فهرس الفصل الرابع | المؤلفات |
قرار الهجرة |
ثم أمر رسول اللّه (ص) أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار وقال (ص): إن اللّه قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها. فخرجوا ارسالاً، وأقام رسول اللّه (ص) ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة. فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول اللّه (ص) من قريش من بني مخزوم أبو سلمة بن عبد الأسد وأسمه عبد اللّه، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة، وكان قد قدم على رسول اللّه (ص) من أرض الحبشة، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار خرج إلى المدينة مهاجراً، وحبست عنه أمرأته أم سلمة. ثم كان أول من قدمها بعد أبي سلمة: عامر بن ربيعة ومعه أمرأته ليلى بنت أبي خيثمة. ثم عبد اللّه بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، احتمل بأهله وبأخيه، وكانت أُمه أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، فغلقت دار بني جحش هجرة، فمر بها عتبة بن ربيعة والعباس بن عبد المطلب، وأبو جهل ابن هشام وهم مصعدون إلى مكة، فنظر إليها عتبة بن ربيعة تخفق أبوابها ليس فيها ساكن، فلما رآها كذلك تنفس الصعداء ثم قال: وكل دار وإن طالت سلامتهـــا يــوماً ســـتدركها النكباء والحـوب كل امرئ بلقاء الموت مرتهن كأنه غـــرض للمـــوت منصــــوب وكان بنو غنم بن دودان أهل اسلام، وقد أوعبوا إلى المدينة مع رسول اللّه (ص) رجالهم ونساؤهم. فمن رجالهم: عبد اللّه بن جحش، وأخوه، وعكاشة بن محصن، وشجاع، وعتبة بن وهب، وأربد بن جبيرة، ومنقذ بن نباتة، وسعيد بن قيس، ومحرز بن نضلة، ويزيد بن رقيش، وقيس بن جابر، وعمرو بن محصن، ومالك بن عمرو، وصفوان بن عمرو، وغيرهم. ومن نسائهم: زينب بنت جحش، واُم حبيبة بنت جحش، وحمنة بنت جحش وجذامة بنت جندل، واُم قيس بنت محصن، واُم حبيب بنت ثمامة، وآمنة بنت ثمامة، وقال بن جحش في ذلك شعراً: لنحـن الاُلـى كنا بـها ثــم لم نـزل بمــــــكة حتــى عاد غثاً ســـــــمينها بها خيمت غنم بن دودان وابتنــــت ومــا أن غــدت عنـــم وخف قطـينها إلى اللّه تغدو بين مثنى وواحـــــد ودين رســــــول اللّـــــه بالحق دينها ثم تتابع المهاجرون فنزل حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وأبو مرثد كناز بن حصين وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة بن عبد المطلب على كلثوم بن هدم بقباء، وقيل: بل نزلوا على سعد بن خيثمة وقيل: بل نزل حمزة على أسعد بن زرارة أخي بني النجار، ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب وأخواه الطفيل والحصين ابنا الحارث على عبداللّه بن مسلمة ونزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ وهكذا. |
القرار الأخير |
فلما رأت قريش أن رسول اللّه (ص) صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين اليهم وقد ساقوا الذراري والاطفال والأموال إلى الأوس والخزرج فعرفوا أن الدار دار منعة، وأن القوم أهل حلقة وبأس وشوكة، فخافوا خروج رسول اللّه (ص) إليهم ولحوقه بهم، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من ذوي الرأي والحجى منهم ليتشاوروا في أمره. فاعترضهم إبليس في صورة شيخ كبير طاعن في السن عليه بت له، فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفاً على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً. قالوا: أجل فادخل. فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش، فقال بعضهم لبعض: ان هذا الرجل(1) قد كان من أمره ما قد رأيتم، وإنّا واللّه لا نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأياً. فتشاوروا. ثم قال قائل منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين قبله: زهير والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت، حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا واللّه ما هذا لكم برأي، واللّه لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثرونكم به حتى يغلبوكم على أمركم، ما هذا لكم برأي، فانظروا في غيره. فتشاوروا في أمره ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا، فإذا خرج عنا فواللّه ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا واللّه ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ واللّه لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم اليكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، أديروا فيه رأياً غير هذا. فقال أبو جهل: واللّه إن لي فيه رأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه. فانهم اذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبدمناف على حرب قومهم جميعاً، فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم. قال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي لا رأي غيره، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له. |
جبرئيل وإفشاء المؤامرة |
فأتى جبرئيل رسول اللّه (ص)، فتلا هذه الآية: (واذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر اللّه واللّه خير الماكرين)(2) ثم قال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه وأمره بالهجرة وان يبيت علياً (ع) مكانه. فدعا رسول اللّه (ص) علياً (ع) لوقته وقال له: يا علي ان جبرائيل هبط عليّ بهذه الآية آنفاً، يخبرني إن قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي، وانه أوحى إليّ عن ربي عز وجل ان أهجر دار قومي وان انطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، وانه أمرني أن آمرك بالمبيت على مضجعي تفديني بنفسك، وتخفي عليهم أمري، فما أنت قائل و صانع؟ قال علي (ع): أو تسلمنّ بمبيتي هناك يا نبي اللّه؟ قال: نعم، فتبسّم علي (ع) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً شكراً للّه على ذلك، فلما رفع رأسه قال له: يا نبي اللّه امض لما اُمرت، فداك سمعي وبصري وسويداء قلبي، ومرني بما شئت اكن فيه لمسرتك، واقع منه بحيث مرادك، وما توفيقي الاّ باللّه. فشكره رسول اللّه (ص) على ذلك وقال له: فارقد على فراشي واشتمل ببردي الحضرمي. |
ليلة المبيت |
لما أنام رسول اللّه (ص) علياً (ع) على فراشه وعزم على الخروج التفت إليه يودّعه وهو يقول: أخبرك يا علي ان اللّه تعالى يمتحن أولياءه على قدر ايمانهم ومنازلهم من دينه، فأشدّ الناس بلاءاً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وقد امتحنك يابن العم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به خليله إبراهيم (ع) والذبيح إسماعيل(ع)، فصبراً صبراً، فإنّ رحمة اللّه قريب من المحسنين. ثم ضمّه النبي (ص) إلى صدره وبكى وجداً به، وبكى علي (ع) جشعاً لفراق رسول اللّه (ص) ثم أوصاه بوصاياه وأمره في ذلك بالصبر حتى صلّى العشائين ثم خرج (ص) في فحمة العشاء الآخرة، والرصد من قريش قد أطافوا بداره. |
القرآن ومبيت علي (ع) |
نام علي (ع) على فراش رسول اللّه (ص) موطّناً نفسه على القتل، فأوحى اللّه تعالى إلى جبرئيل وميكائيل: اني آخيتُ بينكما وجعلتُ عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بحياته؟ فاختار كل منهما الحياة وأحبّاها. فأوحى اللّه عزّوجل إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب (ع) آخيتُ بينه وبين محمد (ص) فبات على فراشه يفديه بنفسه، ويؤثره بالحياة، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي: بخّ بخّ، من مثلك يابن أبي طالب؟ يباهي اللّه بك الملائكة، فأنزل اللّه عزّ وجل: (ومن الناس من يشري نفسَه ابتغاء مرضات اللّه واللّه رؤوف بالعباد)(3). |
ليلة الهجرة |
أطاف المشركون بدار رسول اللّه (ص) وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: انّ محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم فجُعِلَت لكم جنان كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان لكم منه الذبح، ثم بُعثتم من بعد موتكم فجُعِلت لكم نار تحرقون فيها. فخرج رسول اللّه (ص) في هذه الحال وقد أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: نعم أنا أقول ذلك، أنت أحدهم، وأخذ اللّه على أبصارهم عنه، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو (ص) يتلو هذه الآيات من سورة يس: (بسم اللّه الرحمن الرحيم يس* والقرآن الحكيم* إنّك لمن المرسلين)(4) إلى قولـه تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدّاً ومن خلفهم سدّاً فأغشيناهم فهم لايبصرون)(5) حتّى فرغ من الآيات، فلم يبق منهم رجل إلاّ وقد وضع على رأسه التراب، ثم انصرف (ص) إلى حيث أراد أن يذهب. وعلى رواية: أتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال: ما تنتظرون ههنا؟ قالوا: محمّداً. قال: خيّبكم اللّه، قد واللّه خرج عليكم محمّد، ثم ما ترك منكم رجلاً إلاّ وقد وضع على رأسه التراب، وانطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟! قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب. ثم جعلوا يطّلعون فيرون علياً (ع) على الفراش متسجياً ببرد رسول اللّه (ص)، فيقولون: واللّه إنّ هذا لمحمّد نائم عليه برده، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام عليّ (ع) من الفراش. فقالوا: واللّه لقد كان صدقنا الذي كان حدّثنا به. فقال لهم علي (ع): ما شأنكم؟ قالوا: أين محمّد؟ قال: أجعلتموني عليه رقيباً؟! ألستم قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم. فأقبلوا على أبي لهب الذي كان يمنعهم عن مداهمة البيت ليلاً يلومونه ويقولون له: أنت تخدعنا منذ الليلة، ثم تفرَّقوا في طلبه. وكان رسول اللّه (ص) يمشي تلك الليلة على أطراف قدميه كي يخفي اثره حتى حفيت قدماه، ورأى (ص) في طريقه أبابكر فاصطحبه وذلك لعلل مذكورة في المفصّلات. |
تاريخ الهجرة |
وكانت الليلة التي خرج فيها رسول اللّه (ص) مهاجراً من مكة ليلة الخميس أول ليلة من شهر ربيع الأول بعد أن انقضت مدّة ثلاث عشرة سنة من مبعثه الشريف، وفيها كان مبيت علي (ع) على فراشه، وكان خروجه من غار ثور ليلة الرابع من شهر ربيع الأول، حيث توجّه فيها إلى المدينة، ووصلها يوم الإثنين في الثاني عشر من شهر ربيع الأول أي: بعد اثنتي عشرة ليلة خلت منه، فنزل بقبا ينتظر قدوم علي (ع) عليه، فقد أمره النبي (ص) بعد المبيت على فراشه أن يبقى في مكة حتى يؤدّي الودائع والأمانات التي كانت للناس عنده، ثم يحمل الفاطميّات معه ويلتحق بالنبي (ص)، وهكذا فعل علي (ع). فعن أبي رافع انه قال: كان علي (ع) يجهّز النبي (ص) حين كان في الغار يأتيه بالطعام والشراب، وخلّفه النبي (ص) ليخرج إليه أهله فأخرجهم، وأمره أن يؤدي عنه أماناته ووصاياه وما كان بمؤتمن عليه من مال، وأن يقضي عنه ديونه وينجز عداته، فلما أداها قام على الكعبة فنادى برفيع صوته: (يا أيها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من عِدة له قِبَل رسول اللّه (ص)؟) فلما لم يأت أحد لحق بالنبي (ص). |
المشركون يطلبون الرسول (ص) |
ولما فوجئ المشركون بمغادرة الرسول (ص) داره، وانّ النائم في فراشه هو علي بن أبي طالب (ع) أذكوا عليه العيون، وركبوا في طلبه الصعب والذلول. وخرجوا يقتصون أثره، وأخذوا معهم القافة حتى وصلوا إلى الغار، وكان اللّه تعالى قد أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين وحشيتين فوقفتا على وجه الغار، وباضتا في أسفل النقب، فكان ذلك مما صد المشركين عنه، فلما أتوا الغار طارت الحمامتان ورأوا البيض ونسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لتكسر البيض ولم يكن عليه نسج العناكب، فصرفهم اللّه عزّ وجل بذلك عنه. |
الجائزة لمن جاء بالرسول (ص) |
ولما يئس المشركون من الظفر برسول اللّه (ص) جعلوا لمن جاء به دية كاملة أي: مائة من الإبل جائزة لذلك، فجدّ الناس في الطلب (واللّه غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون). وكان ممّن جدّ في طلبه سراقة بن مالك بن جعشم حيث يقول: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول اللّه (ص) دية كاملة لمن قتله أو أسره، فبينما أنا جالس في مجلس من مجالس قومي من بني مدلج، إذ أقبل رجل منهم حتّى قام علينا ونحن جلوس فقال: يا سراقة إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل، أراها محمداً وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، لكني أردتُ الحصول على الجائزة لوحدي. فقلت: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا بأعيننا. ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرتُ جاريتي أن تخرج بفرسي من وراء أكمة فتحبسها عليَّ، فأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فخططت بزجه الأرض وخفضت عاليه حتى أتيت فرسي فركبتها، فدفعتها تقرب بي حتى دنوت منهم. فلما رآني رسول اللّه (ص) أقترب منهم، رفع يديه نحو السماء وقال: (اللّهمّ اكفني شرّ سراقة بما شئت). فساخت قوائم فرسي، فثنيت رجلي ثم اشتددت وقلت: يا محمد اني علمت ان الذي أصاب قوائم فرسي انما هو من قِبلك، فادع اللّه أن يطلق لي فرسي، فلعمري ان لم يصبكم خير منّي لم يصبكم منّي شرّ. فدعا رسول اللّه (ص) فأطلق اللّه عزّوجل فرسه، فعاد في طلب رسول اللّه(ص) حتّى فعل ذلك ثلاث مرّات، كل ذلك يدعو رسول اللّه (ص) فتأخذ الأرض قوائم فرسه. فلما أطلقه اللّه في الثالثة قال: يا محمد هذه ابلي بين يديك فيها غلامي، وان احتجت إلى ظهر أو لبن فخذ منه، وهذا سهم من كنانتي علامة عليه، وأنا ارجع فأردّ عنك الطلب. فقال (ص): لاحاجة لنا فيما عندك. قال الرجل: ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم ان سيظهر أمر رسول اللّه (ص)، فسألته أن يكتب لي كتاب أمن، وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكّة، فجاء بالكتاب فوفى له رسول اللّه (ص) وكان يوم وفاء وبرّ. |
مع بريدة الأسلمي |
وممّن جدّ في طلب الرسول (ص) بريدة بن الحصيب الأسلمي، فقد ركب في سبعين راكباً من أهله من بني سهم يطلبه، فالتقى به فبادره الرسول (ص) قائلاً: من أنت؟ قال: أنا بريدة. فقال (ص): برد أمرنا وصلح. ثم قال (ص): وممّن أنت؟ قال: من أسلم. فقال (ص): سلمنا. ثم قال (ص): ممّن؟ قال: من بني سهم. وهنا التفت إليه النبي (ص) وقال له: خرج سهمك. فأعجب بريدة تفاؤل الرجل وحسن أخلاقه وأحبّه في قلبه، وتلهّف للتعرّف عليه فقال له: ومن أنت؟ فقال (ص): أنا محمد بن عبداللّه رسول اللّه. فلم يتريَّث بريدة لما سمع ذلك حتّى قال: (أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، وأشهد أنَّ محمّداً رسول اللّه) فأسلم بريدة وأسلم من كان معه جميعاً. فقال (ص): الحمد للّه لقد أسلمت بنو سهم طائعين غير مكرهين. |
عند اُم معبد |
ثم مضى رسول اللّه (ص) فيمن معه فمروا بخيمة اُم معبد الخزاعية، وكانت امرأة جلدة برزة تحتبي بفناء الخيمة ثم تطعم وتسقي من مر بها، فسألها (ص): هل عندها شيء يشترونه؟ فقالت: واللّه لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاء عازب، وكانت سنة شهباء. فنظر رسول اللّه (ص) إلى شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا اُم معبد؟ فقالت: هذه شاة خلّفها الجهد عن الغنم. فقال (ص): هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال (ص): أفتأذنين لي أن أحلبها. قالت: نعم، بأبي واُمّي، إن رأيت بها حليباً فاحلبها. فدعا رسول اللّه (ص) بالشاة فمسح بيده ضرعها وذكر اسم اللّه وقال: اللّهمّ بارك لها في شاتها، فتفاجّت عليه ودرّت واجترّت، فدعا بإناء لها يُربض الرهط فحلب فيه ثجاً حتى علته الرغوة، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب (ص) آخرهم، فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل، ثم حلب فيه ثانياً حتى ملأ الإناء. فلما رأت اُمّ معبد ذلك قالت: إنّ لي ولداً له سبع سنين وهو كقطعة لحم لا يتكلّم ولا يقوم، فأتته به، فأخذ (ص) تمرة وقد بقيت في الوعاء ومضغها وجعلها في فيه، فنهض في الحال، ومشى وتكلّم، وجعل نواها في الأرض فصارت في الحال نخلة، وقد تهدّل الرطب منها، وكان كذلك صيفاً وشتاءاً، وأشار من الجوانب فصار ما حَولها مراعي، ثم ارتحلوا عنها. فقلّما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزالاً. فلما رأى اللبن وما إلى ذلك عجب وقال: من أين لكِ هذا والشاء عازب حيال، ولا حلوبة في البيت؟! فقالت: لا واللّه، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك، كان من حديثه كيت وكيت. قال: واللّه إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه، صِفيه لي يا اُمّ معبد. فقالت: رأيتُ رجلاً ظاهر الوضاءة حسن الخلق، أبلج الوجه، لم تعبه ثجلة ـ ويروى نحلة بالنون والحاء ـ ولم تزر به صعلة، كأن عنقه ابريق فضّة، وسيم جسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل أزج أقرن شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلّم سما به وعلاه البهاء، وكأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، حلو المنطق فصل، لانزر ولا هذر، أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه عين من طول ولا تقتحمه من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إذا قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفنّد. فقال: هذا واللّه صاحب قريش الذي ذكروا لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولو كنت أنا وافقته لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، فإنه صادق في قوله انه رسول اللّه، فليس هذا إلا من فعل اللّه، ثم قصده فآمن هو وأهله. ويروى: أن الشاة التي لمس رسول اللّه (ص) ضرعها وحلبها بيده بقيت عند اُمّ معبد حتى كان زمن الرمادة في سنة ثمان عشرة من الهجرة. قالت اُم معبد: هاجرت وأسلمت، وكنا نحلبها صبوحاً وغبوقاً وما في الأرض قليل ولا كثير. |
انتظار المسلمين للرسول (ص) |
وبلغ المسلمين خروج رسول اللّه (ص) من مكة إلى المدينة، فجعلوا يفدون كل غداة إلى الحرة فينظرون حتى يردّهم حر الظهيرة. فانقلبوا يوماً بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم من آطامهم ينظر لأمر يريده، فبصر برسول اللّه (ص) وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن نادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، هذا جدكم الذي تنتظرون. فبادر المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول اللّه (ص) بظهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين وسار حتى نزل بـ (قبا) في (بني) عمرو بن عوف) فكبّر المسلمون فرحاً بقدومه، وسمعت الوجبة والتكبير في بني عمرو بن عوف، فنزل على كلثوم ابن الهدم، وقيل: على سعد بن خيثمة، بـ (قبا) وبقي هناك ينتظر قدوم علي (ع). وكان علي (ع) قد خرج بالفواطم(6) بعد أن أدّى ودائع كانت عند رسول اللّه (ص) للناس، وقضى ديونه وأنجز عداته، فلما قدم المدينة رآه النبي (ص) وقد تورّمت قدماه وأصبحتا يقطران دماً، فاعتنقه وبكى رحمة لما به، ثم دعا له (ع) بالعافية، ومسح رجليه فلم يشكهما بعد ذلك. ثم نزل (ع) مع النبي (ص) بقبا، وبقي رسول اللّه (ص) بعد قدوم علي (ع) في بني عمرو بن عوف يوماً أو يومين، وفي مدة بقائه بقبا أسّس مسجد قباء، وهو أول مسجد اُسِّس على التقوى بعد النبوّة بالمدينة المنوّرة. |
أول جمعة بالمدينة |
فلما كان يوم الجمعة ركب بأمر اللّه له، فاجتمعت إليه بنو عمرو بن عوف فقالوا: يا رسول اللّه أقم عندنا فإنّا أهل الجدّ والجلد، والحلقة والمنعة. فقال (ص): خلّوا عنها فإنها مأمورة. وبلغ الأوس والخزرج خروج رسول اللّه (ص) فلبسوا السلاح وأقبلوا يعدون حول ناقته، لايمرّ بحيّ من أحياء الأنصار إلا وثبوا وأخذوا بزمام ناقته وطلبوا منه النزول عليهم، وهو (ص) يقول لهم: خلوا سبيلها، فإنها مأمورة. حتى مرّ (ص) ببني سالم عند الزوال من يوم الجمعة، فتعرضت له بنو سالم فقالوا: يا رسول اللّه هلم إلينا فإنا أهل الجد والجلد، والحلقة والمنعة، فبركت ناقته عند مسجدهم فنزل في مسجدهم الذي خطه (ص) لهم ونصب قبلته وصلّى بهم الجمعة وخطبهم، وكان أول مسجد خطب فيه بالجمعة، وصلّى إلى بيت المقدس، وكان الذين صلّوا معه في ذلك الوقت مائة رجل. |
عند أبي أيوب |
ثم ركب النبي (ص) ناقته وعلي (ع) معه لايفارقه يمشي بمشيه، فأرخى زمامها لايحركها وهي تنظر يميناً وشمالاً، فلم تزل ناقته سائرة، ولا يمر بدار من دور الأنصار إلاّ رغّبوه في النزول عليهم وأخذوا بخطام راحلته وقالوا: هلم إلى العوذ والعدة والسلاح والمنعة، فكان يجيبهم (ص) بعد التشكّر منهم: خلوا سبيلها فإنها مأمورة. فلم تزل سائرة به حتى وصلت إلى موضع مسجده اليوم فبركت، ولم ينزل عنها حتى نهضت وسارت قليلاً، ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول عند باب أبي أيوب فنزل عنها، ولم يكن آنذاك مسجداً، فجعل الناس يكلمون رسول اللّه (ص) في النزول عليهم، فبادر أبو أيوب الأنصاري إلى رحله فحلّه وأدخله منزله، فجعل رسول اللّه (ص) يقول: (المرء مع رحله). وجاء أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلته فحوّلها إلى منزله، فقال النبي (ص): أي بيوت أهلنا أقرب؟ فقال أبو أيوب: أنا يا رسول اللّه، هذه داري، وهذا بابي. قال (ص): فانطلق فهي لنا مقيلاً. قال: قوما على بركة اللّه، فنزل رسول اللّه (ص) وعلي (ع) معه(7) في دار أبي أيوب، حتى بُني له مسجده، وبُنيت له مساكنه ومنزل علي (ع)، فتحوّلا إلى منازلهما. وقيل: انه لما بركت ناقة رسول اللّه (ص) على باب أبي أيوب الأنصاري ولم يكن أفقر منه في المدينة انقطعت قلوب الناس حسرة على مفارقة النبي (ص) فنادى أبو أيوب: يا اُماه افتحي الباب، فقد قدم سيد البشر، وأكرم ربيعة ومضر، محمد المصطفى، والرسول المجتبى. فخرجت وفتحت الباب وكانت عمياء فقالت: واحسرتاه ليت كانت لي عين أبصر بها وجه سيّدي رسول اللّه (ص)، فدعا (ص) لها فانفتحت عيناها، وكانت أول معجزة النبي (ص) في المدينة. وفي رواية: انه لما أقبل رسول اللّه (ص) إلى المدينة لم يُر الناس فرحوا بشيء مثل فرحهم به، حتى ان النساء والصبيان والإماء كانوا يقولون: هذا رسول اللّه، قد جاء رسول اللّه. وعن بعضهم انه قال: شهدته (ص) يوم دخل المدينة فما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوء من يوم دخل علينا، وشهدته يوم مات فما رأيت يوماً قط كان أقبح ولا أظلم من يوم مات. |
المسجد النبوي الشريف |
وكان رسول اللّه (ص) يصلّي في المربد بأصحابه، فقال لأسعد بن زرارة: اشتر هذا المربد من أصحابه، ـ وكان ليتيمين ـ فساوم اليتيمين عليه، فقالا: هو لرسول اللّه. فقال رسول اللّه (ص): لا، إلاّ بثمن. فاشتراه (ص) بعشرة دنانير، وكان فيه ماء مستنقع، فأمر به رسول اللّه (ص) فسيل، وأمر باللبن فضرب، فبناه مسجداً، وبنى منازلـه ومنازل أصحابه حول المسجد، وخط لعلي بن أبي طالب (ع) ولحمزة (ع) مثل ما خطّ له ولأصحابه، فبنوا فيه منازلهم، وكل منهم شرع منه باباً إلى المسجد، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد. فنزل عليه جبرئيل (ع) وقال: ان السلام يخصّك بالسلام ويأمرك بسدّ الأبواب إلاّ بابك وباب علي بن أبي طالب ، فإنه يحل له فيه ما يحل لك، فتأثر أصحاب الأبواب من ذلك. فقال لهم رسول اللّه (ص): ما أنا أمرتُ بسدّها، ولكن اللّه أمر بسدّ أبوابكم وترك باب علي (ع). فقالوا: رضينا وسلمنا للّه ولرسوله. |
بناء المسجد |
ولما أمر النبي (ص) ببناء المسجد طفق ينقل معهم اللبن وكان يقول وهو ينقل اللبن: (هذا الحمال لا حمال خيبر، هذا وربّنا أبرّ وأطهر). أي: هـذا المحمول من اللبـن أبرّ عنـد اللّه وأطهـر يعني: أبقى ذخراً وأدوم منفعة من التمر والزبيـب والطعـام المحمول من خيـبر الذي يغتبطـه حاملوه، وكان يقول أيضاً: (اللّهمّ انّ الأجر أجر الآخرة، فارحم الأنصار والمهاجرين). وأخذ المسلمون يرتجزون وهم يعملون، فقال بعضهم: لئن قعدنا والرسول يعمل لـــــذاك منا العــــمل المضلل والنبي (ص) يقول: (لا عيش إلاّ عيش الآخرة، اللّهمّ ارحم الأنصار والمهاجرين). فدخل عمّار بن ياسر وقد أثقلوه باللبن، فقال: يا رسول اللّه قتلوني، يحملون عليَّ ما لايحملون. فتبسَّم رسول اللّه (ص) ونفض وفرة عمّار بيده وكان رجلاً جعداً وقال له: (ويح ابن سميّة، ليسوا بالذين يقتلونك، انما تقتلك الفئة الباغية). وارتجز علي بن أبي طالب (ع) يومئذ وهو يقول: لا يستوي من يعمر المساجدا يــــدأب فيــها قائماً وقاعداً ومن يرى عن التراب حائداً وجعلت قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب، وقيل: أكثر من ثلاثة، وجعل طولـه مما يلي القبلة إلى مؤخّره مائة ذراع، وفي الجانبين مثل ذلك أو دونه، وجعل أساسه قريباً من ثلاثة أذرع، وجعل عمده الجذوع، وسقّفه بالجريد، وجعل عضادتيه الحجارة، وقيل له: ألا تسقفه؟ فقال: لا، عريش كعريش موسى، وبنى بيوتاً إلى جنبه باللبن وسقفها بالجريد والجذوع لنفسه ولأصحابه. وكان في مؤخر المسجد موضع مظلل يأوي إليه المساكين يسمّى (الصفّة). وكان النبي (ص) يدعوهم بالليل فيفرقهم على أصحابه، ويتعشى طائفة منهم معه، وأجرى (ص) في مسجده نهراً. |
مغادرة بيت أبي أيوب |
ثم انتقل رسول اللّه (ص) من بيت أبي أيوب إلى مساكنه التي بنيت له، وقيل: ان مدة مقامه في بيت أبي أيوب بالمدينة إلى أن بنى المسجد وبيوته: كان من شهر ربيع الأول إلى صفر من السنة الداخلة، واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، إلا ما شذّ وندر.
|
1 ـ أي : الرسول(ص). 2 ـ الانفال : 30. 3 ـ البقرة : 207. 4 ـ يس : 1 ـ 3. 5 ـ يس : 9. 6 ـ اُمه وبنت رسول الله (ص) وبنت الزبير. 7 ـ راجع مناقب ابن شهرآشوب : 1 / 131 ط. |