كتابات أكثر وضوحاً (28): الطغيان والطغاة.. الوعي العربي مأزوماً

الرياض

 

موقع الإمــام الشيرازي

3/شهر رمضان/1431

استكمالاً لمقال كان قد نشره في صحيفة الرياض معلقاً على التعليقات التي جاءت على مقاله السابق أشار الكاتب محمد بن علي المحمود الى ما أسماه بـ(الكارثة الإنسانية) التي يعاني منها العرب والمسلمون والتي "تجلّت في وجهة نظر شريحة عريضة من الجماهير، أقصد وجهة نظرهم في الطغيان؛ متمثلاً في صورة صدام؛ خاصة بعد حادثة الإعدام. مؤكداً أن الإنسان كان غائباً، وكان الانحياز إلى الطغيان واضحاً، إذ تكاد التعليقات تجمع على تبرئة صدام، أو على الأقل، على الغفران له، بعد أن تعترف بشطر من جرائمه الكبرى التي لا تغتفر؛ بأي معيار من معايير التسامح والغفران". مبيناً أن "هذا التسامح مع الطغيان، بل ومع أبشع صور انتهاك حقوق الإنسان، يدل على عطب كبير في الضمير العربي / الإسلامي، بل يقودنا إلى الشك في وجود هذا الضمير أصلاً. هل يحق لنا إزاء كل ما حدث من مآسٍ على مر تاريخنا، وما قيل إزاء ذلك وما يقال الآن أن نتساءل: هل استطاعت ثقافتنا من بداية تكونها أن تصنع ولو ضميراً صغيراً منحازاً إلى الإنسان؟ هل خرج هذا الضمير إلى الوجود، أم أنه أجهض منذ بداية تخلّقه في خلاياه الأولى؟ ماذا كانت تصنع ثقافتنا منذ أكثر من ألف عام؟ هل كانت ثقافة تتوفر ولو على القليل من الإنساني، أم أنها كانت بالكامل ثقافة طغاة وطغيان، وتشريع لهؤلاء وأولئك؟".

ويضيف: "في اعتقادي، أننا مهما اختلفنا حول الجزئيات الفرعية المتعلقة بهذه الأسئلة، فإننا لا نستطيع تجاهل حقيقة واضحة، وهي أن ثقافة الإنسان غائبة عن ثقافتنا، ومن ثَمَّ، عن وعينا. قد نختلف في سبب هذا الغياب. لكن، لا أظننا سنختلف حول حقيقة هذا الغياب؛ لأن شواهده واضحة للعيان. لا يستطيع أحد أن ينكر هذا الغياب. حتى مقولات التبرير للطغيان، لا تستطيع أن تنكر حقيقة هذا الغياب؛ لأن التبرير ذاته، هو فعل على موجود، وبحجم التبرير يكون حجم الوجود، بل التبرير من حيث هو نوع من شرعنة الغياب (= غياب ثقافة الإنسان) من أقوى الأدلة على حضور هذا الغياب... هامشية الإنسان، وكونه آخر ما نفكر فيه، لم يحدث بين يوم وليلة. إنه لم يصبح ثقافة طاغية حاكمة للوعي العام؛ إلا عبر تراكمات ضخمة في أزمنة متتالية، كانت تعمل عملها على مستويات: الشعور واللاشعور الجمْعيين. واستمرت التراكمات تعزز كل ما سبق؛ لأنه وللأسف ليست ثمة ثورة إنسانية حقيقية على المستوى الثقافي على امتداد تاريخنا الطويل. وما حدث هنا وهناك، لم يكن إلا انتفاضات خافتة، وأدتها في مهدها أمواج الثقافة الأقوى والأعتى؛ فلم يبق منها إلا ذكريات تثير الشجون، وتبعث الأسى إلى درجة الجنون".

ويقول: "إذا كان مثال صدام يعكس حالة الوعي العربي المأزوم، عندما يقوم بانقلاب كامل على الإنسان، أي عندما يقوم بنقل شخصية ما، من خانة: (أكبر المجرمين) إلى خانة: (الأبطال والشهداء والصالحين)؛ فإن ضمور الإنسان يحدث في المقارنات التي يقيمها الوعي العربي المأزوم بين حُكامه اليوم. فالحاكم المبجل والمعظم والبطل.. إلخ الألقاب الباذخة في هذا الوعي، هو الحاكم الذي مارس أعلى درجات القهر والسحق، وفتح أكبر المعتقلات وأباد بشتى السبل الوحشية أكبر عدد من الناس. بينما الحاكم الذي لم يفعل إلا القليل النادر من ذلك، بل وربما فتح كثيراً من مجالات الحرية التي كانت مغلقة من قبله لعشرات، واهتم ولو قليلاً بالإنسان، يُدْرِجه الوعي المأزوم في خانة: الضعفاء، بل وربما في خانة الخونة المجرمين... الوعي العربي لا يمارس تقييم حكامه وقادته على أساس إنساني واقعي، ولا على أساس مساحات الحرية المرتبطة عضوياً بالشأن الإنساني، بل على أساس العنتريات الفارغة التي لم تحقق شيئاً. ليس هذا تبريراً للمقصرين في الشأن الإنساني، أياً كان موقعهم؛ عن طريق مقارنتهم بأشد الحكام سحقاً لكرامة الإنسان، أي بأمثال عبدالناصر وصدام، بل التقصير يشمل العالم العربي كله بلا استثناء. لكن هناك فرق كبير وجوهريّ، بين دولة تقع فيها انتهاكات، وتفشل أحياناً في تلافيها، وقد تمارس القبضة الحديدية في ظرف استثنائي ما، وبين دولة أخرى، تقع مسألة انتهاك كرامة الإنسان في صلب إستراتيجيتها، بل تكون هيكلها العام على أساس القدرة على أداء هذه الوظيفة (= اضطهاد الإنسان). فرق كبير بين دولة تحاول حفظ كرامة الإنسان ولكنها لقصور ذاتي أو فشل أو اضطرار لا تصل به إلى الحد الأدنى المقبول مرحلياً، وبين دولة أخرى، تجد هويتها في عملية إلغاء كرامة الإنسان. هناك فرق كبير وجوهريّ بين دولة يقع فيها القمع؛ كاستثناءات وتجاوزات، وبين دولة هي مشروع قمع؛ بحيث تجد أن كل مكوناتها متوجهة لسحق وإلغاء كرامة الإنسان.

 

الرياض