![]() |
![]() |
عوامل بروز داعش والمنظمات الإرهابية |
السيد مرتضى الشيرازي |
ومعادلة الرحمة النبوية في إطار المقاصد القرآنية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى، محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم.
يقول الله تبارك وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([1]) إن هذه الآية الشريفة تارة تُتناول بالبحث والتحليل من منحى فكري كلامي، وتارة أخرى تدرس من زاوية سياسية أمنية؛ وذلك بمناسبة التفجير الإرهابي الذي حدث في منطقة القطيف/القديح، بل ومجمل ما يقوم به الإرهابيون في مختلف بلاد العالم الإسلامي، وما حدث أخيراً من احتلالهم مدينة الرمادي وغيرها، وتارة ثالثة تُبحث هذه الآية الكريمة وبعض أبعادها من وجهة نظر فقهية، - أصولية – مقاصدية، فهذه ثلاث جهات للبحث سنتعرض لها تباعاً إن شاء الله:
الجانب الفقهي: مقاصد الشريعة حِكَم مرشدة ولنبدأ البحث عن المنحى والجهة الفقهية وفيما يرتبط بفلسفة التشريع ومقاصد الشريعة، فان الآية الكريمة تشير – كما سبق - الى مقصد عام من مقاصد الشريعة، وسنشير اليه هاهنا اشارة موجزة ولسنا بصدد تفصيل الاستدلال والرد والجرح والتعديل. فنقول: في الجانب الفقهي الشرعي والقانوني وبشكل عام، توجد هنالك عوالم متداخلة وهي عالم الملاكات وعالم التشريع، وعالم الامتثال، والأولان يرتبطان بالمولى والثالث يرتبط بالعباد. إن البعض خلافاً للمشهور([2]) يرى أن مقاصد الشريعة مما تتدخل في عالم التشريع أيضاً، ونعني بذلك أنه باستكشاف مقاصد الشريعة العامة، ومنها الرحمة الإلهية الشاملة نستكشف علل الأحكام الشرعية، وعلى ضوئها نستطيع أن نعرف ما الذي جرى في عالم التشريع فنستنبط الحكم الشرعي من خلال تحديد مقاصد الشريعة([3]). في حين أننا نرى أن مقاصد الشريعة لا تعدو أن تكون حِكما وليست عللا تامة، فهي ذات مدخلية في الحكم وتشريعه، لكن حيث إننا لا نعلم المزاحمات وسائر الملاكات الأخرى التي محصلتها النهائية تشريع حكم شرعي معين، لذلك لا يمكن استكشاف الحكم الشرعي من الرجوع إلى مقاصد الشريعة.
مقاصد الشريعة بوصلة تحديد الاتجاه العام ولكن مع إننا لا نذهب الى ما يذهب إليه هؤلاء ونرى ما يراه المشهور لكن نقول: هناك فائدة كبيرة جداً لاستكشاف مقاصد الشريعة وهي (الاسترشاد) وما يعبر عنه بعض الفقهاء في بعض المواطن بــ(الاستئناس الفقهي)، إذ نتعرف من خلالها على الذوق العام للشريعة، ومعرفة الذوق العام للشارع، ولو من خلال الحكمة، تصلح أن تكون تارة مؤيداً في عملية الاستنباط، وأخرى تكون موجبة للاسترشاد العام، وثالثة تكون موجبة للانصراف في الدليل أو غير ذلك مما لا مجال لبسط الكلام فيه وتفصيله. ولنمثل هنا ببعض الأمثلة الفقهية التي تبين وجهة نظرنا الثانية (إن مقاصد الشريعة ليست أجنبية عن التشريع في عالم الثبوت، بل هي من جوهره وصميمه، إنما الكلام عن مدخليتها في عالم الإثبات، كما لها مدخلية في عالم الثبوت، فإن مدخليتها في عالم الإثبات واستكشافنا للحكم الشرعي هو في حدود الحكمة والمؤيد وإيجاب الانصراف وشبه ذلك).
هل الأصالة للفرد أم للمجتمع؟ مثلا: هل الأصالة للفرد ام للمجتمع في الشريعة ؟ إن الأصل في الرأسمالية هو الفرد! أي التشريع يلاحظ أساساً حال الفرد، وعليه تدور رحى التشريعات. في حين أن الاشتراكية ترى أن الأصل هو المجتمع، فتلاحظ في التشريعات كأساس عام العلة الاجتماعية والصورة العامة، والمجموع من حيث المجموع وما خرج، فإنما يخرج بالدليل. أما إذا قلنا أن الأصل كما نرى ([4]) للإثنين معا (الفرد والمجتمع) فلا اصالة للفرد بقول مطلق، كما لا أصالة للمجتمع بقول مطلق، إن كليهما أصيل: فهناك تشريعات لاحظت مصلحة المجموع كفريضة الخمس وفريضة الزكاة، وإن عادت بالمآل للفرد بما هو فرد إيضاً، كما أن كثيراً من التشريعات تلاحظ فيها المصلحة الفردية كالملكية الشخصية وما اشبه. فهذه اتجاهات عامة وهي مؤثرة ولو كتأييد في مرحلة استنباط الأحكام الشرعية والقوانين. مثلا: إذا أرادت الدولة توسعة الطريق، وكان منزل زيد يقع حجر عثرة في طريق التوسعة، فهل للبلدية أن تهدمه بحجة اقتضاء المصلحة الاجتماعية العامة أم إن اللازم مراعاة المصلحة الفردية لزيد؟ إن الاتجاه العام في أصالة الفرد أو المجتمع، يشكل إجابة، أو بعض الإجابة، أو التأييد لهذا الطرف أو ذاك([5]). والحاصل: غنه عندما يتحدد الاتجاه العام للتشريع كما في شريعتنا المقدسة ((جئتكم بالشريعة السمحة))([6]) أو (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([7]) وغير ذلك فإنه يصلح مؤيداً أو قرينة على الأقل، ولذا نجد مثلاً أن الاتجاه العام لصاحب الجواهر هو التخفيف واليسر والتيسير في الأحكام الشرعية على العكس من مسلك الشيخ الأنصاري الذي يميل الى الاحتياط والتحفظ([8]) ولذا أوصى صاحب الجواهر الشيخ الأنصاري بـ: قلّل من احتياطاتك. ومجمل القول: أن مقاصد الشريعة لها مدخلية في الاتجاه العام للفقيه في عملية استنباطه للأحكام.
هل الأصالة للمجتمع أم للدولة؟ مثال آخر: هل الأصل في الشريعة الناس أم الدولة؟ ففي البرلمانات الحديثة يرتكز في أذهان نوابها ـ نظراً لسيادة المدرسة الاستبدادية ـ إن الأصل هو الدولة، فكل قانون يكونون بصدد تشريعه، فإنهم يحاولون أن يعطوا عبره مزيداً من بسط اليد للدولة، فهم يميلون إلى تشريع قوانين تضمن سيطرتها وهيمنتها على كل المقدرات والخيرات. بل حتى المدرسة المسماة بالديمقراطية هي كذلك في سلسلة هامة من الأحكام، فمثلاً الصحاري والفيافي والوديان ورؤوس الجبال وغيرها تعتبر طبيعياً ملَكاً للدولة في نظرهم لذلك تشرع القوانين على ضوء ذلك. كذلك الاستيراد والتصدير وكل ما يرتبط بالحدود دخولاً وخروجاً تجدهم يرون أنها ترجع الى الدولة. وهكذا تتمحور كل القوانين والتشريعات على تكريس سلطة الدولة والتي تعود – في واقعها - بالنفع الأكبر الى الأفراد المتسلطين على دفة الحكم في البلاد. وفي المقابل نحن نرى حسب الأدلة الشرعية القطعية: أن الأصل هم الناس، والدولة ليست إلا مجرد خادم للناس والمجتمع، فالأصل هو سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم وعلى الثروات الطبيعية في البلاد وعلى مختلف أبعاد الحركة والانطلاق وفي شتى دوائر الحريات([9])، وسلطة الدولة استثناء فلا خروج عن قاعدة (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وحقوقهم) إلا بالدليل علما أن موارده قليلة جدا.
التخفيف في الحدود والأحكام القضائية مثال اخر: إذا كان الاتجاه العام للفقيه في الحدود هو التخفيف فستختلف عنده عدد من التشريعِات، عكس ما لو كان مسلكه التشديد، نعم ههنا، إضافة الى فلسفة مقاصد الشريعة، توجد رواية خاصة أيضا تفيد التخفيف وهى الرواية المشهورة (تدرأ الحدود بالشبهات)، وهي دليل خاص يطابق مقصد الشريعة العام وهو (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)([10]).
شرعية التمييز والاستئناف مثال آخر: هل للتمييز والاستئناف مجال في الشريعة الإسلامية أم لا؟ إن مشهور الفقهاء كان على العدم، وذلك لأنه إذا حكم القاضي بحكم فلقد حكم بحكم الله والراد عليه كالراد على على الله تعالى وأهل البيت (عليه السلام) كما في الرواية ((وَالرَّادُّ عَلَيْنَا كَالرَّادِّ عَلَى اللَّهِ...))([11]) لكن السيد الوالد وبعض آخر يرون أن هناك مجالا للتمييز والاستئناف في الشريعة، وإن بابهما مُشرع، أما رواية الرد على الله وأهل البيت (عليهم السلام) فلها تفسير آخر، وهو أن يقال إن ذلك رد إليهم (عليهم السلام) وليس رداً عليهم، كما لا يخفى، وعليه فلا إشكال شرعاً في إحالة ملف القضية من جديد إلى قاض آخر أو عند نفس القاضي الحاكم ليعيد النظر فيها أو يتثبت أكثر فأكثر، وذلك مما ينسجم مع الرحمة الإلهية الواسعة والمقصد التشريعي (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)، والذي لعله يكون مرشداً الى وجود أدلة خاصة قد تفيد جواز التمييز والاستئناف، فلا بد من المراجعة إليها والتحقيق، وإن لم يصلح دليلاً بنفسه لأنه غاية الأمر أن يكون حِكمةً قد تزاحمه حِكمٌ أخرى.
الجانب السياسي والاستراتيجي: استهداف الغاية من بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) يقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) وقد أشرنا في بحوث سابقة إلى أن الإرهابيين استهدفوا هذا المقصد العام وهذه الحكمة العامة لبعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فصوّروا الإسلام والمسلمين وكأنهم وحوش([12]) فتاكة لا هم لها إلا القتل وسفك الدماء. وكأنهم يقولون: نحن – كمسلمين - أرسلنا لتدمير العالم وتحطيمه وتمزيقه ولا غير، كما يشهد لذلك ما يحصل بالفعل في كل المناطق التي دخلوا إليها وبسطوا سيطرتهم عليها. فرسالتهم نشر الإرهاب وتعميم الفوضى وتدمير كل شيء لا يخضع لمعتقداتهم، بل حتى ما إذا لم يكن يتجانس مع أفكارهم ومتبنياتهم، حتى أن الآثار لم تسلم من عبث أيديهم، فلا فرق لديهم بين أثر إنساني أو مسجد رباني، الجميع يجب أن يدمر، والجميع يجب أن يخرب!! ولذا لم يتركوا حرمة إلا انتهكوها، من حرق الأحياء الى نحر النساء وكبار السن الى تدمير الآثار والحضارات وإلى تفجير حزام ناسف في مسجد تقام فيه صلاة الجمعة ليقتلوا العشرات من عباد الله وهم في حالة عبادة رب العالمين! ومن يلاحظ صعودهم المفاجئ وقدراتهم العسكرية والتكنولوجيا العالية جداً، ويلاحظ ما يصنعونه في العراق وفي سوريا وفي أفغانستان وغير ذلك من تدمير وتخريب وفساد وإفساد، يدرك بوضوح أن هؤلاء الإرهابيين تحركهم قوة خفية لها مخططاتها وأهدافها المبيتة التي من طليعتها تشويه صورة الاسلام والمسلمين من خلال هذه المنظمات الإرهابية السائبة والتي تصنف على أنها مجاميع إسلامية تريد إعادة الخلافة الإسلامية الراشدة من جديد! وصفوة القول: إن هؤلاء الإرهابيين استهدفوا فلسفة بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن الرسول الأعظم مأمور بقوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)([13])، وقد أُرسل رحمة للعالمين، بينما يشهد الكل أن رسالة هؤلاء القساة هي رسالة التدمير والعدوان والوحشية والطغيان.
تفجير القديح: الأسباب والجذور لقد طال مؤخراً تفجير إرهابي مفجع مسجد الإمام علي عليه صلوات الله وسلامه في مدينة القديح في القطيف المظلومة، كما طالت من قبل يد الإرهاب والتكفيريين مرقد الإمامين العسكريين (عليهما السلام) ومراقد الأولياء في سوريا والعراق، وكذلك الحسينيات والمدارس في الموصل وغيرها. فماذا تكشف لنا هذه الجرائم الكبرى الممنهجة والتي تحولت إلى ظاهرة خطيرة تهدد المنطقة كلها بشرٍّ مستطير وبدمارٍ شامل؟ وما هي الأسباب والجذور؟
المثلث المشؤوم: الاستعمار، الاستبداد، والتخلف فنقول: الأسباب الأساسية والجوهرية تتلخص في المثلث المشؤوم وهو الاستعمار، الاستبداد، التخلف الذي يعود في جوهره إلى الإعراض عن الآيات الحيوية وهو السبب الكامن وراء كل هذه الظواهر فهو العلة المحدثة وهو العلة المبقية أيضاً. فالاستعمار: عدو خارجي والاستبداد: عدو داخلي يتربع على قمة السلطة. والتخلف في المجتمع: عدو داخلي يلف الأمة والقاعدة ومصدره ومنبعه هو الإعراض عن الآيات الحيوية في القرآن الكريم. الاستعمار لم يعد خافياً على أحد بأن هذه المنظمات الإرهابية التي ندر أن يوجد لها مثيل في تاريخ البشرية، يقف وراءها الاستعمار بشكل غدا مفضوحاً حتى لغير الخبير بخفايا معادلات المؤامرات الدولية، والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى، فهم من أسّس ثم هم من يدعم ويقوي الإرهابيين (داعش وطالبان والقاعدة وغيرها) ثم هم من جهة أخرى يضعفونها حسب معادلة توازن القوى، فالاستعمار هو الذي يدير شبكة المنظمات الإرهابية في العالم الشرقي، تماما كما كانوا يديرون المافيات ولازالوا في العالم الغربي على حسب مقتضى السياسة المكيافيلية. لكن لماذا كل ذلك؟ الأسرار الستة وراء صناعة الدول الغربية للإرهاب ورعايته هناك تفسيرات عديدة – ذكرها عدد من الخبراء - للعلل الكامنة وراء صناعة الاستعمار للإرهاب على مستوى العالم الإسلامي والعربي – بل والعالم ككل – وتغذيته وتقويته بشكل متواصل، ولا مانعة جمع بينها إلا أن نسبة مدخلية كل عامل هي أمر دقيق يحتاج إلى بحوث متخصصة، على أننا لسنا بصدد تبني احد هذه التفسيرات:
فقد تفسر هذه الحماية والإدارة والتقوية والتضعيف، والتأسيس من قبل، سياسياً وقد تفسر اقتصاديا وقد تفسر سيكولوجيا ونفسيا، وهناك تفسيرات تاريخية، كما أن هناك تفسيرات مبدئية ايدلوجية، وهناك تفسير أمني أيضاً فالتفسيرات إذاً متعددة، وكما كانت الصهيونية وإسرائيل هي صنيعة الغرب احتضانا ورعاية وحماية – ومن أبرز الأمثلة الفيتو ضد أي قرار يراد إصداره من مجلس الأمن لتقييد أو تكبيل ايادي الصهاينة - كذلك داعش وجيش خراسان وطالبان وغيرها.
1- التفسير السياسي هذا التفسير يذهب إلى حكومة الدول الكبرى للعالم وسيطرتهم عليه تتم عبر هذه الآلية السياسية، وهو ما يصطلح علية بسياسة السيطرة على الجميع، عبر إدارة عملية توزان القوى، وقد كانت سياستهم في الماضي تقوم على أساس دعم الحكومات المستبدة في المنطقة، ومن يجهل أنهم هم الذين وفروا الحماية لمجموعة من الطواغيت أمثال صدام والشاهَين والسادات ومبارك وبن علي وغيرهم. كما أنهم لازالوا يوفرون الحماية لعدة حكام وملوك في العالم الإسلامي والعربي وفي الخليج وبشكل علني سافر. أما الآن فهناك سياسة أخرى أسموها (الفوضى الخلاقة)، ومن أهم بنودها إيجاد وتقوية شبكة منظمات إرهابية مهمتها تفتيت العالم الاسلامي والعربي، وتسليم أجزاء من البلاد لهم كي يحتاجهم الكل فتلجأ إليهم الحكومات والشعوب أكثر فأكثر، غفلة عن أن: المستجيرُ بعمرو عند كربته .... كالمستجير من الرمضاء بالنار ولذا نجد أنه كلما ازدادت قوة هذه المنظمات الإرهابية ازدادت الحكومات التجاءً إلى الغرب وخضوعاً لمخططاته استجداءً لأسلحتهم وخبرائهم، والمحصّلة: أن الكل يركض ورائهم: فهذا الطرف يحتاج إليهم وبشدة، وذلك الطرف هو صنيعتهم، فإذا قويت الدول واستشموا منها رائحة الانفلات سلطوا عليها الإرهاب، وغذا قويت المنظمات الإرهابية وأحست بنوع من الاستغناء عنهم، أمدوا الحكومات بالسلاح والخبراء، والحاصل: إنه كلما ضعف أحد الطرفين وكادت الكِفّة تميل للطرف الآخر أمدوه بالسلاح والخبراء حتى يعود التوازن ويبقى الكل أسير مخططاتهم بل رهن إشارتهم. ومن مظاهر ذلك، أن الحشد الشعبي عندما حقق انتصارات متتالية كادت أن تقضي على الإرهاب رفض الاستعمار مشاركته في تحرير المناطق المحتلة، وأوقفوا تقدمه حتى سقطت الرمادي وقويت شوكة الغرهاب من جديد! كذلك في سوريا لم يسمحوا للإرهابيين أن يسقطوا الحكومة ولم يسمحوا للحكومة أن تنتصر على الإرهاب، بل السياسة هي استمرار وجود كلا الطرفين كي يستمر الدمار وسفك الدماء وإلى إشعار آخر!
2- التفسير الاقتصادي إن الغرب يعيش – اقتصادياً - على مثل هذه الحروب الداخلية بين وفي الدول الإسلامية، إذ تباع يومياً آلاف الأطنان من الأسلحة والطائرات وسائر المعدات الحربية على الأطراف المتنازعة ومنها دول بترولية كبيرة([14])، وهناك مخططات مستقبلية لقيام حروب أخرى غير ما نشهده الآن([15])، ومن خلال ذلك، فإن معامل وشركات السلاح تجني أرباحاً وفيرة تقدر بمئات المليارات من الدولارات بل ترليونات الدولارات – خلال عقد من الزمن -، خصوصاً إذا علمنا أن أكثر هذه الشركات ترجع ملكيتها الى تلك الدول الكبرى بشكل أو آخر.
3- التفسير السيكولوجي إن عدداً ممن يديرون العالم اليوم مصابون بمرض السادية، وكما كنا نسمع عن الحجاج (لعنه الله) أنه عندما كانت تنسد شهيته كان يأمر بإحضار سجين بريء فيقتلونه أمامه، ثم يفرشون له مائدة الطعام فوق جثة هذا البريء فيأكل عندئذ نشوانَ متلذذاً، وكما كان الحال مع هتلر وصدام وأمثالهم، فإن الكثير من ساسة اليوم في الدول الكبرى ومن يدور في فلكها يلتذون حقاً بقتل إنسان لإنسان آخر أو بقتل مسلم لمسلم أو بتدمير بلادهم بحيث أنه عندما تصله اخبار التفجيرات او تحطيم البنى التحتية للبلاد، كما يحصل في سوريا أو اليمن اليوم، ينشرح صدره وينبسط ويشعر باللذة والانتعاش، وعلى ذلك شواهد كثيرة، منها أن ذلك الشخص([16]) الذي هرب الى تركيا بعد أن اكتشفت صلاته بالإرهاب، ينقل عنه أن شهيته كانت قد انسدت للطعام لثلاثة أيام، ثم ما إن وصله خبر تفجير قام به بعض أزلامه وخلاياه في المناطق الموالية لأهل البيت (عليه السلام) حتى قال: آتوني بالطعام فقد انفتحت شهيتي! إن قسماً من ساسة العالم مصابون بمرض السادية، وهو مرض هتلري صدامي، وهو مرض سيكولوجي معروف لا يرويه إلا المزيد من سفك الدماء، وهتك الأعراض، وتدمير البيوت والمدن والبلاد. أجارنا الله وجميع المسلمين بل والبشرية من شرورهم وطغيانهم.
4- التفسير التاريخي إن ما يحصل اليوم من تدمير ممنهج في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان وغيرها، ما هو إلا امتداد لثارات الحروب الصليبية انتقاماً من المسلمين، ولذا نجد أن معظم([17]) الأعمال الإرهابية تجري في بلاد المسلمين كما لا يخفى.
5- التفسير الأمني بمعنى أن الأحداث الجارية اليوم في عالمنا الإسلامي، والتي دمرت البلاد والعباد، كل ذلك قد هندسوا له كي لا يحدث انفجار واحد في بلدانهم، فإنهم عندما حصلت حادثة (سبتمبر 2001م)، جلس مخططوهم وفكروا أن الإرهاب قادم إليهم ـ وهو صناعتهم ـ فلا بد من توجيهه لبلاد المسلمين، وبكل قوة وبشكل واسع النطاق جداً، بحيث يمتص الطاقة التخريبية الإرهابية للملايين من التكفيريين ويحصرها في بلاد المسلمين فقط! وقد صرح بعض مخططيهم ان هذه (الفوضى الخلاقة) ستستمر إلى مائة سنة!!
الاستبداد إن الحكومات الاستبدادية التي تحكم بلادنا اليوم، وقبل اليوم، تمثل ضلعاً من المثلث المشؤوم الذي يبقي البلاد الإسلامية متأخرة لا تحظى بالعيش الآمن والاستقرار والسلام والرفاه.. والمأساة كل المأساة أنه: قد تصور الكثيرون منا، أثر التضليل الإعلامي، إن الخلاص كل الخلاص إنما يأتي من خلال الغرب والارتماء في أحضانه أكثر فأكثر، فكراً ومناهج، سياسة واقتصاداً، قولاً وعملاً! كان أعرابي يسكن في الصحراء في خيمته، فسمع ضجة فخرج فرأى مجموعة من الصيادين يطارون ضبعا([18])، وقد توجهت الى خيمته فشهر سيفه وقال لهم: إنها توجهت الى خيمتي واحتمت بي فدوني ودونكم السيف أو ترجعوا عنها، فلما رأوا إصراره وعزيمته انصرفوا عنه وتركوها له. ثم أن الأعرابي عمد الى ناقة له فحلبها ووضع أنائين امام الضبع، أحدهما فيه الحليب والآخر فيه الماء، فأخذت الضبع تارة تشرب من هذا وأخرى تشرب من الآخر، ثم وفر لها مكانا آمنا ونام هو على مقربة منها، غافلاً أن الضبع حيوان مفترس لا تعرف للرحمة أو الإحسان قيمة ولا مفهوماً، فهجمت الضبع عليه وهو نائم وشقت بطنه وأكلت أمعاءه وذهبت. فجاء ابن عمه بعد ساعة فرآه مقتولاً ممزق الأحشاء ورأى آثار ضبع فقال: هي صاحبته. فاخذ يقتص آثارها حتى عثر عليها وقتلها وأنشأ يقول: ومن يصنعِ المعروفَ معْ غير اهله ... يلاقي الذي لاقى مجيرُ امِّ عامر إن من يحتمي بالدول الكبرى واهِمٌ ومغفّل؛ لأن الداء منها إلا أنها تصور للآخرين أن الدواء عندها. فإن الراعي الأكبر للاستبداد وللإرهاب – معاً - في بلداننا هو الغرب الكافر.
التخلف إن إعراض المسلمين عن الآيات الحيوية في القرآن الكريم يشكل ضلعاً آخر من أضلاع المثلث المشؤوم الذي ينخر في جسد الأمة الإسلامية والذي يكمن وراء كل فساد وخراب، ويعد السبب الأساسي لانعقاد نطفة الحركات الإرهابية ومن ثمّ رشدها ونموها وتطورها. فإن الله تعالى يقول: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)([19])، في حين إننا نقول – بلسان الحال -: بل أمرنا استبداد او فرط، وعلى ضوء ما نقول نسير ونمضي. ويقول تعالى عن التنافس في طريق الخير: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)([20]) بينما نقول نحن ذلك لكن في طريق الشر ـ والعياذ بالله ـ ويقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)([21]) لكننا نعمل عكس ذلك في كل بند بندٍ. ويقول تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)([22]) لكننا نشرعن للإكراه في الدين والدنيا معا ونقنّن له وندافع عنه! وهكذا كل آية حيوية في القرآن الكريم تجد المسلمين معرضون عنها وبذلك اعانوا على انفسهم فتسلطت عليهم سائر الامم وهم في سبات عميق لا يعلم متى يستيقظون منه!
المقترحات والحلول: والآن يجب ان نسأل: ما هو الحل؟ إن الحلول لا يمكن اختزالها في بعد واحد أو في حل واحد، بل الأمر بحاجة الى خطة مركبة متكاملة، ونشير ههنا الى أجزاء منها: 1- خصخصة الأمن على الحكومات أن تدرك إن هذه الجهات الإرهابية هي بالفعل خطر عليها، كما هي خطر على شعوبها، فقد تتصور الحكومات أن الضرر خاص بشعبها فقط، لكن اتضح – لهم - من خلال الوقائع أن الحكومات هي بنفسها مهددة أيضاً. وبالتالي فلابد من إشراك الناس في حفظ أمن البلاد، كما حصل ذلك بالفعل في تجربة (الحشد الشعبي) الرائعة في العراق، لأن الجيش النظامي كان عاجزاً عن أداء مهماته القتالية بالشكل المطلوب، ولولا أن مشيئة الله كانت غير ذلك، ثم التدخل الحكيم والحاسم من قبل مراجعنا الكرام (حفظهم الله جميعاً)، وانقياد الناس للمرجعية الدينية الذي غير المعادلة، لكانت داعش تمددت أكثر فأكثر بما كان قد يحرق العراق كله. 2- العودة للآيات الحيوية العودة للآيات الحيوية القرآنية، ونبذ الحكام والمسؤولين للاستبداد، فقد قال تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ). وفي الرواية الشريفة: ((مَنِ اسْتَبَدَّ بِرَأْيِهِ هَلَك))([23]). فإنه ما دامت الحكومات مستبدةً فإنها ستجر على نفسها وعلى شعبها الويلات والخراب والدمار، فعليها أن تقتنع بان الحل الأمثل حتى لهم هو الاستشارية أو الديمقراطية الصحيحة السليمة من الاستبداد، وهذا هو الحل الأكثر فاعلية وجدوائية. 3- رعاية عوائل الشهداء واستثمار طاقاتهم في بناء الأمة رعاية عوائل الشهداء الذين سقطوا بسبب الإرهاب([24])، وهم بعشرات الألوف من الباكستان وأفغانستان، ومروراً بالعراق وسوريا، ووصولاً إلى اليمن والبحرين والقطيف وغير ذلك، فإن هؤلاء الأفذاذ هم أمانة في أيدينا، وهم ثروة حقيقة للبلاد، لأنهم كتلة من الحماس والعاطفة وكتلة من المظلومية، ومن الممكن أن يتحولوا إلى واحد من أهم عوامل استنهاض الأمة في مختلف الأبعاد. فمن شهداء سبايكر الى شهداء الموصل والرمادي الى شهداء الحشد الشعبي وشهداء البحرين والقطيف وغير ذلك، ممن سقطوا شهداء منذ سقوط الطاغية المقبور أو قبل ذلك، وهم حسب بعض التقديرات 600 ألف شهيد في العراق فقط منذ السقوط، فعلى الحكومة أن تضع برامج مكثفة لرعايتهم وتسهيل أمورهم وتكفل معاشهم، وعلى الناس أن يقوموا بمساعدتهم، والشدّ من أزرهم بمختلف أصنافهم، فمثلا: أين الأطباء من مساعدة عوائل الشهداء؟ ولم لا نرى إعلانات على أبواب المطبات بعلاج عوائل الشهداء مجاناً أو بنصف السعر على الأقل؟!! وأين تجارنا في المعادلة؟ إن على التاجر أن يجعل 10% من مدخوله مثلاً لمساعدة المهجرين ومقاتلي الحشد الشعبي، وكذلك المحامون اين دفاعهم عن حقوق الشعب ككل وعن متابعة واستنقاذ حقوق الشهداء والمهجرين؟ وإن على الجميع أن يسعى للتخفيف عن المنكوبين من الشهداء والمهجرين والمقاتلين والجرحى، بل وفوق ذلك: تشكيل كتلة قوية منهم فإنهم إذا ما انتظمت أمورهم، وإذا ما انخرطوا في لجان حقوقية وقانونية واجتماعية وثقافية ومنظمات سياسية تهدف إلى استنقاذ البلاد من شرور الإرهاب والاستبداد والعبث والفوضى جميعاً، فإنهم سيشكلون طاقة وقوة هائلة، وهم خيرُ مُعين وسند لدحر الإرهاب والإرهابيين بإذن الله تعالى. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين ................................... ** من سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم لسماحة آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي حفظه الله تعالى، ألقيت في النجف الأشرف بتاريخ 8/ شعبان/ 1436 مؤسسة التقى الثقافية ................................... 1- الانبياء 107 2- ونحن لا نرى ذلك 3- وقد فصلنا الحديث عن مقاصد الشريعة والمناقشات في ذلك في العام الماضي وذكرنا ان صاحب الجواهر في مورد واحد على الاقل وهو مورد قاعدة اليسر والعسر (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) التزم بهذا المقصد من مقاصد الشريعة فادخله في عالم التشريع في حوالي من أربعين مسألة فقهية، كدليل مستقل أو كدليل آخر أو كمؤيد. 4- في بحث مبدئي ذكرنا جوانب منه في كتاب (المجتمع المدني في منظومة الفكر الاسلامي). 5- والترديد بين الثلاثة، لاختلاف المباني، إضافة إلى انه يمكن الاستغناء عن ذلك واللجوء إلى قاعدة الأهم والمهم. فتأمل 6- لم نجد مصدر الرواية 7- الانبياء 107 8- والفقهاء على مر التاريخ منهم من يخفف وييّسر ومنهم من يتشدد ويحتاط حسب ما يقتضيه استنباطهم واستدلالهم 9- إلا المعاصي، وذلك امر بديهي. 10- الانبياء 107 11- عوالي اللئالي ج4 ص134. 12- أو كأنهم مجموعة خلقت للتوحش وقد ورد مصطلح التوحش في ادبيات الارهابيين (القاعدة ومشتقاتها) حيث نقلت وسائل الاعلام تسريبات تفيد ان منظمة داعش الارهابية تتبنى فن اواسلوب (إدارة التوحش) , والذي يساعدها في ادخال الرعب والارهاب الى المناطق التي تريد السيطرة عليها (المقرر) 13- ال عمران 159 14- كما يحصل الان من عدوان سعودي سافر على اليمن 15- بحيث قيل ان من مخططاتهم إشعال نيران الحرب بين مصر وليبيا، وهناك بوادر دالة على ذلك. 16- وهو مسؤول عراقي كبير 17- بل شبه المستغرق. 18- وهو حيوان مفترس معروف شبيه بالذئب من حيث الحجم 19- الشورى 39 20- المطففين 26 21- النحل 90 22- البقرة 256 23- نهج البلاغة ص500. 24- المقصود إرهاب الدولة وإرهاب المنظمات الإرهابية. 18/ شعبان/1436 |