الفهرس

فهرس الفصل الخامس

المؤلفات

 التاريخ

الصفحة الرئيسية

 

خاتمة القتال

ولما قتل جمع من المسلمين وفرّ آخرون، واضطربت الصفوف وتداخلت، جَمَع رسول اللّه (ص) من بقي معه من المسلمين ثم حمل هو (ص) وعلي (ع) والمسلمون معه حملة رجل واحد على القوم، فانهزم المشركون وتشتّت أمرهم وانصرفوا إلى مكة ولم يصلوا إلى ما أرادوا مـــن قتل الرسول (ص) وابادة المسلمين، فكان النصر أخيراً للمسلمين وإن قتل منهم جمع كثير.

هتافات متقابلة

ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل، ثم صرخ بأعلى صوته: انعمت فعال، ان الأيام دول، وان الحرب سجال، يوم بيوم بدر.

فقال رسول اللّه (ص): ألا تجيبونه؟

قالوا : يا رسول اللّه ما نقول؟

قال (ص) : قولوا: لا سواء، قتلانا في الجنّة وقتلاكم في النار.

فقال أبو سفيان : لنا العزّى ولا عزّى لكم.

فقال رسول اللّه (ص): ألا تجيبونه؟

قالوا : يا رسول اللّه ما نقول؟

قال (ص) : قولوا : اللّه مولانا ولا مولى لكم.

فقال أبو سفيان : اعل هبل.

فقال رسول اللّه (ص) : ألا تجيبونه؟ قولوا: اللّه أعلى وأجلّ.

ولما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: أحيّ ابن أبي كبشة؟ فأما ابن أبي طالب فقد رأيناه مكانه.

فقال له علي (ع): أي والذي بعثه بالحقّ انه (ص) ليسمع كلامك.

فقال أبو سفيان : لعن اللّه ابن قمئة زعم انه قتل محمداً، ثم قال: انه قد كانت في قتلاكم مُثلة، وانّ موعدنا وموعدكم بدراً في العام القابل.

فقال رسول اللّه (ص) لعلي (ع): قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد.

استطلاع أخبار القوم

ثم بعث رسول اللّه (ص) علي بن أبي طالب (ع) وقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون وماذا يريدون؟ فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن كانوا ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لاُناجزنهم.

قال علي (ع): فخرجت في أثرهم أنظر ما يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة، فلما وقع نظر أبي سفيان على علي (ع) قال له: يا علي ما تريد هو ذا نحن ذاهبون إلى مكة، فانصرف إلى صاحبك فأخبره.

فأتبعهم جبرئيل (ع)، فكلّما سمعوا حافر فرسه جدّوا في السير، وكان يتلوهم فإذا ارتحلوا قالوا: هو ذا عسكر محمد قد أقبل، ومازالوا كذلك حتى دخلوا مكة منهزمين ومرعوبين.

انّ اللّه بالغ أمره

وروي : انه لما انصرف أبو سفيان ومن معه من غزاة اُحد وبلغوا الروحاء، ندموا على انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا فقالوا: لا محمداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتى إذا لم يبق إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم.

فبلغ ذلك الخبر رسول اللّه (ص) فأراد أن يرهب العدوّ ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال: (ألا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها، فإنها انكاء للعدوّ وأبعد للسمع) فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من القرح والجرح الذي أصابهم يوم اُحُد وامتثلوا ما أمرهم به.

مدفن الشهداء

ولما وضعت الحرب أوزارها يوم اُحد، حمل كل واحد قتيله على جمل ليدفنوهم في المدينة، فكانوا كلما توجّهوا بهم نحو المدينة بركت الجمال، وإذا توجّهوا بهم نحو المعركة أسرعت.

فشكوا ذلك إلى رسول اللّه (ص) فقال: ألم تسمعوا قول اللّه تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم)(1) فأرجعهم (ص) إلى مكانهم ودفنهم بثيابهم الملطّخة بالدماء كل رجلين في قبر ـ على رواية ـ الاّ حمزة (ع) فإنه دفن وحده.

على مشارف المدينة

ثم انصرف المسلمون مع النبي (ص) إلى المدينة، فاستقبلته فاطمة(ع) ومعها اناء فيه ماء، فغسل به وجهه، فلمّا رأته فاطمة(ع)(2) قد شجّ في وجهه واُدمي فوه ادماءاً بكت(ع) وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب اللّه على من أدمى وجه رسول اللّه (ص).

وكان معه (ص) علي (ع) وقد خضب الدم يده إلى كتفه، ومعه ذو الفقار، فناولـه فاطمة(ع) وقال لها: خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم، وأنشأ يقول:

أفاطـم هــاك الســــيف غيـر ذميـم          فلســــــت بــرعــديد ولا بـمليم

لعمري لقد أعذرت في نصــر أحمد          وطـــــاعة ربٍ بــالعبــاد عـليم

اميطي دماء القـــــــوم عنه فإنـــه          ســقى آل عبـدالدار كأس حميم

وقال رسول اللّه (ص) : خذيه يا فاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه، وقد قتل اللّه بسيفه صناديد قريش.

مع ابنة جحش

فلما ارتحل رسول اللّه (ص) ودخل المدينة، استقبلته النساء يولولن ويبكين، فاستقبلته زينب بنت جحش، فقال لها رسول اللّه (ص): احتسبي.

فقالت : من يا رسول اللّه؟

قال (ص) : أخاك.

قالت : (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(3) هنيئاً له الجنّة.

ثم قال (ص) لها : احتسبي.

فقالت : من يا رسول اللّه؟

قال (ص) : حمزة بن عبدالمطلب.

قالت : (إنّا للّه وإنّا إليه راجعون)(4) هنيئاً له الشهادة.

ثم قال لها : احتسبي.

فقالت : من يا رسول اللّه؟

قال (ص) : زوجك مصعب بن عمير.

قالت : واحزناه.

فقال رسول اللّه (ص) : انّ للزوج عند المرأة لحدّاً ما لأحد مثله.

فقيل لها: لم قلت ذلك في زوجك؟

قالت : ذكرت يتم ولده.

النساء المخلصات

وكانت امرأة من بني النجار قتل أبوها وزوجها وأخوها مع رسول اللّه (ص)، فدنت من رسول اللّه (ص) والمسلمون قيام على رأسه، فقالت لرجل متسائلة بتلهّف: أحيّ رسول اللّه (ص)؟

قال : نعم.

قالت وهي مستبشرة : أستطيع أن أنظر إليه؟

قال : نعم.

فأوسعوا لها، فدنت منه (ص) وقالت: كل مصيبة جلل بعدك يا رسول اللّه، ثم انصرفت.

البكاء على حمزة

ولما انصرف رسول اللّه (ص) إلى المدينة بعد أن صلّى على القتلى ودفنهم بثيابهم ودمائهم، مرّ بدور في المدينة، فسمع بكاء النوائح على قتلاهنّ، فترقرقت عينا رسول اللّه (ص) بالدموع وبكى ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له.

فلمّا سمعها سعد بن معاذ واسيد بن حضير قالا: لا تبكينّ امرأة حميمها حتى تأتي فاطمة(ع) فتسعدها بالبكاء.

فلما سمع رسول اللّه (ص) الواعية على حمزة وهو عند فاطمة(ع) على باب المسجد قال: ارجعن يرحمكنّ اللّه فقد آسيتنّ بأنفسكنّ .

غزوة حمراء الأسد

ولما وافى اليوم الثاني من انتهاء معركة اُحد، أذّن مؤذّن رسول اللّه (ص) في الطلب للعدو، وعهد رسول اللّه (ص) أن لا يخرج معه أحد إلا من حضر المعركة يوم اُحد، حيث قال : ألا لا يخرجنّ معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس، ألا من كانت به جراحة فليخرج، ومن لم تكن به جراحة فليقم.

فخرج معه سبعون رجلاً ممّن أثقلهم الجراح وهم يأملون أن لا تفوتهم غزوة مع رسول اللّه (ص).

وقدّم (ص) علياً (ع) بين يديه براية المهاجرين، واستأذنه جابر بن عبداللّه في أن يفسح له في الخروج معه، ففسح له في ذلك، فخرجوا على ما بهم من الجهد والجراح، وإنما خرج (ص) مرهباً للعدوّ ومتجلّداً، وذلك بعد أن استخلف على المدينة ابن اُمّ مكتوم، فبلغ حمراء الأسد، وهي على ثمانية أميال من المدينة.

وهناك مرّ برسول اللّه (ص) معبد بن أبي معبد الخزاعي، وكانت خزاعة عيبة نصح لرسول اللّه (ص) مسلمهم وكافرهم، لايخفون عليه شيء، ومعبد يومئذ مشرك. فقال : يا محمد، أما واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن اللّه عافاك فيهم.

ثم خرج معبد من عند رسول اللّه (ص) حتى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا على الرجعة إلى رسول اللّه (ص) وأصحابه وهم يقولون: أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم؟ فلنكرنّ على بقيتهم فلنفرغن منهم.

فلما رأى أبو سفيان معبداً، قال: ما وراءك يا معبد؟

قال : محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرّقون عليكم تحرّقاً، وقد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما ضيّعوا وفيهم من الحنق عليكم ما لم أر مثله قط.

قال : ويلك ما تقول؟

قال : واللّه ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل.

فساء ذلك أبا سفيان ومن معه، ووقع في قلوبهم الرعب مما دعاهم إلى الإنصراف عما عزموا عليه، والرجوع إلى مكة.

هذا ورسول اللّه (ص) لما نزل بحمراء الأسد أمر أصحابه في الليل بأن يوقدوا حولهم نيراناً كثيرة، فأوقدوا خمسمائة نار كانت ترى من بعيد.

فتصوّر المشركون ان النبي (ص) يقفوا أثرهم في عدد عظيم من أصحابه، فتشاوروا فيما بينهم ثم عزموا على الإنصراف إلى مكة.

وأقام رسول اللّه (ص) بأصحابه هناك ثلاثة أيام، فلما اطمئنّوا من انصراف المشركين عن الكرّة عليهم رجعوا إلى المدينة فوصلوها يوم الجمعة بعد أن غابوا عنها خمسة أيّام.

سرية الغنويّ إلى الرجيع

والرجيع ـ بفتح الراء وكسر الجيم ـ اسم ماء لهذيل بين مكة وعسفان، وكانت الوقعة بالقرب منه.

وذلك انه قدم على رسول اللّه (ص) أوائل شهر صفر على رأس أربعة أشهر من اُحد نفر من عضل والقارة، وقيل: من عضل والديش، وهما بطنان من العرب، فذكروا للنبي (ص) أنّ فيهم إسلاماً، ورغبوا أن يبعث معهم نفراً من المسلمين يعلّمونهم القرآن ويفقّهونهم في الدين.

فبعث رسول اللّه (ص) ستة رجال من أصحابه، وقيل: سبعة، وقيل: عشرة، فيهم مرثد بن أبي مرثد الغنوي، فجعله أميراً عليهم حتى إذا صاروا بالرجيع غدروا بهم، واستصرخوا عليهم هذيلاً، فوقع بين الجانبين قتال شديد أسفر عن غلبة المشركين لكثرتهم، واندحار المجموعة الصغيرة من المسلمين لقلّتهم وعدم تهيّئهم للحرب والقتال.

سرية منذر إلى بئر معونة

وبئر معونة ـ بضم العين ـ موضع ببلاد هذيل بين أرض بني عامر وحرة بني سليم، وهي الى حرة بني سليم أقرب.

وذلك في أواسط شهر صفر على رأس أربعة أشهر من اُحد أيضاً، ولكن قبل أن يصل إلى المدينة أنباء الغدر بسرية الغنوي إلى الرجيع.

وكان سببها: ان أبا البراء عامر بن مالك المعروف بملاعب الأسنة قدم على رسول اللّه (ص)، فعرض (ص) عليه الإسلام، فلم يسلم ولم يبعد، وقال: يا محمد: انّ أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.

فقال رسول اللّه (ص) : إنّى أخشى أهل نجد عليهم.

فقال أبو براء : أنا لهم جار، فابعثهم.

فبعث (ص) المنذر بن عمرو في بضعة وعشرين رجلاً، وقيل: في أربعين رجلاً، وقيل: في سبعين، وكانوا من خيار المسلمين ومن القرّاء، يحتطبون بالنهار، ويصلون بالليل، ويتدارسون القرآن.

فساروا حتى إذا نزلوا بئر معونة بعثوا حرام بن ملحان بكتابه (ص) إلى عامر بن الطفيل، فلما أتاه لم ينظر في كتابه حتى عدا على الرجل فقتله.

ثم استصرخ عليهم بني عامر فلم يجيبوه وقالوا: نحن لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقداً وجواراً، فاستصرخ قبائل من بني سليم: عصيّة ورعلا وذكوان، فأجابوه إلى ذلك.

ثم خرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم وقاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم، إلا كعب بن زيد، فإنهم تركوه وبه رمق، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيداً.

وأسر عمرو بن اُمية الضمريّ، فلما أخبرهم أنه من مضر أخذه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على اُمه.

فقدم عمرو بن اُميّة الضمري إلى رسول اللّه (ص) وأخبره الخبر، فنعاهم إلى أصحابه وقال: انّ أصحابكم قد اُصيبوا وانهم قد سألوا ربهم وقالوا: ربّنا أبلغ عنّا قومنا بأنا قد لقينا ربّنا فرضي عنّا ورضينا عنه.

ولما بلغ ذلك أبا براء، شقّ عليه اخفار عامر إياه وما أصاب أصحاب رسول اللّه (ص) بسببه وجواره، ونزل به الموت، فحمل ربيعة بن أبي براء ـ لما وصله الخبر ـ على عامر بن الطفيل وهو في نادي قومه فأخطأ مقاتله فأصاب فخذه.

فقال عامر: هذا عمل عمي أبي براء، فلم يجرأ على الثأر منه.

وقيل : ان خبر بعث الرجيع، وخبر أصحاب بئر معونة أتى النبي (ص) في ليلة واحدة فحزّ ذلك في قلبه وقلوب المسلمين، وعرف المسلمون ان الغدر والفتك من عادة الجاهلية والجاهليّين، ولايمكن قلعه ولا اجتثاث جذوره إلاّ بنشر الإسلام وابلاغ تعاليمه الأخلاقية إلى الناس كافة، فاندفعوا وبكل قوّة إلى نشر الإسلام وتبليغ أحكامه والإلتزام بإطاعة اللّه ورسوله (ص).

 

1 ـ آل عمران : 154.

2 ـ قد سبق أنها (صلوات الله عليها) خرجت إلى اُحد بعدما سمعت النداء بقتل أبيها (ص) وذلك على رواية, أو أنها رجعت بعد ذلك ثم استقبلته (ص) عند رجوعه.

3 ـ البقرة : 156.

4 ـ البقرة : 156.