حجٌ وأجواءٌ إيجابيّة |
يحلّ موسم الحج لهذا العام والعالم الإسلامي يعيش أجواء أخوية هادئة وطيبة، والعلاقات بين المجتمعات المسلمة تبدو بحال أفضل. مؤشرات عدة تبين أن الأجواء أكثر قربًا _من سنوات سابقة_ إلى التسامح والتعايش والتّوادّ والتعاون على البر وخير الجميع، وبعيدة عن التوتر والتشنج والتعصب والعنف، في الوقت نفسه، هناك أفكار وتوجهات ونشاطات تنمو باتجاه الاستجابة العاجلة لإصلاح حقيقي يبدأ بمعالجة جذور وأسباب المشاكل التي تعاني منها المجتمعات المسلمة منذ عشرات السنين وأكثر. بالتالي، فإن تحسين الواقع _ولو تدريجيًا_ بات من الأولويات، وهذا تطور نوعي مهم بعد مرحلة متخمة بروح العداء والكراهية والانتقام وإراقة الدماء. وإن موسم الحج لهذا العام الذي يأتي في هذه الأجواء سيكون عاملاً فاعلاً؛ إن شاء الله تعالى، في ترسيخ هذه الروح الإيجابية إلى ما هو أحسن وأفضل للمسلمين والبشرية جمعاء. إن الحج الذي هو (للإسلام علمًا) كما يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن الله تعالى جعله (تشييداً للدين) كما تقول بنت النبي وسيدة نساء العالمين (عليها السلام) فإنما لما لهذه الفريضة من جانب إيماني وجانب اجتماعي، حيث يتوجه الحجيج _كما يتوجه المسلمون_ إلى البارئ والخالق العظيم، وحده لا شريك له، يستغفرون له سبحانه عن ذنوب جنتها أنفسهم في أيام مضت، ويعلنون التوبة وعدم العودة إلى الخطأ والزلل في الأيام القادمة. وهنا يكون المسلم في وضع معنوي يحفزه على التغيير والإصلاح ونبذ الماضي الملوث بهفوات وآثام وأخطاء، والعزم على أن يكون هو بحال أفضل، وأن يكون مجتمعه بحال أفضل، وأن يكون العالم بحال أفضل. وهذا يجسد عملية متكاملة لبناء الفرد والمجتمع وأيضًا تشييد للدين وإعلاء كلمة الإسلام؛ قيمًا ومبادئ؛ لا شكلاً ومظاهر فقط. والجانب الآخر للحج، هو الجانب الاجتماعي، فإن الإنسان بفطرته مدنيّ الطبع، تميل نفسه إلى الاجتماع والتآلف مع الآخرين، وهذا هو من أسباب قيام المدنية ونشوء المدن وتكون المجتمعات. وهذا الميل يعبر عن ميول فطرية موجودة في الإنسان، فإن التوطّن ضمن مجموعة من الناس، والميل إلى العيش بينهم هو سلوك تلقائي، وهو مما يشبع به غريزة الاجتماع والتآلف؛ كما تكوين الأسرة صورة من صور الحاجة والرغبة بالاجتماع بالآخرين التي يُفتَرض أن تدفع المسلمين إلى تبني أفكار وسلوكيات تجعلهم (يألفون ويُؤلفون). يقول المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده): "أكدت الشريعة على الاجتماع، وخير نموذج لذلك هو شعائر الحج، وصلاة الجماعة، والروايات التي تبين استحباب السفر مع الآخرين، وغيرها من الموارد التي تحث على الاجتماع أو الاشتراك مع الجماعة المؤمنة. وليس هذا مقتصراً على الإنسان فحسب، بل يبدو واضحاً في السلوك الجمعي لدى الحيوانات أيضاً، إذ إن الهجرة الجماعيّة للطيور مثلاً، مسألة تمثل نموذجاً عالي الانسجام من نماذج الفعالية الجمعية، ونجد الأمر نفسه في تجمعات النمل والنحل وغيرها، وكل ذلك برهان عقلي على أهمية الحياة الاجتماعية وضرورتها. إذن، مسألة الاجتماع من أساسيات بقاء ودوام المخلوقات وعلى رأسها الإنسان". ثم يقول(قده): "الحج يمثل أرقى وأشرف تجمع للإنسانية لما يتضمنه من فوائد ومنافع روحية، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة (ويذكروا اسم الله) الحج/28، وهذا الذكر ينمّي في الإنسان روح التعاون والمحبة". عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حبيب الخثعمي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أفاضلكم أحسنكم أخلاقا الموطؤون أكنافًا الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم)(الكافي، الكليني، ج٢، ص١٠٢). وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين: (المؤمن مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)(الكافي، الكليني، ج٢، ص١٠٢). أي إن الإسلام يريد أن يكون المسلمون (موطؤون أكنافًا) أي من أهل عشرة لينة وطيبة، يعفون على من أساء إليهم، ويصفحون ويتسامحون مع من أخطأ بحقهم؛ بقصد أو بدونه. كما يريد الإسلام أن يكون المسلمون (يألفون ويؤلفون) أي من الذين يأنس الناس بهم، ويحبون ملاقاتهم، ولا يتوقعون إلا الخير والفضل والإحسان منهم. مع موسم الحج لهذا العام، حريّ الاعتبار بما وقع في سنوات قريبة، حيث شهد عموم المسلمين أحداثًا مؤلمة، فقد توالت ألف مصيبة ومصيبة عليهم وتواترتْ؛ فأيتمتْ، وأثكلتْ، وأفقرتْ، وضيّعتْ، وهجّرتْ، وخرّبتْ، ثم أدمتْ وأوجعتْ حتى كسرتْ. وجديرٌ بالمسلمين جميعًا اليوم نبذ كل ما قد يخلق توتراً أو يثير لغطًا، والتسامي على كل ما قد يسيء إلى العلاقات بين المسلمين (حكومات ومجتمعات)، والارتكاز إلى الكلمة الطيبة وتنمية التعاون بين الشعوب المسلمة من أجل بناء حياة خالية من المشاكل. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، على حكومات المسلمين تقليص مسببات الجفاء والعداء والصراع، وهذا إنما يكون بعدم تدخل دولة في شؤون أخرى، واحترام خصوصية كل بلد وتطلعات شعبه وطريقة عيشه، وإنشغال كل حكومة بهموم شعبها، وصولاً إلى التعاون بين الحكومات من أجل خير المسلمين جميعًا، بل ومن أجل خير البشرية جميعًا، فما جاء نبي الإسلام إلا (رحمة للعالمين) الأنبياء/107. ------------------- إضاءة يقول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): (ما أوسع العدل، إنّ الناس يستغنون إذا عُدِلَ بينهم، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركتها بإذن الله تعالى)(الكافي، ج3، ص568). |