فهرس الفصل الخامس | المؤلفات |
غزوة بني سُليم |
وبعد بدر بسبعة أيام، خرج رسول اللّه (ص) في ثلاثمائة من الصحابة يريد بني سُليم، حيث كانوا يعيثون في الأرض فساداً ويستعدّون لشنّ هجوم على المدينة. فبلغ (ص) ماء يقال له: قرقرة الكدر، وهي أرض ملساء، والكُدر: طير في لونها كدرة، فأقام بها ثلاث ليال وقيل: عشراً، فلم يلق حرباً، وذلك بعد أن استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، وقيل: ابن اُم مكتوم، وحمل اللواء علي بن أبي طالب (ع)، وقيل: إنه أصاب لهم نعماً يزيد على خمسمائة وغلاماً يقال له يسار فأعتقه، ورجع ولم يلق كيداً. وكانت هذه الغزوة من غزواته التأديبية. |
غزوة بني القينقاع |
ثم كانت غزوة بني قينقاع ـ بطن من يهود المدينة ـ في يوم السبت للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة النبوية المباركة، وكانوا أول من نقض العهد، فجمعهم رسول اللّه (ص) في سوق بني قينقاع وقال لهم: (يا معشر اليهود احذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا، فإنكم قد عرفتم اني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد اللّه إليكم). فقالوا : يا محمد لا يغرنّك انك لقيت قومك فأصبت منهم، ولا علم لهم بالحرب، فإنا واللّه لو حاربناك لعلمت انا خلافهم. فكادت تقع بينهم المناجزة فنزل فيهم: (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنّم وبئس المهاد، قد كان لكم آية في فئتين التقتا…)(1) إلى آخر الآية. فبينما هم على ما أظهروه من العداوة ونبذ العهد إذ جاءت امرأة رجل من الأنصار فجلست إلى صائغ في حلي لها، فجاء أحد بني قينقاع فعمد إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها وهي لا تعلم، فلما قامت انكشفت فصاحت، فضحكوا منها، فاتبعه رجل من المسلمين فقتله، فاجتمع عليه بنو قينقاع فقتلوه ونبذوا عهدهم ووقع الشر بين المســـلمين وبين بني قينقاع، فنزل فيهم: (وامّا تخافنّ من قوم خيانة، فانبذ إليهم على سواء انّ اللّه لا يحبّ الخائنين)(2). فسار إليهم النبي (ص) وحاصرهم خمس عشرة ليلة إلى هلال ذي القعدة وكان اللواء بيد حمزة بن عبدالمطلب، وكان أبيض، فقذف اللّه في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول اللّه (ص) على ان له أموالهم، وان لهم النساء والذرّية. فأمر (ص) المنذر بن قدامة بتكتيفهم، فتوسّط لهم عبداللّه بن اُبيّ وألحّ عليه من أجلهم. فقال (ص): خلوهم، وأمر أن يجلوا من المدينة وتركهم من القتل، فأجلاهم محمد بن سلمة الأنصاري، وقيل: عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات الشام بنسائهم وذراريهم فلم يلبثوا إلاّ قليلاً حتى هلكوا، وأما أموالهم فخمّسها رسول اللّه (ص) وقسّم الباقي بين أصحابه. |
غزوة السويق |
ولما رجع رسول اللّه (ص) من غزوة بني القينقاع، أقام بالمدينة بقية شوال، وذي القعدة، وفادى في إقامته جلّ اُسارى بدر من قريش، ثم كانت غزوة السويق. وذلك ان أبا سفيان بن حرب كان نذر أن لا يمس رأسه من جنابة حتى يغزو محمداً (ص) فخرج في مائتي راكب من قريش ليبرّ نذره حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له: (نبت) وكان من المدينة على بريد أو نحوه. ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير تحت الليل، فأتى حُيي بن أخطب فضرب عليه بابه فأبى أن يفتح له وخاف. فانصرف منه إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك، وصاحب كنزهم، فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه وبطن له من خبر الناس. ثم خرج في عقب ليلته حتى أتى ناحية يقال لها: (العريض) فوجد فيها رجلاً من الأنصار وحليفاً له في حرث لهما فقتلهما، ثم حرق بيتاً وحرثاً لهم، ثم ولّى هارباً خوفاً من ملاحقة المسلمين، وقد رأى فيما فعله براً لنذره. فلما سمع رسول اللّه (ص) بذلك انتدب أصحابه وخرج في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكُدر، ثم انصرف راجعاً وقد فاته أبو سفيان وأصحابه، وطرحوا كثيراً من أزوادهم، كالسويق وغيره، يتخففون منها للنجاء، فأخذها المسلمون، فسميت غزوة السويق. فقال المسلمون: يا رسول اللّه أتطمع بأن تكون لنا غزوة؟ قال : نعم. |
غزوة ذي أمَر |
ولما رجع رسول اللّه (ص) من غزوة السويق، أقام بالمدينة بقية ذي الحجة أو قريباً منها، ثم غزا نجداً يريد غطفان. وذلك لأن جمعاً من غطفان تجمّعوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المدينة ويغيروا عليها، وقد جمعهم رجل يقال له: دعثور بن الحارث المحاربي. فندب رسول اللّه (ص) المسلمين وخرج بهم في أربعمائة وخمسين رجلاً، ومعهم أفراس. فلما سمعوا بمهبطه هربوا في رؤوس الجبال، فأصاب المسلمون رجلاً منهم يقال له: جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول اللّه (ص)، فدعاه إلى الإسلام فأسلم وضمه إلى بلال. وأصاب النبيّ (ص) مطر فبلّ ثوبه، فجعل وادي أمر بينه وبين أصحابه، ثم نزع ثيابه ونشرها على شجرة لتجفّ، واضطجع تحتها وغطفان ينظرون إليه، فقالوا لدعثور وكان أشدّهم فتكاً: قد انفرد محمد فعليك به، فأقبل ومعه سيف صارم حتى قام على رأسه (ص) فقال: من يدفعك منّي اليوم؟ فقال (ص) : اللّه، ودفع جبرئيل في صدره فوقع السيف من يده، فأخذه النبي (ص) وقام على رأسه وقال: من يمنعك منّي؟ قال : لا أحد، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك محمد رسول اللّه، ثم قال: واللّه لا أكثر عليك جمعاً أبداً، فأعطاه رسول اللّه (ص) سيفه. وعلى رواية : قال (ص) له: من يمنعك منّي؟ فقال : عفوك يا محمّد، فأعطاه (ص) سيفه، فأسلم الرجل. ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام، فأسلم منهم ناس كثير، وأنزل اللّه تعالى: (يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم) الآية. |
سريّة محمد بن مسلمة |
ثم انه لما انتصر المسلمون في غزوة بدر على أعدائهم المشركين وأسروا منهم سبعين، وقتلوا من صناديدهم ورؤوسهم سبعين، وألقوهم في القليب، قدم زيد بن حارثة بشيراً إلى أهل السافلة وعبداللّه بن رواحة إلى أهل العالية يبشران بالفتح. فقال كعب بن الأشرف وهو من نبهان من طي وكانت اُمه من بني النضير: أترون محمداً قتل هؤلاء؟ ان هؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، واللّه إن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما أيقن كعب الخبر خرج حتى قدم مكة فنزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي، وجعل يحرّض على رسول اللّه (ص) وينشد الأشعار ويبكي على أصحاب القليب، ويشبّب بنساء المسلمين حتى آذاهم، ثم انبعث يهجو رسول اللّه (ص) والمسلمين، ويمدح عدوّهم ويحرضهم عليهم. فقال له أبو سفيان والمشركون: أديننا أحبّ إليك أم دين محمد وأصحابه؟ وأيّ ديننا أهدى في رأيك وأقرب إلى الحق؟ فقال : أنتم أهدى منهم سبيلاً وأفضل. ثم تحالف معهم وتعاقد على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد (ص) وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة. ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فنزل جبرئيل (ع) وأخبر النبي (ص) بما تعاقد عليه كعب وأبوسفيان وأمره بقتل كعب. فقال رسول اللّه (ص) وقد عاد كعب إلى المدينة: من لنا بابن الأشرف، فإنه قد آذى اللّه ورسوله، وقد استعلن بعداوتنا وهجائنا، وقد خرج إلى قريش فأجمعهم على قتالنا، وقد أخبرني اللّه بذلك، ثم قدم بأخبث ما كان ينتظر قريشاً تقدم عليه فيقتلنا، ثم قرأ على المسلمين ما أنزل اللّه فيه: (ألم تر إلى الّذين اُوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً، اُولئك الذين لعنهم اللّه ومن يلعن اللّه فلن تجد له نصيراً)(3). فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول اللّه أتأذن لي أن أقتله؟ قال : نعم، إنّ اللّه قد أذن في قتله. فجاءه ليلاً ومعه أبو نائلة وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاه إلى الحصن، فنزل إليهم، فقتلوه، ثم أتوا النبيّ (ص) فأخبروه بقتله، وكفى اللّه المسلمين شرّ حرب كان يريد كعب ايقادها، وكان ذلك لأربع عشرة ليلة مضت من ربيع الأول. |
سرية زيد بن حارثة |
ثم بعث رسول اللّه (ص) زيد بن حارثة في مائة راكب إلى (القَرْدَة) (بالقاف المفتوحة والراء الساكنة) اسم ماء من مياه نجد، وذلك بعد رجوعه من بدر إلى المدينة بستة أشهر، أي أوائل ربيع الثاني، وقيل: أوائل جمادي الآخرة على رأس سبعة وعشرين شهراً من الهجرة النبوية المباركة. وسببه ان قريشاً خافوا من طرقهم التي كانوا يسلكون إلى الشام حين كان من وقعة بدر ما كان، فسلكوا طريق العراق، وكان فيهم أبوسفيان بن حرب ومعهم فضة كثيرة، وكانوا قد استأجروا رجلاً من بكر بن وائل يقال له: فرات بن حيّان يدلّهم على الطريق، فلقيهم زيد ومن معه على ماء يقال له: (القَرْدَة)، فأصاب تلك العير وما فيها وأعجزته الرجال هرباً، فقدم بها على رسول اللّه (ص) مع أسير أو أسيرين كان أحدهم فرات بن حيان، فأسلم فترك، وأما الأموال فخمست وقسمت بقيّتها بين أهل السريّة. وكانت هذه حملات تأديبية، ولكي يقابل قريش بالمثل حيث ضربوا على المدينة حصاراً اقتصادياً كما أشرنا إليه سابقاً. |
سرية عبداللّه بن عتيك |
لما قتل المسلمون في سرية محمد بن مسلمة كعب بن الأشرف وكانوا من الأوس، قالت الخزرج: واللّه لاتذهب الأوس بهذه الفضيلة علينا، وأخذوا يتذاكرون من يعادي رسول اللّه (ص) كابن الأشرف، فذكروا أبا رافع سلام بن أبي الحقيق، وكان من يهود خيبر، وكان يظاهر كعب بن الأشرف على رسول اللّه (ص) ويحرض المشركين عليه، ففكروا في قتله ليضاهوا في الفضل نظرائهم من الأوس، فاستأذنوا رسول اللّه (ص) في قتله، فأذن لهم. فخرج إليهم من الخزرج: عبداللّه بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبداللّه بن أنيس، وأبو قتادة، وخزاعي ابن الأسود حليف لهم، وأمّر عليهم عبداللّه بن عتيك، فخرجوا حتى قدموا خيبر، فأتوا دار أبي رافع، فدخلوا عليه فقتلوه وخرجوا وكان ذلك في جمادي الآخرة.
|
1 ـ آل عمران : 12 و 13. 2 ـ الأنفال : 58. 3 ـ النساء : 51 و 52. |