موقع الإمام الشيرازي
كل جماعة أو أمة تحترم الإنسان، وتسعى إلى عمران
البلاد ورفاه المجتمع، لابد وأنها تؤمن بضرورة السلام وتسعى إلى
تحقيقه، فالسلام قيمة نبيلة تقوم عليها أية حضارة إنسانية، جنباً إلى
جنب مع الحرية والعدالة. وكما أنه يمكن وصف الحرية بأنها غياب القسر،
والعدالة غياب الظلم، كذلك يمكن وصف السلام بأنه غياب الحرب. يقول
المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده): "إن السلم
والسلام بمعناهما الأعم والشمولي يقتضيان الأمن والعافية، والاستقرار
والازدهار، وكل ما يوجب تقدم الحياة وتطورها، ووضعها في أبعادها
الصحيحة، صحية واجتماعية واقتصادية وسياسية وعسكرية وإعلامية وغيرها،
وهي كلمة تدخل في نفس الإنسان الاطمئنان والراحة والهدوء".
ورغم أن السلام هو طموح جميع الناس، إلا إنه على
امتداد التاريخ الإنساني الطويل، كانت حالة السلام هي الاستثناء. وفي
العالم القديم، كانت الحرب جزءاً من الحياة اليومية، بحيث جعلت
المفكرين الإغريق والرومان يعتبرونها النظام الطبيعي للمجتمع الإنساني.
وكانوا يعظّمون الحرب على السلام، قائلين أن "الحرب هي أب لجميع
الأشياء.
في كتاب (فقه السلم والسلام) يقول المجدد
الشيرازي الراحل "إن الشهوات والأطماع تتجاوز لدى بعض منطق العقل
والحقوق المشروعة، ولا يقف أمامها شيء إلا ما كان رادعاً، وهذا لا
ينافي أن الأصل هو اللاعنف". ويقول (قده): "شعار الإسلام هو السلام،
وليست الحرب، والمقاطعة، وأساليب العنف إلا وسائل اضطرارية شاذة على
خلاف الأصول الأولية الإسلامية، وحالها حال الاضطرار لأكل الميتة".
لقد اهتم العلماء خلال القرن العشرين بدراسة
الحروب وكيفية تفاديها، خاصة بعد ظهور أسلحة الدمار الشامل، فأخذوا
يبحثون عن المبادئ التي تكفل إقامة نظام سياسي عالمي يحفظ السلام
الدولي، إلا إن النجاح في ذلك كان محدوداً على مستوى الجغرافية، ما كان
محدوداً على مستوى الزمن، فما انقضت الحرب العالمية الثانية، وتشكلت
المؤسسات الأممية لإبعاد شبح الحروب عن البشرية، حتى دخل العالم في
حروب استعمار وتحرير، وصراعات دامية بين أنظمة الاستبداد والشعوب
المقهورة، واقتتال مسلح من أجل السلطة، وحروب من أجل السيطرة والنفوذ.
ومن أشد الحروب عبثاً الحرب بين العراق وإيران
التي يصادف اليوم مرور واحد وثلاثين عاماً على توقفها؛ وفقا لقرار مجلس
الأمن ٥٩٨، بعد أن تواصلت على مدى ثمان سنوات كالحة دامية موجعة. إنها
الحرب التي انهكت طرفي النزاع؛ إيران والعراق، على كافة الأصعدة، وحالت
دون تقدمهما بالاستفادة من واردات النفط كبلدين منتجين ومصدرين له، حيث
اُستخدم الجزء الأعظم منها في تغطية نفقات هذه الحرب المُهلكة للحرث
والنسل.
المكتبة العربية والإسلامية ما زالت تفتقر
لدراسات أكاديمية عن هذه الحرب، بينما حظيت دول الحريات بعدة مؤلفات عن
تلك الحرب المجنونة، ومنها كتاب الباحث الاستراتيجي الفرنسي بيير رازو
(حرب إيران والعراق) الصادر بترجمته الإنجليزية عن دار بلكناب التابعة
لجامعة هارفارد عام 2015، وكان الأصل الفرنسي قد صدر عام 2013. يقع
الكتاب في 640 ص من الحجم الكبير. كتب الكاتب والمترجم العراقي فلاح
رحيم على صفحته على موقع الفيس بوك واصفاً كتاب رازو أنه "يعد موسوعة
وافية تتضمن بالتفصيل الموثق كل ما يتعلق بالحرب من مناورات سياسية
وحربية".
وينقل المترجم رحيم ما ذكره المؤلف على الصفحة
573 في الملاحق؛ حيث يوجز الباحث خسائر الطرفين من الحرب وكما يلي:
خسائر العراق:
في عوائد النفط: 160 مليار دولار (35%)
الديون المترتبة على الإنفاق الحربي: 110 مليار
دولار (24%)
دمار البنية التحتية: 90 مليار دولار (20%)
مشتريات المعدات الحربية: 80 مليار دولار (18%)
التعويضات لعوائل القتلى والمصابين: 9 مليار
دولار (2%)
بناء أنابيب نفط جديدة: 3 مليار دولار (1%)
المجموع: 452 مليار دولار
أما خسائر إيران فكانت:
خسائر في عوائد النفط: 350 مليار دولار (54%)
دمار البنية التحتية: 180 مليار دولار (28%)
خسائر في العوائد الصناعية: 35 مليار دولار (5%)
التعويضات لعوائل القتلى والمصابين: 25 مليار
دولار (4%)
مشتريات المعدات الحربية: 20 مليار دولار (3%)
إنفاق متصل بالمجهود الحربي: 20 مليار دولار
(3%)
استيراد مشتقات نفطية: 12 مليار دولار (2%)
الزيادة في تكاليف الضمان المتعلق بتجارة النفط:
3 مليار دولار (1%)
المجموع: 645 مليار دولار
للأسف، العالم اليوم يعجّ بالحروب والصراعات
الدامية، حتى بات العالم وكأنه في فوضى، وكأنه ينحدر إلى ما هو أسوأ،
يقول المرجع المجدد الشيرازي الراحل(قده): "إن لكل شيء ثمناً ومنه
السلم والسلام، وعلينا أن نتعلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) سبل تحقيق السلم والسلام، فإن
السلام كان الأصل عندهم (عليهم السلام)، وفي جميع مجالات الحياة، نعم
لو هجم عليهم الأعداء، وشهروا السيف بوجوههم، فعندئذ يشرع القتال مع
مراعاة الآداب الإسلامية التي جعلت من حروب النبي (صلى الله عليه
وآله)، وكلها كانت دفاعية، مدرسة أخلاق للبشرية، وهكذا كانت سيرة
الإمام أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حروبه".
ويضع المفكر المجدد، مبدأ استراتيجياً، مفاده إن
العنف، لا يوصل الإنسان إلى أهدافه التي يتوخاها، مبيناً (أنك مهما كنت
عنيفاً فإن عدوك أعنف منك)، بمعنى أن الآخر قد تتهيأ له المقدرة من
سلاح وتجهيز، لا تتوفر للمسلم، وبحسب رأيه(قده) فإنه ينبغي على الإنسان
المسلم وغير المسلم "إشهار سلاح الروح لمقاومة سلاح البدن"، وفق ثقافة
الحوار والكلمة الطيبة، ونبذ العنف في سجال الأفكار والآراء المختلفة،
عملاً بالآية الكريمة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي
السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ)(البقرة/210). وهذا هو الطريق الأقصر للوصول إلى حل، حل
الأزمات والاختلافات، وأول الطريق تجنب الحرب، فالحرب لا تغني سوى
الموت والدماء والفوضى والخراب.
وفي إطار الجهود الرامية إلى نبذ ثقافة الحروب
التي أصبحت أكثر رواجاً مع حلول الألفية الثالثة، المترجم فلاح رحيم
دعا الناشرين العرب إلى الاهتمام بنشر هذا الكتاب قائلاً "أدعو
الناشرين العرب المهتمين بخدمة ثقافتنا المأزومة الحائرة إلى رعاية
ترجمة الكتاب إلى العربية ترجمة تليق به". فلا شيء يدل على أن الذين
اكتووا بهذه الحرب أو حروب أخرى؛ وقعت في بلاد المسلمين على الأقل، قد
اعتبروا أو اتعظوا بمأساة الحروب ودماء الشعوب.
7/ ذو الحجة/1439هـ |