مفتاح توفيق الإنسان بيده

 

تحدث سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) إلى جمع من مسؤولي وأساتذة وطلبة مدرسة الإمام الكاظم صلوات الله عليه العلمية الدينية من مدينة النجف الأشرف قائلاً: يقول الله (عزّ وجلّ): (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) سورة النجم: الآية39. النفي والاستثناء من أدوات الحصر، أي لا يوجد غيرها، وإن كان الحصر إضافياً، لأنّ هناك مثل هذا الحصر أيضاً، ويضم ذاك إلى هذا. ومن النفي والاستثناء أيضاً، قوله تعالى: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) سورة الفرقان: الآية 77، فعلى الإنسان الدعاء والسعي.

وأوضح سماحته: أحد معاني السعي في اللغة العربية الركض، مثل قوله (عز وجل): (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى) سورة القصص: الآية20 ، أي جاء يمشي بسرعة وليس بهدوء أي يركض. ومن السعي هي الهرولة في الحجّ والعمرة.

وقال سماحته: إنّ كبار العلماء الماضين، منذ ألف سنة وأكثر وإلى هذا اليوم، وخصوصاً الذين كانوا في النجف الأشرف، كانوا مثلكم شباباً، وبتوجّههم إلى الله (عزّ وجلّ) وأهل البيت (عليهم السلام)، أولاً، وثانياً بسعيهم، وفّقوا، ومنهم صاحب الجواهر، والشيخ الأنصاري، والمحقّق الأردبيلي، وقبله العلاّمة الحلّي، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي رضوان الله تعالى عليهم جميعاً. وأي واحد منكم إذا أراد أن يكون مثل اولئك الماضين، فإنّ مفتاح توفيقه بيده هو، وخصوصاً الشباب، وإلاّ فسيكون التوفيق قليلاً للإنسان.

وقال سماحته: كتب السيّد محسن الأمين العاملي في كتابه (أعيان الشيعة) عن أستاذه الآخوند: ذات يوم قمت مع أحد الزملاء بعدّ عدد تلاميذ الآخوند فكانوا ألفاً ومئتين طالب، وكان هذا العدد من الطلبة ليوم واحد، وليس لطول السنة. ويمضي الآن أكثر من قرن على الآخوند، ولكن لا تجد ذكراً ولا حتى اسماً لهذا العدد الكبير من تلامذته سوى القليل منهم، مثل الميرزا النائيني، والشيخ العراقي، والشيخ الأصفهاني، والسيّد البروجردي، والسيّد القمّي. إنّ اولئك الطلبة، أجرهم محفوظ عند الله تعالى، ولكن لم يصل الكثير منهم إلى مستوى وما وصل إليه الآخوند، الذي يُستفاد من كتبه ومؤلّفاته في الحوزات العلمية إلى اليوم وبالأخص في بحوث الخارج. وهكذا صار الشيخ المفيد، فبعد ألف سنة، لازال اسمه موجود وكتبه، وهكذا الشيخ الصدوق.

وقال سماحته: إن شاء الله، عمركم طويل وفي خير وعافية، فحاولوا أن تكونوا ممن يُذكر اسمهم ويبقى ذكرهم، وهذا يرجع إلى مدى سعيكم، وعمدة هذا الأمر، كلمتان، هما:

الأولى: التعبئة العلمية. أي انشغلوا، ليلاً ونهاراً، بمقدّمات علوم أهل البيت (عليهم السلام)، وبعدها بعلومهم (عليهم السلام)، ويعني بالدرس والتدريس والمباحثة والمطالعة والكتابة والتأمّل.

أما الكلمة الثانية فهي: التقوى الحقيقية، وفي هذا الخصوص أذكر لكم قصّة أخرى عن الشيخ محسن خنفر (رضولن الله عليه)، تبيّن لكم التقوى الحقيقية، وهي:

مرض الشيخ محسن خنفر في أخريات حياته مرضاً أجلسه في البيت وألزمه الفراش، بحيث لم يستطع مزاولة شؤون المرجعية من التدريس، وتحقيق المسائل، والإجابة على الأسئلة الشرعية و...، وطال به المرض إلى أن توفي عام 1270هـ، وتوفي الشيخ صاحب الجواهر قبله بأربع سنوات أي عام 1266هـ، وفي الفترة ما بين وفاة صاحب الجواهر إلى وفاة الشيخ خنفر صارت المرجعية للمرحوم الشيخ مرتضى الأنصاري. ونقلوا أنه جيء للشيخ الأنصاري بكيس كبير مملوءاً بالليرات الذهبية وكان الكيس يسع لمائة كغم، وبدون أن يفتحه الشيخ الأنصاري قال: احملوه إلى الشيخ محسن خنفر. فأتوا به إلى الشيخ خنفر فقال: "ما هذا؟" قالوا: "الشيخ الأنصاري يبلّغكم السلام ويقول هذا لك". فسأل عما فيه؟ قالوا: "ليرات ذهبية". فجلس الشيخ خنفر وفتح الكيس وأخذ ليرة واحدة وكسر منها كسرة وأخذها وأرجع المتبقي منها في الكيس وقال: ارجعوا به إلى الشيخ الأنصاري، فهذا المقدار الذي أخذته يكفيني حالياً. وعندما أرجعوا الكيس إلى الشيخ الأنصاري قام بتوزيع ما فيه على الفقراء والأيتام وعلى المساجد والحسينيات وعلى مجالس أهل البيت (عليهم السلام) وعلى المشاريع الخيرية الأخرى. وبعد أيام توفي الشيخ خنفر، وتبيّن أنّ المقدار الذي أخذه من الليرة كانت حاجته وحاجة عائلته للأيام المتبقية من حياته.

وأضاف سماحته: يحاول الشيطان وبكل قوّة، أن يلوّث الإنسان، وبالخصوص الشباب، ولكن الله تعالى قد منح الإنسان قوّة، ويمكنه بالقوّة أن يكون أقوى من الشيطان. فالذين وفّقوا، كانوا أقوى من الشيطان، وهذا بحاجة إلى عزم وتصميم وإرادة. فحقاً إنّه ليبعث على التأسّف أن يمضي عمر الإنسان ولا يكون قد وصل إلى ما وصل إليه الشيخ الأنصاري وصاحب الجواهر، والشيخ محسن خنفر، فاهتموا بهذا الأمر، واعلموا بأنّ مفتاحه بيدكم أنتم.

وختم سماحته قائلاً: إنّ هاتين الكلمتين، أي التعبئة العلمية والتقوى الحقيقية، صعبة جدّاً، ولكن يمكن العمل بهما، والدليل هم الأعاظم الذين وفّقوا في التاريخ من العلماء الماضين.