الكرامة الإنسانية في الفكر الرضويّ .. تأملات للعيش بمعنى


 

 

موقع الإمام الشيرازي

 

قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): "أجلّ الخلائق وأكرمها اصطناع المعروف، وإغاثة الملهوف، وتحقيق أمل الآمل، وتصديق مخيلة الراجي، والاستكثار من الأصدقاء في الحياة، والباكين بعد الوفاة" (بحار الأنوار: ج 75 – 355).

--------------------------------

يقدّم الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في هذا النص القصير والعميق خريطة واضحة لمعنى الكرامة الإنسانية، لا بوصفها حالة مكتسبة من سلطة أو مال أو نسَب، بل باعتبارها ثمرةً لسلوك الإنسان تجاه الآخرين. الخلائق جمع خليقة، وهي الطبيعة والسجيَّة)، وبحسب النص الرضويذ فإن الأجلّ والأكرم من الخلائق "اصطناع المعروف"، وأن تُحسِن إلى الإنسان في أضعف حالاته، وتترك أثراً في قلوب الأحياء، وذكراً في ضمائر الأموات.

هذه الرؤية تُشكّل منظومة متكاملة للفضيلة، قائمة على الفاعلية الأخلاقية، والتفاعل الإنساني، وامتداد الذات في الآخرين.

(1) إرادة الخير لا انتظاره

"اصطناع المعروف" ليس مجرد تجاوب مع طلب، بل هو مبادرة لصنع الخير من دون طلب. إنها صيغة فعلية لحضور الضمير الحي واليقظ في المجتمع. الإنسان الكريم لا ينتظر حاجة الناس لتتحرك عواطفه، بل يصنع المعروف كما يُصنع الجمال؛ بعقل واعٍ، ونفس ممتلئة، ومبادرة مبدعة.

هنا، يظهر البعد الإنساني العميق في الفعل الأخلاقي؛ الخير ليس فقط في الاستجابة، بل في السبق إلى الفعل، وكأن الإمام يقول: الكرامة الحقة تبدأ حين نكون فاعلين لا متفاعلين فقط.

(2) الإنسانية تتجلى بإغاثة الملهوف

الملهوف هو رمز للإنسان في أقصى درجات ضعفه: منهوك، ومنقطع، ومتروك. وهكذا، الإغاثة ليست مجرد عطاء مادي، بل هي حضور وجداني وإنساني ومادي عاجل.

هنا، يعيد الإمام ترتيب أولويات العقل الأخلاقي؛ فـ الأكرم من الناس ليس مَنْ يملك، بل مَنْ يحضر عند الحاجة، ويملك الحسّ بالآخر. وهذا يتقاطع مع مبدأ إنساني عميق في الأخلاق الإسلامية؛ وهو القيمة العليا للفعل الأخلاقي تكمن في استجابته للضعف الإنساني.

من منظور إنساني، هذا المبدأ يعزز فكرة التضامن. في عالم مليء بالأزمات – سواء كانت حروباً، أو خوفاً، أو فقراً، أو مرضاً، أو انهياراً نفسياً – تصبح القدرة على إغاثة الآخرين علامة على إنسانيتنا. إنها دعوة للخروج من دائرة اللامبالاة إلى فضاء العمل الإنساني الملموس.

(3) أمل الآمل

هنا يدخل الإمام في عمق النفس البشرية. فـ"الآمل" و"الراجي" لا يحملان يقيناً، بل أملاً واحتمالاً. والإمام يدعو الإنسان الكريم إلى أن يكون جسر العبور من الحلم إلى الواقع، من التمنّي إلى التحقّق.

الأمل هنا هو القوة الدافعة التي تحافظ على استمرارية الحياة، بينما "مخيلة الراجي" تشير إلى الخيال الإنساني الذي يتوق إلى غد أفضل.

تصديق "مخيلة الراجي" فعل شبيه بإحياء معنوي. كم من الناس يعيشون على مجرد رجاء بسيط؟ كم منّا يحتاج فقط إلى من يصدّقه في حلمه؟ الإمام يربط الكرامة الحقيقية بالقدرة على أن نكون حاضنين لأحلام وتمنيات الآخرين، لا محبطين لهم.

هذه الخصلة تعكس فلسفة إنسانية راقية؛ الخير لا يقتصر على ما نفعله، بل على ما نؤمن به للآخرين ونبثّه فيهم من طاقة الأمل.

(4) الاستكثار من الأصدقاء في الحياة

هذا، ليس دعوة لكثرة المعارف السطحية، بل دعوة لبناء شبكة من العلاقات الأصيلة التي تُحاط بالثقة والود. الإنسان الكريم يسعى لتوسيع دائرة المحبة والتواصل، لا التقوقع في فردانيته. فالصديق هنا رمز للاستثمار في الإنسان، لا في المصلحة.

وفي ضوء القيم الإسلامية، فإن الإنسان لا يُعرّف بماله أو منصبه، بل بمن يثقون به، ويحبونه، ويبكون لفقده.

يذكّرنا هذا المبدأ بأن الحياة ليست مجرد تراكم للممتلكات أو الإنجازات الفردية، بل هي بناء شبكة من العلاقات الإنسانية الصادقة. الصداقة هنا ليست مجرد علاقة عابرة، بل استثمار في المعنى الإنساني الذي يتجاوز حدود الزمن. أما الباكون بعد الوفاة، فهم ليسوا مجرد معبرين عن الحزن، بل هم تجسيد للأثر الذي تركه الإنسان في قلوب الآخرين.

(5) "والباكين بعد الوفاة" .. الخلود الأخلاقي

هذه العبارة تختم "النص الرضويّ" بإشارة إلى معيار الخلود الحقيقي؛ ليس ما تتركه من ممتلكات، بل من قلوب باكية وذكريات طيبة. الإمام الرضا (عليه السلام) يضع معياراً مختلفاً للنجاح، وهو أن تترك في الناس ندبة حنين، لا مجرد تمثال أو لقب.

وهذا يعكس فهماً إنسانياً عميقاً للوجود؛ إنك لا تموت فعلاً إذا بقيت في ضمائر الناس بفضلك وفعلك وإنسانيتك. مَنْ بكى عليك بعد موتك، قد غُرِسَ حبّك في وجدانه، وهذا هو نوع من البعث الرمزي في الحياة الإنسانية.

الكرامة في فكر الإمام

كلام الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يجمع بين الأخلاق، والرحمة، والأمل، والتواصل الاجتماعي في رؤية متكاملة للإنسانية. الإمامه يدعو إلى حياة يتجاوز فيها الفرد ذاته ليصبح جزءاً من نسيج إنساني أكبر، حيث يكون العطاء والتضامن هما جوهر الوجود. النص الرضويّ رؤية ترى أن المعنى الحقيقي للحياة يكمن في التفاعل مع الآخرين وترك أثر طيب. كما يذكّرنا بأن قيمتنا الحقيقية تُقاس ليس بما نملك، بل بما نقدمه للعالم.

في النهاية، يبقى هذا النص الرضويّ بمثابة منارة إنسانية تدعو كل فرد إلى أن يكون صانع خير، ومغيثاً للمحتاج، ومشعلاً للأمل، وبنّاءً لعلاقات إنسانية نبيلة. إنها دعوة ليس فقط للعيش، بل للعيش بمعنى.

هذا النص الرضويّ الكريم ليس توصيفاً لأعمال خيرية سطحية، بل هو بيان عميق للكرامة الإنسانية باعتبارها فعلاً نابعاً من ذات ناضجة وضمير متوهج، وإحساساً مسؤولاً تجاه الآخر، واستثماراً في الإنسان، وسعياً نحو الخلود المعنوي، (وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(التوبة 72).

12/ ذو القعدة / 1446هـ