الفهرس

فهرس الفصل الرابع

المؤلفات

 العلوم الاخرى

الصفحة الرئيسية

 

سياسة الدولة في عصر الخلفاء الأربعة من سنة 11 ـ 41هـ

المجتمع الإسلامي

قد رأيت أن العرب إنما كانوا يتفاضلون بالعصبية ويتفاخرون بالأنساب فلما جاء الإسلام كان في جملة ما بدّله من أحوالهم أنه جمع كلمتهم وصاروا يداً واحدة على اختلاف أنسابهم ومواطنهم. فجمعهم تحت راية واحدة باسم واحد هو (الإسلام) فقال النبي (صلّى الله عليه وآله): (المؤمنون أخوة)(1) وقال من خطبة ألقاها يوم فتح مكة: (يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء فالناس من آدم وآدم من تراب)(2) وقال من خطبة في حجة الوداع: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى)(3).

وعمر أول خليفة فضّل العرب وجعل لهم مزية على سواهم ومنع من سبيهم. وكان عمر لا يدع أحداً من العجم يدخل المدينة وكان كثير العناية بالمجتمع العربي. وكانت ديانة عرب العراق والشام النصرانية ولكنهم فرحوا بالمسلمين وكانوا ينصرونهم للعصبية العربية وليس للدين. وخصوصاً عرب العراق فإنهم حاربوا مع المسلمين ودلوهم على عورات الفرس.

السياحة في الأرض

حرّض عمر العرب على فتح الشام والعراق توسيعاً للمجتمع العربي وللاستعانة بها على الروم والفرس ولكنه لم يأذن لهم بفتح ما ورائهما إلا في السنة السابعة عشرة أو الثامنة عشرة وهو ما يعبرون عنه بالسياحة في الأرض. فكانوا يطلبون الفتح وقد طابت لهم الغنائم واستلذوا النصر فإذا استأذنوه في فتح بلد مما وراء ذلك لم يأذن لهم.

ولما فتح المسلمون الأهواز قال عمر: (ليت بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم) ومن هذا القبيل نهيه المسلمين عن اجتياز البحر. وكان إذا همَّ المسلمون بالنزول في بلد أو إنشاء معسكر في البلاد المفتوحة أوصاهم أن لا يقيموا في مكان يفصل بينه وبين المدينة ـ مركز الخلافة ـ ماء حتى إذا أراد أن يأتيهم أتاهم على راحلته مما يدل على رغبته في العصبية العربية على أن يكون مركزها في بلاد العرب. ومع ذلك فلما لم يرَ بداً من السياحة في الأرض أذن لقواده بالفتح ولكنه ظلّ على رأيه في القرشيين على الخصوص فحصرهم في المدينة ومنعهم من الخروج. فالعصبية التي أقامها الإسلام قامت على أساس الرابطة العربية أولاً ولذلك كان اللفظان مترادفين في ذلك الحين وخصوصاً عند الأمم التي خضعت لسلطان المسلمين فكانوا إذا قالوا (العرب) أرادوا المسلمين وبالعكس. ولفظ (طيبوتا) عند السريان يدل على العرب والمسلمين على السواء والفرق بين هذه الرابطة قبل الإسلام وبعده أن العرب كانوا في الجاهلية عصبيات عديدة تختلف باختلاف الأنساب فأصبحوا بالإسلام عصبية واحدة تجمعها كلمة العرب.

الطبقات الإسلامية

لما قام النبي (صلّى الله عليه وآله) بالدعوة الإسلامية احتاج إلى من يسمع دعوته وينصره فاجتمع حوله جماعة من قبيلته صدّقوه ونصروه وهاجر بعضهم إلى الحبشة وهاجر الآخرون إلى المدينة معه فعُرفوا (بالمهاجرين) وهم أقدم الطبقات الإسلامية. ولما جاء المدينة وأقام فيها نصره أهلها وآمنوا بدعوته فسماهم (الأنصار) وهم طبقة أخرى، والطبقتان معاً تُسميان (الصحابة) أي الذين صحبوا النبي (صلّى الله عليه وآله) أو عرفوه. على أن عصبية النسب لم تذهب بعد الإسلام ذهاباً تاماً ولكنها تحوّلت إلى وجهة دينية. وكان لكل من طبقات الصحابة المهاجرين والأنصار شأن خاص وحزب خاص ولاسيما في أيام بني أمية إذ ذهبت أبهة النبوة وعاد الناس إلى عصبية الجاهلية فاختصم المهاجرون والأنصار وتذكروا ما كان بين العدنانية والقحطانية من التفاخر ـ فالمهاجرون من العدنانية (مضر) والأنصار من القحطانية (الأوس والخزرج) ـ فعادوا إلى المنافسة. وكان الأنصار أهل المدينة من أشجع الناس وهم أهل الشورى يعقدون الإمامة وحكمهم جائز على الأمة وهم شيعة علي وسائر أهل البيت (عليهم السلام).

فلما قام معاوية يطلب الخلافة لنفسه كانوا من أقوى مقاوميه فكان رجاله يكرهونهم ويسعون في إذلالهم وكثيراً ما كانوا ينكرون عليهم هذا اللقب، يروى أن بعض الأنصار استأذنوا للدخول على معاوية إبان خلافته فدخل الحاجب وقال: (هل تأذن للأنصار؟) وكان عمرو بن العاص حاضراً فقال: (ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين؟ أردد الناس إلى أنسابهم).

الاستكثار بالتناسل

كان العرب في الجاهلية قليلو العدد بالقياس إلى ما صاروا عليه بعد الإسلام. فقد ذكر أن أكبر جيش اجتمع في الجاهلية لم يزد عدد رجاله على ثمانية آلاف رجل وهو جيش (يوم الصفقة) والذين تجندوا للإسلام وقاموا بنصرته كانوا في صدر الإسلام قليلين كما رأيت ومملكتهم الواسعة تحتاج إلى رجال فعمدوا إلى الاستكثار بالتناسل. فالمسلمون لما رأوا قلة عددهم وما وقع فيهم من السبايا الروميات والفارسيات والقبطيات استكثروا من أمهات الأولاد فضلاً عن الزوجات فكثر نسلهم ـ والترف يزيد الدولة في أولها قوة بكثرة النسل ـ . وتسابقوا إلى إحراز الجواري حتى أن بعضهم أحصن ثمانين امرأة معاً كالمغيرة بن شعبة فقد جمع في منزله أربع نسوة و76 أمة فلا غرابة إذا وُلد لأحدهم خمسون ولداً أو مائة ولد أو أكثر. ذكروا أنه وقع للأرض من صُلب المهلب 300 ولد وخلف عبد الرحمن بن الحكم الأموي 150 ذكراً و50 أنثى وخلف تميم بن المعز الفاطمي أكثر من مائة ذكر و60 أُنثى وكان لعمر بن الوليد تسعون ولداً منهم ستون يركبون الخيل. وُولد لابن سيرين 30 ولداً من امرأة و11 بنتاً.

انتشار المسلمين بالفتح والهجرة

كان العرب في الجاهلية محصورين في جزيرة العرب وما يجاورها من جزيرة العراق وضواحي الشام. فلما ظهر الإسلام اجتمعت كلمة العرب على نصرته ونهضوا للفتح وأوغلوا في البلاد وفتحوا الأمصار ولم يكن زجر عمر ليوقف تيارهم فساحوا في الأرض حتى نصبوا أعلامهم على ضفاف الكبخ شرقاً وشواطئ البحر الأطلسي غرباً وملأوا الأرض فتحاً ونصراً واحتلوا مدائن كسرى وقيصر وأقاموا في المدن وركنوا إلى الحضارة.

على أن انتشارهم في الأرض لم يكن بالفتح فقط ولكنهم تفرقوا أيضاً بالمهاجرة بأهلهم وخيامهم وأنعامهم التماساً لسعة العيش في البلاد العامرة من مملكتهم الجديدة. فقد جلت بطون من خزاعة إلى مصر والشام في صدر الإسلام لأن أرضهم أجدبت فمشوا يطلبون الغيث والمرعى وكذلك كانت تفعل العرب كلما أصابها جدب حتى كانت لهم أعوام خاصة يجلون بها إلى مصر والشام يسمونها أعوام الجلاء وكانوا يفعلون ذلك قبل الإسلام إذا أجدبت أرضهم يمموا وجوههم إلى العراق وفارس فيعطيهم الفرس التمر والشعير ولكنهم كانوا لا يقيمون هناك بل يرجعون إلى بلادهم خوفاً من الذل في سلطان دولة أعجمية. أما بعد الإسلام فكان المقام يطيب لهم في بلاد فتحها آباؤهم أو أعمامهم أو أخوالهم وغرسوا فيها أعلامهم وجعلوها فيئاً لهم. فكان الأمير أو الخليفة إذا تولى بلداً وخاف على سلطانه من أمير آخر ذي عصبية أخرى استقدم جماعة من قبيلته أو من ينتمي إليها بالحلف ونحوه يسكنهم في ضواحي بلده. وقد يكون الباعث على استقدامهم وتحضيرهم رغبة الأمير أو الخليفة في التخلص من شرهم كما فعل العزيز بالله الفاطمي ببني سليم وبني هلال وهما بطنان من مضر كانوا إلى زمن العزيز المذكور في القرن الرابع للهجرة لا يزالون أحياء ناجعة أهل بادية محلاتهم وراء الحجاز مما يلي نجد، بنو سليم من جهة المدينة وبنو هلال من جبل غزوان عند الطائف. فكانوا يطوفون رحلة الصيف والشتاء أطراف العراق والشام فيغيرون على الضواحي ويفسدون السابلة وربما أغار بنو سليم على الحُجّاج أيام الموسم بمكة وأيام الزيارة بالمدينة. ثم ظهر القرامطة فتحيز بنو سليم لهم وعاثوا في البلاد وقد عجز الخلفاء العباسيون عن قمعهم. فلما أفضت خلافة مصر إلى العزيز بالله الفاطمي كان القرامطة قد تغلبوا على الشام فانتزعها العزيز منهم وردهم إلى قراهم في البحرين ونقل أشياعهم من بني هلال وسليم وأنزلهم بالصعيد في العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك وكان لهم أضرار في البلاد، والخلفاء يدارونهم ويبحثون عن وسيلة يتخلصون بها منهم. فاتفق بعد سنين أن عامل الفاطميين في أفريقية شق عصا الطاعة وبايع الدولة العباسية وقطع اسم الخليفة الفاطمي من الخطبة والطراز والرايات فعظم الأمر على الخليفة بالقاهرة وهو يومئذ المنتصر بالله فأشار عليه وزيره الحسن بن علي أن يقرب إليه أحياء هلال وسليم المذكورين ويصطنع مشايخهم ويوليهم أعمال أفريقية ويرسلهم لاستلام أمورها فإذا فازوا كانت إحدى الحسنيين وإلا فإنه يتخلص من شرهم فبعث الخليفة وزيره إلى هذه الأحياء سنة 441هـ وحرضهم على الذهاب إلى المغرب وتملّكه ففرحوا وأجازوا النيل وساروا براً إلى برقة ففتحوها. ثم تبعهم غيرهم من بطون دياب وزغب طمعاً بالكسب وأصبحت أفريقية مقر هذه القبائل من ذلك الحين فاقتسموا البلاد فيما بينهم.

الرق في الإسلام

قلنا إن الاسترقاق عند عرب الجاهلية كان أكثره بالأسر أو الشراء وأما في الإسلام فأكثر الاسترقاق بالأسر وخصوصاً في أثناء الفتوح لكثرة من كان يقع في أيديهم من الأسرى. فإذا غلبوا جنداً أو فتحوا بلداً أسروا رجاله وسبوا نساءه وأطفاله واقتسموا الأسرى والسبايا والغنائم وهي كثيرة وربما زاد عدد الأسرى في المعركة الواحدة على عشرات الألوف فيختمون أعناقهم ويقتسمونهم على الأسهم وقد يصيب الفارس من العرب مائة أسير ومائة جارية في وقعة واحدة فيجتمع عند بعضهم بتوالي الأيام ألف عبد أو أكثر وهم عند الأمراء أكثر مما عند غيرهم وقد تزايدوا على الخصوص بعد عصر الخلفاء الأربعة. على أن عثمان كان عنده ألف عبد.

ومن مصادر الرقيق في الإسلام غير الأسر أن بعض العمال وخصوصاً في أفريقية وتركستان ومصر كانوا يؤدون بعض خراج أعمالهم من الرقيق وكان بعض أهل الذمة من البربر ونحوهم يقدمون بدل الجزية رقيقاً من أولادهم غير ما كان يقع في أيدي المسلمين من الرقيق الأصلي في جملة الغنائم.

أما أحكام الأسرى في الإسلام فالخليفة (أو من يقوم مقامه) مخير بين أربعة أشياء إما القتل وإما الاسترقاق وإما الفداء بمال وإما المن عليهم بغير فداء. فإن أسلموا سقط القتل وكان الخليفة على خياره في أحد الثلاثة الباقية فكانوا يتصرفون في ذلك على ما تقتضيه الأحوال. وكانوا يعتقون العبيد ترغيباً لهم في الجهاد كما فعل الجنيد بن عبد الرحمن المري صاحب خراسان بهشام بن عبد الملك في واقعة الشعب لما احتدم الوطيس وخاف الجنيد الفشل فصاح في العبيد: (أي عبد قاتل فهو حرّ) فقاتل العبيد قتالاً أعجب منه الناس وانهزم الأعداء وكثيراً ما كانوا يُرغِّبون العبيد في نصرة الإسلام وهم عند أعدائهم بأن يعدوهم بالعتق، كما فعل النبي (صلّى الله عليه وآله) يوم حصار الطائف إذ قال: (كل عبد نزل إليّ فهو حرّ). على أن الإسلام جاء رحمة للأرقاء فأوصى النبي (صلّى الله عليه وآله) بهم خيراً بقوله: (لا تحمِّلوا العبيد ما لا يطيقون وأطعموهم مما تأكلون)(4) وقال: (لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي)(5) وفي القرآن الكريم: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً)(6).

والإسلام من الجهة الأخرى يحرِّض العبيد على التقوى وحسن العبادة.

الموالي في الإسلام

والباقون في الأسر إذا اعتنقوا الإسلام نجوا من الرق غالباً إذ يغلب أن يعتقوهم مكافأة لهم ومن اعتنق منهم صار مولى ولذلك كان الموالي من المسلمين غير العرب يستنكفون من استرقاق المسلم ثم أطلقه بنو أمية على كل مسلم غير عربي فإذا قالوا (الموالي) أرادوا بهم المسلمين من الفرس وغيرهم الذين كانوا مجوساً أو ذميين واعتنقوا الإسلام أو كانوا ممن لازم العرب أو التجأوا إليهم ويسمونهم (الحمراء) فإذا قالوا: (الحمراء) أرادوا الموالي، والحمراء في القاموس: العجم وهم كل من سوى العرب. وأصبح الموالي في الإسلام طبقة خاصة من طبقات الهيئة الاجتماعية كان لها شأن عظيم في تاريخ الإسلام. وللموالي فضل كبير في الإسلام لأن معظم الحفّاظ وأهل التفسير واللغة والشعر وسائر العلماء وأكثر التابعين منهم لانشغال العرب عن هذه العلوم بالسياسة والسيادة والتنازع على السلطة. وكان للخلفاء والأمراء ثقة كبرى بمواليهم يعهدون إليهم بكل شؤونهم. على أن المولى لا يزال أحط مقاماً من العربي وكان الموالي في صدر الإسلام يتولون كثيراً من مصالح الدولة التي تفتقر إلى الأمانة والثقة فضلاً عن العلم والدين ولهم الرواتب السنية لكنهم كانوا محرومين من المناصب االرفيعة التي تحتاج إلى شرف وعصبية كالقضاء مثلاً فإنهم كانوا يعدّونه فوق مرتبتهم.

الكافي: ج1، ص404.

الكافي: ج8، ص246، مثله.

بحار الأنوار: ج69، ص350.

كنز العمال: ج9، ص210.

كنز العمال: ج3، ص656.

سورة النساء: 36.