فهرس الفصل الرابع | المؤلفات |
مع ابن اُبيّ وأبي عامر |
قدم رسول اللّه (ص) المدينة وسيد أهلها: عبداللّه بن اُبيّ، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين حتى جاء الإسلام، ومعه في الأوس رجل هو في قومه من الأوس شريف مطاع: أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي بن النعمان وهو أبو حنظلة الغسيل يوم اُحد، وكان قد ترهب في الجاهلية، ولبس المسوح، وكان يقال له الراهب، فشقيا بشرفهما وضرهما. أما ابن اُبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوّجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم اللّه برسوله (ص) وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ورأى أنّ رسول اللّه (ص) قد استلبه ملكه، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل كارهاً مصرّاً على نفاقه وضغنه. وأما أبو عامر فأبى إلاّ الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام، فخرج إلى مكة ببضعة عشر رجلاً، وكان أبو عامر أتى رسول اللّه (ص) حين قدم المدينة قبل أن يخرج إلى مكة فقال: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال (ص): جئتُ بالحنيفية دين ابراهيم (ع). قال: فأنا عليها. فقال له رسول اللّه (ص): إنّك لست عليها. قال: بلى، إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها. قال (ص): ما فعلتُ، ولكني جئت بها بيضاء نقيّة. قال: الكاذب أماته اللّه طريداً غريباً وحيداً، يعرّض برسول اللّه (ص) أي: إنّك جئت بها كذلك. فقال رسول اللّه (ص): أجل فمن كذب يفعل اللّه به ذلك. فكان هو ذلك فقد خرج إلى مكة، فلما فتحت خرج إلى الطائف، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام فمات بها. |
في طريق العيادة |
وركب رسول اللّه (ص) إلى سعد بن عبادة يعوده من شكوى أصابته ـ على حمار عليه إكاف فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف ـ فمرّ بعبداللّه بن اُبيّ وهو في ظل (مزاحم) أطمه، وحوله رجال من قومه، فلما رآه رسول اللّه (ص) نزل فسلّم، ثم جلس فتلا القرآن، وذكّر باللّه وحذر، وبشر وأنذر. قال الراوي: وهو زام لا يتكلّم، حتى إذا فرغ رسول اللّه (ص) من مقالته قال: يا هذا إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقاً، فاجلس في بيتك فمن جاءك فحدّثه إيّاه، ومن لم يأتك فلا تغشه به، ولا تأته في مجلسه بما يكره. فقال عبداللّه بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين: بلى فاغشنا به وائتنا في مجالسنا ودورنا، فهو واللّه ممّا نحب، ومما أكرمنا اللّه به وهدانا. فقال عبداللّه حين رأى من خلاف قومه ما رأى: متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل تذل ويصـــرعك الذين تصـارع وهل ينهض البازي بغيـــر جناحه وإن جذ يوماً ريشــه فهو واقع فقال سعد: يا رسول اللّه لا يعرض في قلبك من قول هذا شيء، فو اللّه لقد جاءنا اللّه بك وإنا لننظم له الخرز لنتوّجه ملكاً علينا، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكاً أشرف عليه. |
عفو رسول اللّه (ص) |
وكان النبي (ص) وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم اللّه تعالى، ويصبرون على الأذى، قال اللّه عزّوجل: (ولتسمعن من الّذين اُوتوا الكتاب من قبلكم ومن الّذين أشركوا أذى كثيراً، وإن تصبروا وتتّقوا فإنّ ذلك من عزم الأُمور)(1). وقال تعالى: (ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم من بعد إيمانكم كفّاراً حسداً)(2) إلى قوله تعالى: (فاعفوا واصفحوا حتّى يأتي اللّه بأمره)(3). وكان النبي (ص) يأخذ بالعفو ما أمره اللّه حتى أذن اللّه فيهم، فلما غزا رسول اللّه (ص) بدراً فقتل اللّه صناديد كفار قريش قال ابن اُبيّ ومن معه من المشركين عبدة الأوثان: هذا أمر قد توجه، فبايعوا رسول اللّه (ص) وأسلموا. |
تحويل القبلة |
وصلّى رسول اللّه (ص) إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة وسبعة عشر شهراً بالمدينة، وكان يعجبه أن تكون قبلته الكعبة تخلّصاً من تعيير اليهود، فحوّل اللّه القبلة إليها، والنبي (ص) مع المسلمين في الصلاة، فتحوّلوا إلى الكعبة المكرّمة. فخرج رجل ممّن كان صلّى معه فمرّ على أهل مسجد وهم راكعون فقال: اُشهد باللّه لقد صلّيت مع النبي (ص) قِبَل مكة، فداروا كما هم قِبَل البيت. وكذلك بينما الناس يصلّون الصبح في مسجد قباء إذ جاءهم رجل فقال: إن النبي (ص) قد اُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها، وكان وجه الناس إلى الشام فاستداروا بوجوههم إلى الكعبة. وكان في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حِكَم عظيمة وفتنة وامتحان للمسلمين والمشركين وأهل الكتاب والمنافقين. فأما المسلمون فقالوا: (سمعنا وأطعنا)(4) ، وقالوا: (آمنّا به كلّ من عند ربّنا)(5) ، وهم الذين هداهم اللّه ولم تكن كبيرة عليهم. وأما المشركون فقالوا: كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا. وأما اليهود فقالوا: خالف قبلة الأنبياء. وأما المنافقون فقالوا: ما يدري محمد أين يتوجّه، إن كانت القبلة الاُولى حقاً فقد تركها، وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل. وكثرت أقاويل السفهاء من الناس، وكانت كما قال اللّه: (وإن كانت لكبيرة إلاّ على الّذين هدى اللّه)(6) وكانت فتنة من اللّه امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول ممّن ينقلب على عقبيه، فأنزل اللّه جواب السفهاء: (... قل للّه المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)(7). |
صلاة الاستسقاء |
وفي شهر رمضان المبارك سنة ست من الهجرة النبوية المباركة صلّى رسول اللّه (ص) بالناس صلاة الإستسقاء بكيفيتها الخاصة، فلما قضى صلاته جثا على ركبتيه ورفع يديه نحو السماء ثم كبّر وقال: (اللّهمّ اسقنا وأغثنا) إلى آخر الدعاء المأثور. فما أن تمّ دعاءه (ص) حتى أمطرت السماء عليهم مطراً غزيراً وصارت المدينة والسحاب عليها كالفسطاط. عندها تبسَّم رسول اللّه (ص) وقال: للّه درّ أبي طالب، لو كان حيّاً قرّت عيناه، من الذي ينشدنا قوله؟ فقام علي بن أبي طالب (ع) وقال: يا رسول اللّه كأنّك أردت: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامــل يلوذ به الهلاّك من آل هاشـــــم فهم عنده فــي نعمة وفواضـل كذبتم وبيت اللّه نبزى محمـــداً ولما نقاتـــل دونه ونـــناضــل ونسلمه حتى نصـرّع حولــــــه ونذهـل عن أبنائنا والحلائـــل فقال رسول اللّه (ص): أجل. فقام عندها رجل من كنانة وقال: لك الحمد والشكر ممّن شـكر ســــــقينا بوجه النبــي المطر وكان كما قـــالـه عمّـــــــــه أبو طالب أبـيــــض ذو غــــرر به اللّه يسقي صوب الغمام وهــــــذا العيــــان لـذاك الخبــــر فقال رسول اللّه (ص): إن يك شاعراً أحسن فقد أحسنت. ثم استمرت السماء تهطل عليهم حتى جاءوا وقالوا: يا رسول اللّه ادع اللّه تعالى أن يصرفها عنّا، فرفع يديه وقال: (حوالينا ولا علينا، اللّهمّ على رؤوس الظراب، ومنابت الشجر، وبطون الأودية، وظهور الآكام). فتصدعت عن المدينة، تمطر مراعيها ولا تمطر فيها قطرة.
|
1 ـ آل عمران : 186. 2 ـ البقرة : 109. 3 ـ البقرة : 109. 4 ـ البقرة : 285. 5 ـ آل عمران : 7. 6 ـ البقرة : 143. 7 ـ البقرة : 142. |