![]() |
لعنة لبنان .. كتاب عن بلد عالق في دوّامة التكرار والاجترار
موقع الإمام الشيرازي 12/ ربيع الثاني/1447
مخرجات الحروب الأخيرة: آلاف الضحايا، وعشرات آلاف البيوت المهدمة، ومئات ألوف النازحين وقعت على الشيعة. ليس لأنهم شيعة، وإنما لأنهم دخلوا في الحرب
صدر حديثاً عن "دار رياض الريّس" في بيروت كتاب الكاتب والروائي اللبناني محمد أبي سمرا «لعنة لبنان – شهادات ومسارات في الحرب الأهلية الإقليمية» (2025)، وهو عملٌ يتجاوز التوثيق إلى ما يشبه مرثيّة مفتوحة للبنان، البلد الذي لم يعرف منذ 1975 إلا الحرب وتحوّلاتها وانبعاثاتها المتكرّرة. حروب بلا نهاية منذ اندلاع الحرب الأهلية في 1975، وما تلاها من تسويات هشة أبرزها اتفاق الطائف (1989)، لم ينجح لبنان في الخروج من منطق الحرب. يصف المؤلف هذه الحالة بـ«اللّعنة»، إذ تحوّلت الحرب من حدث استثنائي إلى بنية سياسية واجتماعية دائمة، أو ما سمّاه وضّاح شرارة «نظام الحرب الأهلية». فالطائفية التي أُعيد إنتاجها صارت غريزة جمعية، يتوارثها اللبنانيون في السكن واللغة والعلاقات اليومية وحتى في أشكال الموت. يبدأ المؤلف كتابه من تجربته الخاصة؛ حيث ذكريات الطفولة والمراهقة، ثم خوض جيل السبعينيات مغامرة السلاح، قبل أن يكتشف عبثيتها. غير أنّ الكتاب لا يظل في دائرة السيرة الذاتية، بل يتّسع إلى شهادات وسِيَر ومشاهد من «التاريخ من الأسفل»، حيث الحوادث ليست عناوين كبرى، بل تفاصيل وأفراد ولقطات. بهذا المعنى، يكتب المؤلف رواية عن الحرب أكثر من كونه يدوّن «تاريخاً مدرسياً». التكرار بوصفه قدَراً المفردتان الأكثر حضوراً في الكتاب هما «التكرار» و«الاجترار». يراهما المؤلف جوهر المأساة اللبنانية: حرب تتكرر في صور جديدة، بأسباب ونتائج متشابهة، حيث لا تعلّم من الماضي ولا تجاوز له. هذا التكرار ليس سياسياً فحسب، بل وجودي أيضاً، إذ يتحول إلى زمن دائري قاتل يعيد إنتاج الخوف والموت والخراب جيلاً بعد جيل. الكتاب يكشف عن إننا هكذا أمام ما يشبه أن يكون نوعاً من لا معنى سحيق، ضرباً من انعدام غالب، من زمن بلا وقت ولا ميعاد، من حراك يشبه اللعب واللهو، وبالطبع لا ينتج عنه سوى عبث بحت. تكرارٌ واجترار ليسا سوى استفراغ كامل، سوى رتابة قاتلة، سوى درجة عليا من الانعدام. أيضاً، يضيء الكتاب على الطائفية باعتبارها المادة الأولية للحرب، وليست مجرد أداة حكم بل «بنية شعورية كاملة» تحدد أنماط العيش والعلاقات. يقول المؤلف في الكتاب: "في لبنان المعاصر السابق على الحرب، كانت الجماعات الأهلية الطائفية تقيم في مناطق ودوائر سكنية متجاورة، يقوم بينها تعارف أهليّ وعائلي، بلدي وتقليدي. وفي الدوائر الكثيرة التي كان يتداخل فيها سكنُ شُطور جماعاتٍ أهلية متباينة، كان التداخل يُضعِف ملامح ناتئة من هويّات سكانها من دون أن يقوى على تذويبها أو محوها". سؤال المجتمع اللبناني هل لا يزال هناك ما يسمى «المجتمع اللبناني»؟ هذا هو السؤال المركزي الذي يطرحه الكتاب. فمع تكرار الحروب والانقسامات الطائفية وتداخل الصراعات الإقليمية، يبدو أن لبنان تحوّل إلى أرض اختبار مفتوحة للآخرين، فيما يعيش أبناؤه في دائرة من الفقد والانتظار، بلا قدرة على الحلم أو إعادة التأسيس. "لعنة لبنان» ليس دراسة أكاديمية باردة، بل نصّ هجين يجمع بين الاعتراف الأدبي والتوثيق الميداني والتحليل السياسي، بلغة مشبعة بالشعرية والألم. إنه كتاب يكتب من الداخل، من قلب التجربة اللبنانية، ومن ذاكرة لم تُشفَ بعد. في النهاية، يكشف المؤلف، محمد أبي سمرا، أنّ «اللعنة» ليست استعارة بل واقع؛ فإن لبنان محكوم بالتكرار، بلد يدور في حلقة مغلقة من الحرب والطائفية والارتهان للخارج. بالتالي، هذا الكتاب ليس فقط تأريخاً لحرب لم تنتهِ، بل شهادة على استحالة الانعتاق من قدرٍ صار هوية بحد ذاته. مع ذلك، فإن مخرجات الحروب الأخيرة: آلاف الضحايا، وعشرات آلاف البيوت المهدمة، ومئات ألوف النازحين وقعت على الشيعة. ليس لأنهم شيعة، وإنما لأنهم دخلوا في الحرب. وهكذا، فإن قرار الحرب، كما يثبت التاريخ، قرار مدمر يجب تجنبه بكل السبل. يقول الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره): "يجب على الجميع أن يتجنبوا الحرب بكل السبل المتاحة، وإذا اضطر الإنسان إلى الحرب ـ لأن عدوه جره إليها ـ فمن الواجب أن يقتصر ذلك على أقصى درجات الضرورة."
|