ما بعد الحقيقة .. حين تنتصر العاطفة على العقل وتتهمش الحقيقة


 

 

موقع الإمام الشيرازي

6/ ربيع الثاني/ 1447

﴿وَمِنۡهُم مَّن يَسۡتَمِعُونَ إِلَيۡكَۚ أَفَأَنتَ تُسۡمِعُ ٱلصُّمَّ وَلَوۡ كَانُواْ لَا يَعۡقِلُونَ﴾(يونس: 42)

 

في السنوات الأخيرة، شاع في الأوساط الأكاديمية والإعلامية مصطلح "ما بعد الحقيقة"، لوصف مرحلة باتت فيها المشاعر والانفعالات والميول الشخصية أكثر تأثيراً في تشكيل المواقف والقرارات من الحقائق والبيانات الموضوعية. ما يعني أن الحقيقة لم تختفِ، لكنها فقدت سلطانها أمام العاطفة والهوى.

ظهر مصطلح "ما بعد الحقيقة" بقوة مع حدثين بارزين عام 2016: الانتخابات الأمريكية التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، واستفتاء البريكست الذي أخرج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. في الحالتين، جرى توظيف خطاب عاطفي، مليء بالمبالغات والوعود غير الواقعية، مع تغذية مشاعر الخوف والغضب القومي، في مقابل تغييب لغة الحقائق والأرقام. هذا لا يعني أن الناس لم يعرفوا الحقيقة، بل أنهم لم يعودوا يأبهون بها حين تتعارض مع مشاعرهم أو هوياتهم السياسية.

إذن، "ما بعد الحقيقة" ليست غياباً للمعرفة، بل أزمة ثقة وعقلانية؛ حيث الناس يعرفون، لكنهم يختارون ألا يصدّقوا.

الحقيقة البديلة

لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في عصر ما بعد الحقيقة. خوارزميات فيسبوك وتويتر ويوتيوب تعزز "فقاعات الصدى" حيث لا يرى الفرد إلا ما يوافق رأيه. هنا تزدهر الأخبار الكاذبة و"الحقيقة البديلة"، إذ يجد كل شخص "مصادر" تؤكد له ما يريد أن يصدق.

وفي العالم العربي، تضاعفت هذه الظاهرة مع انتشار القنوات الفضائية الحزبية والمواقع الممولة سياسيًا. كل جهة تصنع "حقيقتها" الخاصة، وتُغْرِق المتلقي بالصور والمقاطع والشعارات التي تخاطب قلبه لا عقله.

العراق مثال صارخ على تمدد ثقافة ما بعد الحقيقة. الأحزاب والقوى السياسية لا تعلن برامج واضحة، بل تعتمد على خطاب فئوي أو وعود شعبوية. حين يواجه المواطن فشل الخدمات أو الفساد المستشري، يجد نفسه ممزقاً بين الولاء الهوياتي وبين إدراكه الواقعي للكارثة. وغالباً ينتصر الولاء على الحقيقة.

في الانتخابات مثلاً، بدل أن يكون النقاش حول البرامج الاقتصادية والتنموية، يتحول إلى جدل حول قضايا هامشية أو واهمة أو شعبوية كـ "مَنْ وطني ومَنْ عميل"، في تضليل صريح للرأي العام.

خطورة السكوت

المشكلة الأكبر أن الناس كثيراً ما يعرفون الأكاذيب، لكنهم يتعايشون معها. السكوت عن الخطأ بدعوى "الواقعية" أو "الخوف من الفتنة" يعني المشاركة في صناعة ما بعد الحقيقة. بهذا الشكل، يصبح الكذب قاعدة، ويتحول الاستثناء إلى مبدأ، وتُقتل روح النقد.

مواجهة "ما بعد الحقيقة"

يمكن تحصين الفرد والمجتمع من مشكلة "ما بعد الحقيقة" بـ:

الوعي النقدي، فإن تعليم الأفراد مهارات التحقق من الأخبار وتحليل الخطاب.

الإعلام المسؤول من خلال الصحافة الجادة كحائط صد أمام التضليل.

التربية الأخلاقية عبر ترسيخ أن الحقيقة قيمة بحد ذاتها، لا مجرد أداة نفعية.

شجاعة الفرد، فإنه يجدر بالمواطن أن يتعلم قول "لا" حتى حين تكون الكذبة مريحة ومغرية.

وهكذا، فإن "ما بعد الحقيقة" ليست قدراً محتوماً، بل هي انعكاس لحالة الضعف في التربية والوعي والإعلام. وإذا كان العالم الغربي قد بدأ يقرع أجراس الخطر منذ سنوات، فإن العالم العربي – والعراق خاصة – أحوج ما يكون اليوم إلى حركة وعي تجعل من الحقيقة قيمة لا تُشترى ولا تُباع.

التشخيص القرآني والعلاج العلوي

يُشخّص القرآن الكريم ظاهرة "ما بعد الحقيقة" في قول الله تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(الحج: 46). هذه الآية الكريمة تكشف أن أزمة العصر ليست في نقص المعلومات، بل في عمى القلوب التي ترفض الحق حين يتعارض مع هوى النفس أو موروثاتها الفكرية. فهي صورة دقيقة لحالة تقديم المشاعر على الحقائق، والتي تميز عصر "ما بعد الحقيقة".

أيضاً، يقدم الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) العلاج الجذري لهذه الآفة في قاعدته الذهبية الشهيرة: "الحق لا يُعرَف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله" (أمالي المفيد: ج5 – ص3). هذه الكلمات تنسف أساس "ما بعد الحقيقة" الذي يجعل من هوية القائل معياراً لقبول الحق أو رفضه. فإن الحقيقة في المنظور الإسلامي كالشمس، لا تحتاج إلى شهادة أحد لتكون مرئية. فلا يمكن الحكم على صحة قضية أو موقف بأنها حق لمجرد أن شخصاً مهماً أو معروفاً قال بها أو تبناها. وهكذا يصبح التحرر من عبادة الأشخاص والأيديولوجيات شرطاً لاكتشاف الحقيقة.

يذكرنا هذا المبدأ العلوي بأن الحق ليس تابعاً لهوية قائله، بل هو معيار مستقل بذاته، فإذا عرفنا الحق – بالعقل عبر البحث عن الحق باتباع الأدلة والمبادئ الصحيحة – عرفنا أهله تبعاً لذلك، لا العكس. وهذا هو السبيل لتجنب مشكلة "ما بعد الحقيقة" نحو مجتمع يعلي من شأن الحقيقة فوق كل اعتبار.

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)(التوبة: 105)