حقوق المسلمين في رسالة الإمام زين العابدين (عليه السلام)

آية الله السيد مرتضى الحسيني الشيرازي


موقع الإمام الشيرازي        

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين،

ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين،

واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين،

ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم

 

مسؤوليتنا تجاه الأمة على ضوء رسالة الحقوق

يقول تعالى: (أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)([1])

ويقول الإمام السجاد زين العابدين وسيد الساجدين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: ((وأما حق أهل ملتك: إضمار السلامة والرحمة لهم، والرفقُ بمسيئهم وتألّفهم، واستصلاحهم، وشكر محسنهم، وكف الأذى عنهم، وأن تحب لهم ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك... ))

وفي الآية الشريفة هناك مباحث عديدة، نقتصر فيها على ما يترابط مع محور حديثنا حول بعض الحقوق التي أشار إليها الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) في رسالة الحقوق:

 

1- المبحث الأول: الآية الشريفة هي من آيات الأحكام

إنه يمكن أن تُعَدَّ هذه الآية الشريفة من آيات الأحكام، بل يمكن أن تُعدَّ من مصادر التشريع، وليس مجرد دلالتها على حكم شرعي واحد فقط، إذ إنها تكشف عن قاعدة عامة تشكل مصدراً من مصادر التشريع، الأمر الذي يكسبها أهمية كبرى، وإنْ كانت كل آيات الله تعالى على أقصى درجات الأهمية.

توضيح ذلك: الآية الشريفة تكشف عن المبنى القانوني أو قل المبنى البنيوي النظري للمنظومة الحقوقية الإسلامية إذ إن هناك منظومة حقوقية عامة تشمل مختلف أنواع الحقوق، والآية مدار البحث، تحدد الإطار العريض الذي يرسم آفاق هذه المنظومة الحقوقية الإلهية وأبعادها وجذورها، استنادا الى كلمة واحدة في هذه الآية، وهي مفردة (أمة) في قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً). ذلك أنه إذا كانت الأمة أمة واحدة فإنه:

أولاً: ستكون المواصفات التي ترتبط بجميع أعضاء الأمة، من حيث هم أعضاء فيها، مواصفات واحدة تشملهم جميعا.

وثانياً: إن المسؤولية على كل فرد سوف تكون واحدة أيضاً ومشتركة، (وليس كلامنا الآن بصدد بيان هذه (المواصفات) أو تلك (المسؤوليات)، وإنما كلامنا في البعد الثالث الآتي).

وثالثاً: إن الأمة إذا كانت واحدة، فإن (الحقوق) أيضاً ستكون مشتركة، فالأمة إذا كانت أمة واحدة، فإن حقوق هذه الأمة، بما هي أمة، بكل آحادها ينبغي أن تكون مشتركة.

والحاصل إن الناتج من قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، هو إن المسؤوليات (وهي الواجبات) مشتركة، والحقوق (وهي الامتيازات) مشتركة، كما أن المواصفات أيضاً مشتركة، وهذا مبدأ عام يمكن أن تكون له استثناءات تخرج بالدليل، لسنا الآن بصدد بيانها.

وكمثال للتوضيح: العشائر التي تنتشر في اغلب بلدان العالم والتي اقتضت حكمته تعالى وجودها، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)([2]). فإننا نجد أن أعضاء العشيرة، بما هم أعضاء، لهم مواصفات خاصة بهم، كما أن عليهم مسؤولية عامة مشتركة([3])، كما عليهم مسؤوليات تختلف من شخص الى آخر منهم، لكنها تشترك في هدف مشترك، وهو مصلحة العشيرة، والأمر الآخر: إن لهم حقوقاً بما هم أعضاء في هذه العشيرة.

والأمر نفسه ينطبق على الشعوب، كالشعب العراقي أو الإيراني أو المصري أو الحجازي أو غير ذلك.

إلا أن الآية الشريفة تجعل المنطلق هو الأمة (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، ونتعرف من خلال ذلك على أنه لا شعوبيات ولا قبليات بالمعنى الضيق ولا قوميات في الاسلام، وإنما (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، ولم يقل: شعبكم شعب واحد ولا قوميتكم الفارسية أو العربية أو غير ذلك قومية واحدة، بل المقياس هو (الأمة) وهو مقياس مبدئي عام.

 

2- المبحث الثاني: ما هو المراد بالأمة؟

الاحتمالات والأقوال في المراد من الأمة في قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) هي أربعة:

القول الأول والمنصور: الأمة لغة: هي الجماعة من الناس والتي اجتمعت على مقصد واحد([4])، وعلى هذا الأساس فإن لـ(الأمة) دوائر تتسع وتضيق على حسب المقصد المشترك، فالأمة الإسلامية مادامت مجتمعة على أمر واحد، فإنها أمة واحدة، كذلك شيعة أهل البيت ماداموا مجتمعين على الصراط المستقيم وحبل الله المتين، فهم أمة واحدة في دائرة أخص، وهكذا كل جماعة ولو كانوا عشرة أفراد، كما في قصة موسى (عليه السلام) قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ...)([5]) أي جماعة وهم الرعاء والرعاة.

هذا هو الاحتمال الأول، وهو لا يتنافى مع الاحتمال الرابع الآتي أيضاً، بل يؤكده.

وعلى أساسه، فالآية الشريفة تشير الى أن المسلمين كافة، لهم حقوق مشتركة، وعليهم واجبات مشتركة، ولهم مواصفات مشتركة.

القول الثاني: إن أمتكم أي: دينكم، وهو ما ارتضاه الشيخ الطوسي لقرينة في المقام فيكون المعنى: إن دينكم دين واحد وهو الدين الإسلامي. لكنه خلاف الظاهر([6]).

القول الثالث: ما ذكره بعض المفسرين([7])، إن ذلك إشارة الى النوع الإنساني، وعلى أساسه يكون كل البشر من مسلمين وكفار هم أمة واحدة بقرينة سياق الآيات، حيث يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)([8])، والآية غير خاصة بالمسلمين.

وهنا نقول في رد هذا الاستدلال: إنه خلاف الظاهر جداً، وهو في غاية الضعف؛ لأنه لم يعهد إطلاق لفظة (الأمة) على النوع الإنساني، إلا لو اجتمعت على مقصد واحد، والآية وإن كانت خطاباً للرسل الكرام لكن جامعها الاسلام؛ لان دين كل الرسل هو الإسلام قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ)([9])، نعم إسلامنا أخص من إسلام إبراهيم وموسى وعيسى وباقي النبيين، لوجود قيود ومستجدات وفوائد لا توجد في الشرائع السابقة.

هذا مضافاً الى أن ورود اسم الإشارة (هذه) في قوله تعالى (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ...)، قرينة على ان المراد بها الأمة الإسلامية، وهي إما نفس أمة الأنبياء الممتدة أو أمة رسول الله محمد صلى الله عليه وآله.

القول الرابع: وهو ما ورد في رواية عن الإمام الباقر (عليه السلام)، حيث سأله الراوي عن الآية، فقال (عليه السلام): هم آل محمد (صلى الله عليه وآله).

ذلك أن آل محمد (عليهم السلام) هم الممثلون الشرعيون الوحيدون لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والدين الاسلامي، فمن تبعهم وتمسك بسفينتهم دخل الجنة ونجى.

نقول: هذا التفسير تفسير صحيح بغض النظر عن السند؛ لأن المضمون مطابق للألوف من الروايات الواردة في بيان استقامة طريقة أهل البيت عليهم السلام ووجوب إتباعهم، نعم التفسير الوارد هو تفسير بالمصداق الأجلى، فتكون الأمة بالمعنى الأخص، هي أمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين تمسكوا بالثقلين، وهؤلاء لهم مواصفات خاصة، وعليهم مسؤوليات ولهم حقوق، وهم الشيعة الأمامية الإثنى عشرية، في حين أن الأمة الإسلامية بالمعنى الأعم أيضاً لها مواصفات ومسؤوليات وحقوق... وقد تجتمع مع الأولى وقد تفترق.

ولا مانعة جمع بين الإسلام بالمعنى الأخص والإسلام بالمعنى الأعم، ولكل منهما حقوق وواجبات تعرف من خلال ملاحظة كافة التشريعات الإسلامية العامة والخاصة.

ومن هنا ننطلق الى بيان الحقوق التي وردت في رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام)، فقد أشار (صلوات الله عليه) الى جانب من هذه الحقوق حيث قال: ((وأما حق أهل ملتك: إضمار السلامة والرحمة لهم...))، بمعنى أن تضمر السلامة والرحمة لكل مسلم، سواء أكان من طائفتك أم من غيرها، أما الأول فواضح، وأما الثاني فعبر محاولة هدايته الى طريق أهل البيت (عليهم السلام)، وهي أعظم رحمة له، إن وفقك الله تعالى لهدايته ووفقه للاهتداء، كما أن الرحمة الأرقى بغير المسلم المسيحي أو البوذي أو غيرهما تتحقق في أجلى مصاديقها بهدايته للإسلام.

 

3- المبحث الثالث: استشعار الانتماء الى الأمة الواحدة

المبحث الثالث: ضرورة استشعار هذا الإحساس المتجسِّد، وهو كوننا أمة واحدة بالمعنى الأعم على الأقل فضلاً عن المعنى الأخص!! فهل يستشعر جميعنا ذلك؟ وهل يتفاعل بالتبع مع هذه المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع؟

إننا لو لاحظنا العشيرة مثلا، فسوف نجد أن كل فرد من أفرادها يستشعر الانتماء إليها، وهو إحساس في غالبه محمود، لكن هل أنا كمسلم وكشيعي أمامي أحمل هذا الإحساس اتجاه أي مسلم وشيعي آخر في العالم؟.

إن الرواية دقيقة حيث تقول: ((... إضمار السلامة والرحمة لهم...))، وإذا أردنا أن نتعمق بعض التعمق في فهم قوله (عليه السلام)، نجد أن في قبال ((إضمار السلامة)) أربعة أشياء: 1) العداوة. 2) التنقيص. 3) الاحتقار. 4) الإهمال.

وإضمار السلامة يعني أن لا عداوة، ولا تنقيص، ولا احتقار، بالنسبة لأهل الملة بما هم أهل الملة، بل ولا حتى إهمال لهم فكل ذلك مرفوض.

إن الشيعي الموجود في الهند مثلا، قد يتعرض الى ظلم وظلامة، فمن الواجب علينا أن نسعفه بدعمنا وتأييدنا، كي ينال حقه ومطالبه بكل وسيلة ممكنة، وأن نتعاطف معه الى أبعد الحدود حتى نتمثل قول أمامنا السجاد (عليه السلام).

ولا يتوهم أن إضمار السلامة أمر قلبي، فلا يتعدى الحكم إلى الجوارح، وذلك لأن الإمام (عليه السلام) يصرح بعد ذلك: ((... وكف الأذى عنهم...))، بمعنى أن كل مسؤول وكل واحد منا، مسؤول عن كف الأذى عن كل مسلم، في أية بقعة من بقاع الأرض، وهذا حق ثابت، وأما القدرة على ذلك والآليات للوصول إلى ذلك فإنه بحث آخر.

 

4- المبحث الرابع: التقصير والإهمال لأهل ملتنا ظاهرة عامة

المبحث الرابع: إن من مآسينا المؤلمة أن التقصير والإهمال لأهل ملتنا من المسلمين، أصبح ظاهرة عامة، وسوف نستشهد بمثال صارخ أولاً، ثم ننتقل إلى إثبات أن ذلك هو ظاهرة عامة في حياتنا، وإن كان بأشكال مخففّة أو بأنماط أخرى:

 

الملك خوارزم شاه واهماله لاهله ورعيته

عندما هاجم المغول بلاد المسلمين: إيران والعراق وغيرها، حيث كان يحكمها خوارزم شاه، وجرت معارك بينهما، انهزم على أثرها الملك خوارزم شاه، وفر الى نيشابور، وكان من عادة المغول المتوحشين أنهم يقتلون الناس، ويحرقون الأرض ويفسدون فيها أكبر الافساد([10])، فكان يفترض بالملك أن يجهز الجيوش في نيشابور لمهاجمة المغول، ولكنه انشغل باللهو والطرب والمجون، حتى أن وزيره في نيشابور عندما جاءه أهلها يشكون إليه الظلم والحيف، قال لهم: إن الملك كلفني بتزيين النساء المطربات على مدار الأيام والليالي ولا يوجد لي وقت للنظر في أموركم وظلاماتكم!!

الى أن وصل الزحف المغولي الى نيشابور، فهرب خوارزم شاه الى منطقة (بركان)، ووضع أهله وأولاده في قلعة فيها تسمى (إقلال)، وهرب هو الى جزيرة نائية... ثم جاء المغول الى بركان وحاصروا القلعة، ثم فتحوها وقتلوا كل أبناء الملك، وقسموا زوجاته وبناته على قادة الجيش، ثم عمدوا الى أمه فأركبوها على فرس، وطافوا بها على الجيش، وأمروها أن تبكي بصوت عال، على ما حل بأهلها وأبنائها، فلما وصله الخبر وهو مختبئ في جزيرته مات كمداً وحزناً وهماً.

وهذا نموذج من الكثير من النماذج التي حكمت بلاد المسلمين من الظالمين والطواغيت، كبني أمية وبني العباس وبني عثمان وغيرهم، حيث ضيعوا حقوق رعيتهم، وانشغلوا باللهو والمجون وملذات الدنيا، ثم فارقوها الى حيث الخسران الأكبر والهلاك الأبدي الدائم.

 

هل هذه قصة الطغاة أم قصتنا؟

ولكن هل هذه مجرد قصص تاريخية عن الملوك والسلاطين الذين أهملوا واجباتهم وحقوق رعيتهم؟ أم كل قصة منها مرآة لأنفسنا كلٌ بقدره وعلى حسب حجمه؟ علينا أن نتوقف عند كل قصة لتقييم أنفسنا ومدى إهمالنا، على حسب ما أوتينا من قدرة، لأهل ملتنا إذ الملاك واحد في الجميع، مادام طبيعيّ المسؤولية واحداً، على ضوء كلمة الامام زين العابدين وسيد الساجدين (عليه السلام) حيث يقول: ((وَحَقُّ أَهْلِ مِلَّتِكَ إِضْمَارُ السَّلَامَةِ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالرِّفْقُ بِمُسِيئِهِمْ وَتَأَلُّفُهُمْ وَاسْتِصْلَاحُهُمْ وَشُكْرُ مُحْسِنِهِمْ وَكَفُّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَتُحِبُّ لَهُمْ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ وَتَكْرَهُ لَهُمْ مَا تَكْرَهُ لِنَفْسِك‏))

إن المشهود أن كثيراً منا يهمل وينسى أو يتجاهل ما يقع من الظلامات على أهل الإسلام في البحرين او في فلسطين او في الدمام والعوامية أو غير ذلك من بلاد المسلمين، حيث القتل والسجون والتهجير وغمط الحقوق وسلب الحريات، وسائر أنواع الظلم والظلامات، بل إن الكثير منا لا يستشعر حتى مجرد الإحساس بالألم لما يعانيه أهل ملتنا في أرجاء الأرض.

 

الإمام السجاد (عليه السلام) يرسم لنا أسس علاقتنا بكل أهل ملتنا

إن كلام الإمام السجاد (عليه السلام) صريح في المسؤولية التي على عنق الجميع وهي: ((...وأن تحب لهم ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك...))، وفي نسخة أخرى يقول الإمام (عليه السلام): ((... فعمّهم جميعا بدعوتك...))، أي أن ندعو لجميع المسلمين في كل بقاع الأرض بالصلاح والهداية والرشاد والأمن والاستقرار والازدهار وغير ذلك.

((... وانصرهم جميعا بنصرتك...))، وهذا نص في وجوب نصرة جميع أهل الملة، وليس ظاهراً، وهو واجب كفائي لم يقم به من فيه الكفاية، فقد أثم الجميع من القادرين على ذلك: ((... وانزلهم جميعا منازلهم، كبيرهم بمنزلة الوالد، وصغيرهم بمنزلة الولد، وأوسطهم بمنزلة الأخ...))

فهل نجد هذا الإحساس في دخيلة أنفسنا؟ وهل إذا ما رأينا زائراً قادماً من الباكستان أو الحجاز واليمن أو مصر وتونس والمغرب أو إيران وأفغانستان والخليج أو الشرق أو الغرب أو غير ذلك، وهو أكبر منا سِنّاً، هل نستشعر إنه بمنزلة والدنا؟!

إننا لو امتثلنا وصية إمامنا السجاد (عليه السلام)، في خصوص حقوق أهل الإسلام علينا، فسوف تعود لنا السيادة والريادة في كل شيء، وإلا فسنبقى في ذيل القافلة، وسوف يستمر مسلسل سحق حقوقنا في كل الأبعاد، وسيصادر الغرب والشرق حتى تاريخنا ومجدنا وإنجازاتنا وحقوقنا على البشرية، وسنشير ههنا إلى مثال واحد من بين عشرات الألوف من الأمثلة.

 

نموذج صارخ من إجحاف الآخرين بفضل آل البيت (عليهم السلام) على البشرية

 

تاريخ ولادة حقوق الإنسان

يقول صاحب معجم تاريخ العلوم الإنسانية:

(يمكننا رد تاريخ ولادة حقوق الإنسان الى عريضة الحقوق الموقعة في بريطانيا الكبرى عام 1628م والتي أكدت الحقوق التقليدية للشعب الإنجليزي)([11]).

وهنا نقول: أين عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر، وهو والذي يعتبر أعظم وثيقة لحقوق الإنسان؟ وكيف تُردّ ولادة تاريخ حقوق الإنسان الى ما كتبه الإنجليز في القرن التاسع عشر، وقد سبقهم الإمام علي بن أبي طالب بأكثر من عشرة قرون الى ذلك؟

ما ذلك إلا لتقصيرنا في نشر رسائل الحقوق الإسلامية التي كتبها أهل البيت بأيديهم، وأمروا المسلمين باتباعها ونشرها والترويج لها في كل العالم، فلقد كتب الإمام علي (عليه السلام) عهده الى مالك الأشتر، وكذلك رسالته الى ولده محمد بن الحنفية المعروفة، كما كتب الإمام زين العابدين (عليه السلام) رسالته في الحقوق الى جميع المسلمين، لكن العالم الاسلامي منشغل بقول مسلمة الفتح وغيره، ممن لا يحسنون الوضوء، والذين رفعوهم الى مستوى رسول الله (صلى الله عليه وآله) واعتبروهم أفضل الناس بعد رسول الله!!

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): ((الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق))، وقد كان الأمير (عليه السلام) حاكماً وقد طبق ذلك كله.

 

حقوق الطفل

ثم يقول صاحب المعجم:

"ففي العشرين من تشرين الثاني عام 1989م، تنبنت منظمة الأمم المتحدة الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل، ولأول مرة ظهر نص عالمي له قيمة قضائية يعترف للطفل بحقوقه".

في حين إن الإسلام سبقهم الى ذلك، فقد ورد في الرواية المعتبرة: ((رفع القلم عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه))([12])، ولهذه الرواية وهذا الحكم أكبر القيمة القضائية، وإن الألوف من الفروع الفقهية الإسلامية رتبت عليها، وقد حكمت على طبقها البلاد الإسلامية لفترات طويلة.

كما أن هناك رواية اخرى: ((...عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَة...))([13])، وهو نص حقوقي قانوني عام.

كما أن الامام السجاد (عليه السلام) في رسالته الحقوقية يقول: ((وَحَقُّ الصَّغِيرِ رَحْمَتُهُ فِي تَعْلِيمِهِ وَالْعَفْوُ عَنْهُ، وَالسَّتْرُ عَلَيْهِ، وَالرِّفْقُ بِهِ وَالْمَعُونَةُ لَهُ))([14])، وهذا يفوق ما يدّعونه من حقوق للطفل في عالم اليوم، وكل كلمة من كلمات الإمام (عليه السلام) توزن بجبال من الذهب تفوق عليها، لكن المجال قصير لا يسمح بدراستها والتدبر فيها واستنباط الدروس والقيم والمسائل منها.

 

حقوق الشعوب

ثم يتابع صاحب المعجم، ويذكر حقوق الشعوب والأقليات فيقول: "تعود فكرة حق الشعوب الى القرن الأخير، وقد وجدت روحا جديدة لها في مؤتمر باندونغ في اندنوسيا عام 1955م..."

وهذا الكلام كسوابقه، أما كذب مقصود أو جهل فاضح؛ لأن القرآن الكريم يذكر حقوق الشعوب والقبائل، وقد فصلنا ذلك في كتاب (الخط الفاصل بين الحضارات والأديان) انطلاقا من قوله تعالى في سورة الكافرون: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)([15])، وقد أوضحنا بالتفصيل إن هذه الآية الشريفة يستفاد منها قاعدة الإمضاء والتي هي فوق قاعدة الإلزام لمن يعرف هذه القواعد، وهذا حق كبير فصلنا الكلام عنه هنالك.

كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): ((لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم...))([16])، وهذا حق من أعظم حق الشعوب، وقد صرح به الأمير صلوات الله عليه قبل أكثر من ألف عام.

وهناك المئات من النصوص بهذا الصدد، ولو تدبر المنصفون فيها، ونطق بها القائمون على الإسلام، ورفعوا أصواتهم عالياً ووحدوا مواقفهم وجهودهم لتغيرت المعادلات.

إن هذه الحقوق كنا نحن السباقين لها، وقد ذكرت في أصح مصادرنا من القرآن الكريم الى نهج البلاغة الى رسالة الحقوق الى سائر أحاديث أهل البيت، لكن الذي يؤسف له هو أن المسلمين تركوا ما في أيديهم، من جواهر المعاني ولباب الأفكار وتشريعات الحقوق، وانصاعوا الى ما يلقيه عليهم الغرب الذي نمّق وزوق بعض المبادئ، وصاغ منها تشريعات، حتى اعتبروه أول من أسس ورسخ حقوق الإنسان في العالم.

 

الرابط بين أكل الطيبات والعمل الصالح

تقول الآية (أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)، وهنا نتساءل: ماهو الربط بين أكل الطيبات والعمل الصالح؟

والجواب: هناك عدة وجوه محتملة لذلك نذكر منها اثنين:

1) إن الرسل – ومن ثم المؤمن المتأسي بهم – يأكلون الطيبات ليتقووا بها على العمل الصالح؛ أما الكافر فإنه يأكل الطعام للتقوي على المعصية أو على أقل الفروض للشهوة، في حين أن المؤمن يأكله ليتقوى به على العبادة والعلم والعمل.

2) إن الطيبات في مقابلها تأتي الخبائث، فإذا ما أكل الإنسان الخبائث وهي محرمة، فإن لذلك أثراً وضعياً على توفيق الإنسان، إذ يسلب توفيقه عن أن يعمل الصالحات، وهكذا الشبهات وطعام السوق، فإنه وإن كانت أصالة الحل جارية، لكن الطعام لو كان واقعاً غير مذبوح على الطريقة الإسلامية، فإن له أثراً وضعياً، فقد لا يوفق لصلاة الليل أو غيرها من العبادات أو قد يرتكب المعاصي والموبقات أعاذنا الله وإياكم منها ورزقنا الله وإياكم تقوى القلب وصالح العمل إنه سميع الدعاء.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين

........................................................................................

 ([1]) المؤمنون 51ـ 52

([2]) الحجرات 13

([3]) كالدفاع عن العشيرة إزاء الهجوم الخارجي.

([4]) كما جاء في التبيان للشيخ الطوسي.

([5]) القصص 23.

([6]) إذ ظاهر الأمة هو الجماعة ذات المقصد الواحد لا نفس المقصد أو الدين والطريقة.

([7]) الميزان في تفسير القرآن.

([8]) المؤمنون 52.

([9]) ال عمران 19

([10]) لولا بركة وجود الشيخ نصير الدين الطوسي رحمه الله تعالى الذي وقف بحكمته وفطنته وحسن تدبيره بوجه المد المغولي حتى حوّل المغول الى مسلمين موحدين لدمّر المغول كافة البلاد الإسلامية ولقتلوا مئات الألوف من العلماء الدينيين والزمنيين حيث انقذ نصير الدين الطوسي أربعمائة ألف عالم تحت ستار (رصد خانه مراغه), وبعض جهلة العامة يتعرضون الى رشق الشيخ الطوسي بالتهم الباطلة مع انه ذو فضل على جميع مسلمي العالم ولولاه لكان الدين الاسلامي على خطر كبير الى يومنا هذا.

([11]) معجم العلوم الإنسانية / مادة حقوق الإنسان ص354.

([12]) عوالي اللآلي ج3 ص528.

([13]) وسائل الشيعة ج29 ص88.

([14]) من لا يحضره الفقيه ج2 ص625.

([15]) الكافرون 6.

([16]) إرشاد القلوب ج2 ص212، وبحار الأنوار ج30 ص672.

مؤسسة التقى الثقافية

المحاضرات / دروس في التفسير / النجف الأشرف

188- حقوق المسلمين في رسالة الامام زين العابدين (عليه السلام)

تاريخ إلقاء المحاضرة: الأربعاء /5/ شعبان/ 1435هــ‎

تحرير: موقع الإمام الشيرازي

1/شهر رمضان/1435