![]() |
![]() |
الرأي العام والإعلام |
||
المجتمعات تهتم كثيراً بإستكشاف إتجاهات الرأي العام للإقتراب من معرفة ملامح المستقبل أو لإعادة صياغة الرأي العام عند صناعة القرارات أو رسم خطط المستقبل، وقديماً كان صنع الرأي العام يتمّ عن طريق الخطب والحوارات المختلفة والإجتماعات. هناك بعض الإختلاف في تعريف الرأي العام بين القدماء والمعاصرين لكن الإختلاف الأكبر في مدى كفاءته وصوابيته، وبالتالي في نسبة الإلتزام به والتعريف بالمجال المـُلزِم من غير المـُلزِم بالرغم من الإجماع على أهميته. كان البعض يشكك في الكفاءة التشخيصية للجماهير لذلك إجتهد المفكرون قبل أرسطو وبعده للتمييز بين المجالات التي يكون للرأي العام فيها فعالية وكفاءة وبالتالي صوابية، ومازال هذا البحث مستمراً ويجير في الحرب النفسية وتشويه المعلومات بين هذه الجهة وتلك .
مـن ْ يـصـنـع الرأي العام ؟ Public Opinion Making هناك صنـّاع للسياسات وقادة بارزون للرأي العام يعملون على التأثير في تبلور الرأي العام بأشكاله المحلية والإقليمية والعالمية لتخديم تلك السياسات ونصرتها لأنّ للرأي العام سلطة ، ويمكن عدم تنويره أوتضليله أو إلهاءه أو تخديره لحين لكن لا يمكن تجاهله طويلا، ولذلك ولضمان التغذية العكسية هناك جهات كثيرة لقياس الرأي العام ونظريات عديدة للتأثير فيه منها ما يعتمد على العقل، ومنها ما يعتمد على العاطفة والخطاب العاطفي السياسي أو الديني أو... الـخ، ومنها ما يمزج بين الاثنين، وفي هذا المجال يبدو ان الإمام الشيرازي الراحل (أعلى الله درجاته) لإنتاج الرأي العام السليم يذهب الى الجمع بين العقل والعاطفة بصورة متوازية ومتوازنة وحسب المخاطبين ورسالة الخطاب وموضوعه حيث يقول ما نصه : (إستخدام الكلمات والإشارات في الخطابات والأعمال التي تتسم بالعاطفة لها موضعها، لكنها ضارة حينما نحاول التفكير بوضوح في موضوع يدور حوله الجدل، كالفقه والأصول والأدبيات والفلسفة والسياسة والاجتماع والاقتصاد وما أشبه ذلك، وإنّما جاز في الشعر ما لا يجوز في غيره، وجاز في غيره ما لا يجوز في الشعر؛ لأنّ في الشعر كبعض أنواع النثر الذي هو بمنزلته في إثارة العواطف كقول المنطقيين في التخييل. وكيفما كان: فالمقصود الآن من كلام العقل والعاطفة أنّ هذين الأمرين صانعان للرأي العام، لأنّ الرأي العام إنّما يؤخذ من العقل والعاطفة معاً، فإذا استعمل العقل في موضعه في ألوف المواقع، واستعملت العاطفة في موضعها في ألوف المواقع تكونّان الرأي العام الصحيح، أمّا إذا زاد أحدهما على الآخر كان فيه الخبال والانحراف، فالواضح أنّه كلما تقدّم العمر وكثرت التجارب ونضجت كفاءات الإنسان، أصبح أقل عاطفة وأكثر تعقّلاً، ولذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (رأي الشيخ أحب إليّ من جَلَد الغلام) ، فمواقف الشباب ومكوناتها العاطفية تتكرس بسبب التجارب والنضج والتقدّم، ولذا نرى الفرق الكبير بين الشباب والشيوخ في مختلف المواقف، مثل الرغبة في الأمن وحبّ المال وإسقاط الامتيازات الطبقية والعنف في حلّ المنازعات والتعصّب العنصري وغير ذلك، فالشباب أكثر حدّة ونشاطاً واندفاعاً في هذا الأمور من الشيوخ الذين أنضجتهم التجارب. )* وذلك في الفصل الأول من كتاب: الرأي العام والإعلام – الإمام الشيرازي الراحل (أعلى الله درجاته) – الصفحة 66- 67، والذي يتطرق فيه الى تعريف الرأي العام وبيان أهميته، أقسامه، عناصره، سياقه التاريخي، قواعده سلوكياته، قداسته، علاقته بالبيئة والعقل والإدراك والمواقف والطابور الخامس ومظاهره والأسس المنهجية للاستطلاع ووظائفه والعلاقة بين الرأي العام والقرار والتنبؤ . وللعلاقة الوثيقة والتأثير والتأثر المتبادل بين الرأي العام والإعلام ودوره المتنامي ترى الفصل الثاني مخصصاً للإعلام وفيه : الإعلام ومراحل تطوره، الإعلام والمستقبل ويتناول كونه ضرورة إصلاحية إضافة الى وسائل التبليغ والعلاقات العامة وعناصر الإتصال نواقص الإعلام الإسلامي ومهامه حيث يتسائل سماحته : (هل ساهم الإعلام الديني في إزالة الديكتاتورية من بلاد الإسلام ؟ فإذا ساهم فأين؟ وإذا لم يساهم فلماذا لم يساهم؟ مع أنّ الدين هو المشورة؛ كما ورد في أحاديث كثيرة تناهز المئتين بعد إعلان القرآن الكريم؛ حيث ورد لفظ الشورى في ثلاث آيات وحيث وردت الشورى في المعنى في عدد من الآيات منها في قصّة سبأ؛ حيث قالت بلقيس: ( قَالَتْ يَأَيّهَا الْمَلَؤا إِنّيَ أُلْقِيَ إِلَيّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَـَنِ الرّحِيمِ* أَلاّ تَعْلُواْ عَلَيّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَتْ يَأَيّهَا الْمَلَؤا أَفْتُونِي فِيَ أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتّىَ تَشْهَدُونِ* قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوَاْ أَعِزّةَ أَهْلِهَآ أَذِلّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ) وفي الفصل الثالث نجد بحوثاً عديدة ومنوعة في الشائعة وعلاقة الإشاعة وعلاقتها بالكذب والعديد من العناوين الهامة الأخرى في هذا المجال ومما في هذا الفصل : (وأحياناً تصل الشائعات لتعبّر عن المشاعر الجارية كالبغض ودوافع العدوان؛ حيث إنَّ النفس في هذه الأحوال تميل إلى الشائعة، وهي تنتقل كالنار في الهشيم من إنسان إلى إنسان آخر سواء كانت الإشاعة بسبب الفكاهة والنكتة أو حبّ الظهور أو ملء العاطفة وقد حفّ التاريخ الإسلامي بشائعات كثيرة، منها: حرب الأعصاب التي مارسها المشركون في معركة أُحد حيث أشيع قتل النبي (ص)، وقد ساهم ضعاف المسلمين في نشر هذه الإشاعة وكذلك في قصّة «الإفك»؛ حيث أشيع بين الناس اتّهام زوجة الرسول الأكرم (ص) مارية القبطية، وقد عرفت الجيوش من قديم الزمان هذا اللون من الشائعات، وكان قوّاد جنكيز خان قد استخدموا الشائعة لإظهار قواهم وإرهاب أعدائهم، وكانوا يبعثون بالجواسيس للعمل في مراكز حسّاسة في قوّات العدو، حيث كانوا يشيعون بأنّ جيش جنكيز خان كالجراد لا يمكن إحصاء عدد قوّاته.) والفصل الرابع والأخير خصص للدعاية، أقسامها، مكوناتها ابعادها واثر العامل الديني فيها، الدعاية من حيث المخاطب، وشروط الدعاية الصحيحة والكثير من التفريعات الأخرى، وفيه يقول سماحته : ( اللازم في الدعاية الهجومية أو الدعاية الدفاعية أن توضع تحت نظر علماء الاجتماع وعلماء النفس ومن أشبه حتّى تكون مؤثّرة الأثر المطلوب سواء كان هدفه حرباً نفسية أو سياسية أو دبلوماسية أو اقتصادية أو اجتماعية وما أشبه ذلك . ثمّ إن الدعاية قد تكون دينية، بمعنى أنّها تستهدف الروح والاعتقاد والعقل وما أشبه ذلك. وقد تكون دنيوية، بمعنى أنها تستهدف أمور الدنيا ممّا يرتبط بالجسم من المآكل والمشارب والمناكح والمراكب والمساكن ونحوها. وأقوى الدعايتين هي الدعاية الدينية؛ لأنّ الدين يتعلّق بالقلوب، وتنطلق الإشاعة الدينية ضدّ الحكّام الذين يتظاهرون بالدين - والدين منهم براء ـ، أولا يتظاهرون بالدين؛ إذ طبع أتاتورك عشرة آلاف قسم من الكتب ضد الخلافة العثمانية ممّا أثّرت أثرها الكبير إلى اليوم. ولاشكّ في أنّ الحق مع بعض الكتب المضادة للخلافة العثمانية؛ حيث أنَّ الخلفاء العثمانيين انغمسوا في الملذات والشهوات وحاربوا الناس في كلّ جانب من جوانب الحياة، لكن الدعايات كانت أكبر من ذلك بكثير وسبّبت تلك الدعايات سقوطها. ) اسئلة كثيرة وعديدة تتبادر الى الذهن عند التأمل الى دور ومكانة الرأي العام والكتاب يؤسس للإجابة عليها ومنها : ما هو دور الرأي العام في صياغة القوانين و صناعة القرار؟ ما هو دور الرأي العام في إتخاذ القرار؟ هل دوره ينحصر في صناعة القرار؟ هل الرأي العام من المصادر الاساسية للتشريع اولصياغة القوانين او القرارات؟ هل هناك رأي عام واقعي واخر ظاهري؟ هل هناك رأي عام سليم واخر سقيم ؟ ما هي سمات الرأي العام ؟ وما هي محددات التأثير بالرأي العام والتأثير فيه ؟ هل الرأي العام من إنتاج الدعاية او الإعلام او التبليغ او نشاطات مؤسسات المجتمع المدني ؟ ما هو فرق بين الإعلام والتبليغ من جهة، وبين الإعلام والدعاية من جهة ثانية، وبين الدعاية والتبليغ من جهة ثالثة ؟ هل جميع انواع الدعاية مرفوضة ؟ ما هو المعيار للتمييز بين الدعاية المشروعة وغير المشروعة ؟ ومما تجدر الإشارة إليه أن البعض يطلق على الرأي العام أسم صوت الشعب أو الإرادة الجماهيرية أو موقف الرعية أو السواد الأعظم أو أغلبية الناس أو أكثرية الناس ولا تطابق بين هذه المفردات لكنها تشير الى جانب من مفهوم الرأي العام . وكما تقدم فليس هناك من ينكر أهمية الرأي العام ودوره لكن الإختلاف يكمن في حجم الدور وكيفية التعامل معه وسبل ترشيده وتجنيده لصالح الأولويات والاستراتيجيات والتي يجب أن تكون قد رسمت في ضوء المعتقدات والعادات والتقاليد والأعراف والإعلام والدعاية وما نحو ذلك مما يساهم في بلورة الرأي العام، وكما قال سبرينجير: الرأي العام فم الشعب وأذن الحاكم. في عصر ثورة الفضائيات والذي بات يعرف بحقبة الحقنة تحت الجلد في التأثير والإتصال، والظروف المعقدة التي نعيشها لابد من مراجعة كاملة وشاملة لجميع نشاطاتنا في الإعلام والدعاية والإعلان والتواصل والإتصال . |