونقض العهد الذي وقعوه مع رسول اللّه (ص) بالحديبية. فعمدوا إلى توزيع الأسلحة في حلفائهم بني بكر من كنانة، وحرّضوهم على أن يبيّتوا خزاعة حلفاء المسلمين، ويغيروا عليهم ليلاً ويصيبوا الثأر منهم، كما وعدوهم بأن يمدّوهم بالرجال أيضاً، ثم بدأوا بإشعال فتيل نار الفتنة، وذلك عبر المخطّط التالي: فقد أوعزوا إلى رجل من كنانة أن يقعد في صراط خزاعة، ويروي هجاء رسول اللّه (ص). فلما فعل ذلك مرّ عليه رجل من خزاعة وقال له: يا هذا كفّ عن قولك. فأجابه قائلاً: وما أنت وذاك؟ فردّ عليه مهدداً: لئن عدت لأكسرنّ فاك. فأعادها الكناني، فرفع الخزاعي يده وضرب بها فاه الكناني، فاستنصر الكناني قومه، والخزاعي قومه، وبدأت المناوشات بين الجانبين. |
قريش تنقض عهدها |
ولما بدأت المناوشات بين الجانبين خرج نوفل بن معاوية في نفر من بني بكر فبيت خزاعة على ماء بأسفل مكة يقال له الوتير، وأصاب منهم رجالاً وأموالاً، ثم اقتتلوا قتالاً شديداً، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً، وكان من بينهم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر: يا نوفل انا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك. فقال نوفل : لا إله له اليوم، يا بني بكر أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ فقاتلوهم حتى لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي في أربعين راكباً، حتى قدموا على رسول اللّه (ص) يخبرونه بما قد وقع، ويستنصرونه. وكان رسول اللّه (ص) إذ ذاك بين أصحابه في المسجد، فوقف عليه عمرو بن سالم الخزاعي وقال: يـا رب انّي ناشــد محمــداً حـــلف أبيــنا وأبيــه الأتلدا إنّ قريشاً أخلفوك المـوعدا ونقضوا ميثــاقك المـــؤكّدا هم بيّــتونــا بـالوتـير هُجّدا وقتــلونــا ركَّــعـاً وســجّداً فقال رسول اللّه (ص) : حسبك يا عمرو، ثم قام (ص) فدخل دار زوجته ميمونة وقال: اسكبوا لي ماءاً، فجعل يغتسل ويقول: (لا نصرت إن لم أنصر بني كعب) وهم رهط عمرو بن سالم الخزاعي. وقيل : إنّ ميمونة سمعت رسول اللّه (ص) يقول في متوضّئه ليلاً: لبيك لبيك (ثلاثاً) ، نصرت نصرت (ثلاثاً). فلما خرج قالت : يا رسول اللّه، سمعتك تقول في متوضئك: لبيك لبيك ثلاثاً، نصرتَ نصرت ثلاثاً، كأنك تكلّم إنساناً، فهل كان معك أحد؟ فقال (ص) : هذا راجز بني كعب يستصرخني ويزعم أنّ قريشاً أعانت عليهم بني بكر. ثم خرج بديل بن الورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة، حتى قدموا على رسول اللّه (ص) فأخبروه بما اُصيب منهم ومظاهرة قريش بني بكر عليهم، ثم انصرفوا راجعين إلى مكّة. |
ندامة قريش |
ثم ندمت قريش على ما صنعت، وعلموا أنّ ذلك نقض لما كان بينهم وبين رسول اللّه (ص) وخافوا ردّه الحاسم عليهم، فبعثوا إليه أبا سفيان ليشدّد العقد. وقد كان رسول اللّه (ص) قال للناس: كأنّكم بأبي سفيان قد جاء ليشدّد العقد ويزيد في المدّة. ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة، فدخل على ابنته اُمّ حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه (ص) طوته عنه. فقال : يا بنية أرغبتِ بي عن هذا الفراش، أم رغبتِ به عنّي؟ قالت : بل هو فراش رسول اللّه (ص)، ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك باللّه تعالى. فقال : واللّه لقد أصابك يا بنية بعدي شرّ. ثم خرج حتى أتى رسول اللّه (ص) فقال: يا محمد احقن دم قومك، وأجر بين قريش، وزدنا في المدة. فقال (ص) : أغدرتم يا أبا سفيان؟ قال : لا. قال (ص) : فنحن على ما كنا عليه. ثم لقي أبو سفيان أحد الصحابة فكلّمه أن يكلّم رسول اللّه (ص). فقال : ما أنا بفاعل. ثم لقي صحابياً آخر، فقال له مثل ذلك. ثم أتى إلى منزل علي بن أبي طالب (ع) وفاطمة (ع) بنت رسول اللّه (ص) وعندهما الحسن والحسين (عليهما السلام) يدبان بين يديهما. فقال : يا بنت سيّد العرب تجيرين بين قريش، وتزيدين في المدة، فتكونين أكرم سيّدة في الناس؟ فقالت (ع) : جواري جوار رسول اللّه (ص). فقال : أتأمرين ابنَيْكِ أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر؟ قالت (ع) : واللّه ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس، وما يجير على رسول اللّه (ص) أحد. فقال عندها، وقد التفت إلى علي (ع): يا أبا الحسن أنت أمسّ القوم بي رحماً، واني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائباً، اشفع لي إلى رسول اللّه (ص). فقال (ع) : ويحك يا أبا سفيان، لقد عزم رسول اللّه (ص) على أمر لا نستطيع أن نكلّمه فيه. فقال : يا أبا الحسن، اني أرى الاُمور قد اشتدّت عليّ، فانصحني واجعل لي منها وجهاً. فقال له علي (ع): أنت شيخ قريش فاذهب وقم على باب المسجد فاجر بين قريش، ثم الحق بأرضك. فقال : أو ترى ذلك مغنياً عنّي شيئاً؟ قال (ع) : لا واللّه ما أظن ذلك، ولكن ما أجد لك غيره. ولعله قال له علي (ع) ذلك حتى يفتح باب الأمل عليه، فيلزمه عبرها بالصلح ويسد عليه طريق التفكير في تجييش الجيوش لمحاربة المسلمين من جديد. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين قريش، ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال : أتيت محمداً فكلّمته، فواللّه ما ردّ عليَّ شيئاً، ثم جئت أحد الصحابة فلم أجد عنده خيراً، ثم أتيت صحابياً آخر فكان كذلك، ثم جئت علياً فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليّ بشيء صنعته، فواللّه ما أدري هل يغني شيئاً أم لا؟ قالوا : وبمَ أمرك؟ قال : أمرني أن اُجير بين الناس، ففعلت. قالوا : فهل أجاز ذلك محمد؟ قال : لا. قالوا : ويلك ما زاد الرجل على أن لعب بك، أو أنت تجير بين قريش؟ مايغني عنا ما قلت. قال : لا واللّه ما وجدت غير دلك. |
النبي (ص) يتجهّز للفتح |
ثم أمر رسول اللّه (ص) الناس بالجهاز، وأعلمهم انه سائر إلى مكة، وقال: اللّهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، فتجهَّز الناس. فكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى أهل مكة يخبرهم بمسير رسول اللّه(ص) إليهم، وسلّم الكتاب إلى امرأة سوداء اسمها سارة مع عشرة دنانير لتوصله إلى أهل مكة. وسارة هذه هي مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هشام، وكانت قد أتت رسول اللّه (ص) من مكة إلى المدينة. فقال لها رسول اللّه (ص) : أمسلمة جئت؟ قالت : لا. قال (ص) : أمهاجرة جئت؟ قالت : لا. قال (ص) : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي، وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني. قال (ص) : فأين أنت من شباب المشركين؟ وكانت مغنيّة نائحة. قالت : ما طلب منّي بعد وقعة بدر. فحثّ عليها رسول اللّه (ص) بني عبدالمطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة. فلما كان رسول اللّه (ص) يتجهّز لفتح مكة، أتاها حاطب وسلّمها الكتاب وأمرها أن تأخذ على غير الطريق. فلما خرجت سارة بالكتاب نزل جبرئيل على رسول اللّه (ص) وأخبره بذلك. فاستدعى (ص) علياً (ع) وقال له: إنّ بعض أصحابي قد كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا، وقد كنت سألت اللّه أن يعمي أخبارنا عليهم، والكتاب مع امرأة سوداء قد أخذت على غير الطريق، فخذ سيفك وألحقها وانتزع الكتاب منها وخلّها، وصر به إليَّ. ثم استدعى (ص) الزبير وقال له: امض مع علي بن أبي طالب في هذا الوجه. فمضيا، فلما أدركاها، قال لها الزبير: أين الكتاب الذي معك؟ فأنكرت وحلفت وبكت. فقال الزبير وقد التفت إلى عليّ (ع): ما أرى معها يا أبا الحسن كتاباً، فارجع بنا إلى رسول اللّه (ص) نخبره ببراءتها. فقال علي (ع): يخبرني رسول اللّه (ص) انّ معها كتاباً ويأمرني بأخذه منها، وتقول أنت: انه لا كتاب معها؟! ثم اخترط (ع) السيف وتقدّم إليها وقال: أما واللّه لئن لم تخرجي الكتاب ثم لأضربنّ عنقك. فقالت لما رأت الجدّ: إذا كان لا بدّ من ذلك فأعرض يابن أبي طالب بوجهك عنّي، فأعرض بوجهه، فكشفت قناعها وأخرجت الكتاب من عقيصتها، فأخذه علي (ع) وصار به إلى رسول اللّه (ص). |
مع حاطب بن أبي بلتعة |
ولما كان أمر حاطب هذا، يتطلّب تهييج الرأي العام ضده، حتى يرتدع كل من يفكّر في ارتكاب أمثالها، ولعله لذلك نرى انّ رسول اللّه (ص) أمر بالصلاة جامعة، ثم صعد المنبر وأخذ الكتاب بيده وقال: أيها الناس اني قد كنتُ سألتُ اللّه عزّوجلّ أن يخفي أخبارنا عن قريش، وانّ رجلاً منكم كتب إلى أهل مكة يخبرهم بخبرنا، فليقم صاحب الكتاب، وإلاّ فضحه الوحي. فلم يقم أحد، فأعادها ثانية، فقام حاطب بن أبي بلتعة وقال: أنا يا رسول اللّه صاحب الكتاب، وما أحدثت نفاقا بعد اسلامي ولا شكاً بعد يقيني. فقال له رسول اللّه (ص) : فما الذي حملك على أن كتبت هذا الكتاب ؟ قال وهو يلتمس لنفسه عذراً : يا رسول اللّه انّ لي أهلاً بمكة، وليس لي بها عشيرة يدفعون عن أهلي، فأردتُ أن تكون لي عند القوم يد يدفع اللّه بها عن أهلي ومالي، إذ ليس أحد من المهاجرين إلاّ وله هناك من عشيرته من يدفع اللّه به عن أهله وماله. فأعذره رسول اللّه (ص) وعفا عنه وقال لأصحابه يوصيهم به: لا تقولوا له إلاّ خيراً. فقام أحد الصحابة وقال: يا رسول اللّه دعني أضرب عنق هذا المنافق، إنه قد خان اللّه ورسوله والمؤمنين. فقال له رسول اللّه (ص) : اتركه، ونهاه عن التعرّض له. فأنزل اللّه تعالى في حاطب: (يا أيّــها الَّذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تلقون إليهم بالمودّة) إلى قــوله سبحانه: (لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم واللّه بما تعملون بصير)(1). |
الزحف نحو مكة |
وبعث رسول اللّه (ص) إلى من حوله من العرب فجلبهم: أسلم وغفّار ومزينة وجهينة وأشجع وسُليم، فمنهم من وافاه بالمدينة، ومنهم من لاقاه بالطريق. وخرج (ص) في عشرة آلاف من المسلمين، ونحو من أربعمائة فارس، ولم يتخلّف من المهاجرين والأنصار عنه أحد، وحيث انه كان في شهر رمضان صام وصام الناس، حتى إذا بلغ كراع الغميم، نزل (ص) فأمر بالإفطار لنزول الوحي عليه بذلك، فأفطر وأفطر الناس، وصام قوم فسمّوا (العصاة) لأنهم صاموا، ظنّاً منهم بأن الصوم حتى في مثل هذه الحال أفضل، فاجتهدوا مقابل نصّ رسول اللّه(ص) وأمره لهم بالإفطار، فأنذرهم القرآن وحذّرهم مغبّة التقدّم على رسول اللّه (ص)، وأمرهم بالتقوى والتحرز عن الإجتهاد مقابل نصوصه الصريحة بقوله: (يا أيُّها الذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي اللّه ورسوله واتّقوا اللّه إنّ اللّه سميع عليم)(2). |
من ذكريات الفتح |
وقد كان العباس عم رسول اللّه (ص) خرج بأهله وعياله مهاجراً مسلماً فلقي رسول اللّه (ص) بالجحفة، فانضمّ إليه. وكان ممن لقي رسول اللّه (ص) بالطريق أيضاً: أبوسفيان بن الحارث بن المطلب ابن عمه، وعبداللّه بن أبي اُمية ابن عمته، أخو اُم سلمة اُم المؤمنين، لقيا رسول اللّه (ص) بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، فالتمسا الدخول عليه، فلم يأذن لهما. فكلّمته اُم سلمة فيهما فقالت: يا رسول اللّه ابن عمك، وابن عمتك وصهرك. قال (ص) : لا حاجة لي بهما، أما ابن عمّي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال، وكان من قوله له: (لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً)(3). فلما خرج الخبر إليهما بذلك قال أبو سفيان بن الحارث ومعه ابن له: واللّه ليأذننّ لي أو لآخذنّ بيد ابني هذا ثم لنذهبنّ في الأرض حتى نموت عطشاً وجوعاً. فلما بلغ رسول اللّه (ص) ذلك رقّ لهما وأذن لهما. وقيل : انّ علياً (ع) قال لأبي سفيان بن الحارث: ائت رسول اللّه (ص) من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: (تاللّه لقد آثرك اللّه علينا وإن كنّا لخاطئين)(4) ففعل ذلك أبو سفيان بن الحارث. فقال رسول اللّه (ص) مجيباً له وهو لا يرضى إلا بأن يتفوّق في حسن القول عليه : (قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين)(5). فأنشده أبو سفيان بن الحارث أبياتاً، وقد أسلم وحسن إسلامه، وكذلك فعل عبداللّه بن أبي اُمية. |
في مرّ الظهران |
ثم مضى رسول اللّه (ص) حتى نزل مرّ الظهران عشاءً، أي: نزل على مشارف مكة ـ وقد عميت أخباره عن قريش ـ فأمر (ص) أصحابه فأوقدوا أكثر من عشرة آلاف نار، ولم يبلغ قريشاً مسيره وهم مغتمّون لما يخافون من غزوه إياهم. فقال العباس : يا سوء صباح قريش، واللّه لئن دخل رسول اللّه (ص) مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال : فركبتُ بغلة رسول اللّه (ص) فخرجت حتى أتيت الأراك، فقلت لعلّي أجد بعض الحطّابة، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول اللّه (ص)، فيأتوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخل عليهم عنوة. قال : فواللّه إني لأسير عليها إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وحكيم بن حزام، وأبوسفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيراناً قط، ولا عسكراً. قال : ويقول بديل: هذه واللّه خزاعة حمشتها الحرب. فيقول أبوسفيان : خزاعة أقل وأذلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها. قال : فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة. فعرف صوتي فقال: يا أباالفضل؟ قلت : نعم. قال : ما وراك وما هذه النيران؟ قلت : هذا رسول اللّه (ص) وراك، قد جاء بما لاقبل لكم به، بعشرة آلاف من المسلمين. قال أبو سفيان : فما الحيلة؟ قلت : واللّه لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه (ص) فأستأمنه لك، فردفني، ورجع صاحباه. |
المساعي الحميدة لعباس |
انّ التقاء الشخصيات المرتبطة بالسماء كرسول اللّه (ص) له الأثر البالغ في احتواء الطرف واستهوائه، فإن كان عدوّاً ضعفت روحيته واستسلم للحق، ولو عن عدم قناعة، وإن كان صديقاً أو محايداً قويت معنويته، واستلهم الحق عن قناعة، ولذلك تأبى قوى الشرّ وبكل إصرار أن يلتقي الناس ويتعرَّفوا على المرتبطين بالسماء، بينما العباس ذوالمكانة المعروفة، كان يريد الخير لأهل مكة، فقام بهذا الدور، ونال تأييد رسول اللّه (ص)، ولذلك أردف أباسفيان خلفه. قال: فجئت به، فكلما مررنا بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول اللّه (ص) وأنا عليها، قالوا: عم رسول اللّه (ص) على بغلة رسول اللّه (ص). حتى مررت بنار أحد الصحابة فقال: من هذا؟ فلما رأى أباسفيان على عجز الدابة قال: هذا أبوسفيان عدوّ اللّه؟ الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول اللّه (ص)، فركضت البغلة فسبقته بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء، واقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول اللّه (ص) ثم جلست وأخذت برأسه وقلت: واللّه لايناجيه الليلة أحد دوني. فبينا أنا كذلك إذ دخل الصحابي وقال: يا رسول اللّه هذا أبوسفيان عدوّ اللّه قد أمكن اللّه منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه. فقلت : يا رسول اللّه اني قد أجرته. فلما أكثر الصحابي في شأنه قلت له: مهلاً، فواللّه ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني فلان ما قلت هذا. قال الصحابي: مهلاً يا عباس، فواللّه إسلامك كان أحبّ إليّ من إسلام أبي لو أسلم، وما ذلك إلا اني قد عرفت انّ إسلامك كان أحبّ إلى رسول اللّه(ص). عندها التفت رسول اللّه (ص) الى عمّه العباس وقال ـ يقطع حوارهما ـ: اذهب به ياعباس إلى رحلك فقد آمنّاه، فإذا أصبحت فأتني به. قال : فذهبت به إلى رحلي. |
الأمر الذي لابدّ منه |
قال العباس : فلما أصبحت غدوت بأبي سفيان على رسول اللّه (ص)، فلما رآه رسول اللّه (ص) قال: ويحك يا أباسفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلاّ اللّه؟ قال : بأبي أنت واُمّي ما أحلمك وأكرمك، وأرحمك وأوصلك، واللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه إله غيره لأغنى عنّي شيئاً يوم بدر ويوم اُحد. قال (ص) : ويحك يا أباسفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه؟ قال : بأبي أنت واُمي ما أحلمك وأكرمك وأرحمك وأوصلك، أمّا هذه ففي النفس منها شيء. فقال له العبّاس: ويحك أسلم واشهد بشهادة الحق، إشهد أن لا إله إلا ّ اللّه وأنّ محمداً رسول اللّه قبل أن تضرب عنقك. فتشهد وقد تلجلج بها لسانه شهادة اضطرار، فأسلم اضطراراً. فقال العباس : يا رسول اللّه، انّ أباسفيان رجل يحبّ الفخر، فاجعل له شيئاً. قال (ص) : نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قال أبو سفيان : داري ؟! قال (ص) : دارك، ثم قال : ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. ومع ذلك كله لم يأمن رسول اللّه (ص) أبا سفيان من الغدر إن تركه يذهب إلى مكة، ولذلك التفت إلى عمّه العباس وقال (ص): خذه يا عم إلى خيمتك، وكانت قريبة. فلما جلس أبو سفيان في الخيمة ندم على مجيئه مع العباس وقال في نفسه: من فعل بنفسه مثل ما فعلت أنا؟ جئت فأعطيت بيدي، ولو كنت انصرفت إلى مكة فجمعت الأحابيش وغيرهم فلعلّي كنت أهزمه! فناداه رسول اللّه (ص) من خيمته قائلاً : يا أبا سفيان إذن: كان اللّه يخزيك. فسقط أبو سفيان في يده ولم يقل شيئاً. فلما أصبح وقت الصلاة سمع بلالاً يؤذّن فقال: ما هذا المنادي يا أبا الفضل؟ قال : هذا مؤذّن رسول اللّه (ص) للصلاة. ثم خرج به إلى رسول اللّه (ص) فرآه يتوضّأ وأيدي المسلمين تحت شعره، فليس قطرة تصيب رجلاً منهم إلا مسح بها وجهه، فقال أبو سفيان: باللّه ما رأيت كاليوم قط كسرى ولا قيصر. |
احتياطات |
ثم أمر رسول اللّه (ص) العباس أن يحبسه بمضيق من الوادي عند خطم الجبل تمر به جنود اللّه فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها. قال العباس : وكان كلما مرت قبيلة قال لي أبو سفيان: يا عباس من هذه؟ فأقول : سُليم. فيقول : ما لي ولسُليم. ثم تمر القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤلاء؟ فأقول : مزينة. فيقول : ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تمر قبيلة إلا سألني عنها، فأخبرته بهم، وكلما أخبرته عنها قال: ما لي ولبني فلان، حتى مرّ به رسول اللّه(ص) في كتيبته الخضراء فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. فقال : يا عباس، من هؤلاء؟! فقلت : هذا رسول اللّه (ص) في المهاجرين والأنصار. قال : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، ثم قال: واللّه يا أباالفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. قلت : يا أبا سفيان انها النبوّة. قال : فنعم إذن. قلت : النجاء إلى قومك. وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، فلما مرّ بأبي سفيان قال له: (اليوم يوم الملحـمة اليـوم تسبى الحرمة) يا معشر الأوس والخزرج ثاركم يوم الجبل. فسمعها أبو سفيان، فأضمرها في نفسه حتى إذا مرّ رسول اللّه (ص) به قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ انه قال كذا وكذا. فقال (ص) : ليس مما قال سعد شيء، ثم أرسل رسول اللّه (ص) إلى سعد فنزع الراية منه ودفعها إلى علي (ع) وقال: اُدخلها ادخالاً رفيقاً. فأخذ علي (ع) الراية بيده، ثم جعل ينادي ويقول: اليوم يوم المرحمة اليوم تحفظ الحرمة |
أبو سفيان : الداعية الجديد |
ثم انّ رسول اللّه (ص) التفت إلى أبي سفيان وقال له: يا أباسفيان تقدّم إلى مكة، فأعلمهم بالأمان. فمضى أبوسفيان حتى جاء قريشاً فصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم بما لاقبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن. قالوا : قاتلك اللّه وما تغني عنّا دارك؟ قال : ومن أغلق بابه فهو آمن. فتفرّق الناس إلى دورهم وإلى المسجد، وسار رسول اللّه (ص) فدخل مكة من أعلاها.
|
1 ـ الممتحنة: 1 ـ 3. 2 ـ الحجرات: 1. 3 ـ الإسراء: 90. 4 ـ يوسف: 91. 5 ـ يوسف: 92. |