في العراق .. ثروات هائلة وأزمات لا تطاق!


قال الله سبحانه: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الحجر 92-93). وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "اتّقوا اللّه في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتّى عن البقاع والبهائم، وأطيعوا اللّه ولا تعصوه" (نهج البلاغة: الخطبة 167).

موقع الإمام الشيرازي

 

رغم أن العراق يُعد واحدًا من أغنى بلدان العالم بثرواته الطبيعية، وعلى رأسها النفط والغاز، يعيش مواطنوه في واقعٍ مأزوم، تتصدّره أزمات معيشية وخدماتية تهدد الكرامة الإنسانية ذاتها، بدءًا من غياب الكهرباء والماء الصالح للشرب، وليس انتهاءً بضعف النظام الصحي، وخاصة مأساة مرضى السرطان. هذا التناقض الصارخ بين "غِنى الدولة" و"فقر الشعب" يثير تساؤلات مؤلمة، وأخرى مشروعة عن أسباب الإهمال، وازدواجية الخطاب الديني والسياسي للطبقة الحاكمة في البلاد.

مستشفيات .. خطر بحد ذاته

في تقرير استقصائي نشره موقع جمّار بتاريخ 8 أبريل 2025، بعنوان "قابلة للاشتعال: مستشفيات بغداد بلا معدّات سلامة ضد الحرائق"، كشف عن واقع خطير في مستشفيات العاصمة.

يكشف التقرير أن ثماني مستشفيات رئيسية في بغداد لا تحتوي على سلالم طوارئ داخلية أو خارجية، رغم أن ارتفاعاتها تفوق العشرة أمتار، أي أنها غير آمنة إطلاقًا في حال اندلاع حريق.

أكثر من 28٪ من مستشفيات العاصمة لا تملك إضاءة طوارئ بديلة، و72٪ من المستشفيات الأخرى تعاني من أعطال جزئية أو كلية في منظومات الطوارئ. هذا القصور الخطير يمتد إلى قدم المصاعد، وافتقارها إلى شهادات الفحص والسلامة، مما يعرض حياة المرضى والزوار للخطر في أي لحظة.

أيضاً، يشير تقرير (جمّار) الى أن المصاعد في معظم المستشفيات قديمة عرضة للأعطال بسبب نقص الصيانة. جميع مستشفيات بغداد لم تحصل على شهادات فحص هندسي للمصاعد، وهي غير مزودة بأنظمة حفظ الطاقة أو تهوية الطوارئ، مما يهدد سلامة المستخدمين.

في السياق، ديوان الرقابة المالية أكد في تقرير حديث أن مستشفيات بغداد تعاني من نقص فادح في منظومات إطفاء الحرائق، وهو أمر يذكّر بمآسي سابقة مثل حريق مستشفى "ابن الخطيب"، الذي أودى بحياة العشرات عام 2021.

هذه النواقص تجعل المستشفيات بيئة غير آمنة للمرضى، خاصة مرضى السرطان الذين يحتاجون إلى بيئة صحية ومستقرة لتلقي العلاج.

والسؤال: إذا كان هذا حال مستشفيات العاصمة بغداد؛ فما حال مستشفيات المحافظات الأخرى؟!

مرضى السرطان... بين الموت البطيء والذلّ المالي

بحسب تقرير مُصَوَّر نشرته وكالة شفق نيوز بتاريخ 29 أبريل 2025، بعنوان "شفق نيوز تفتح ملف الأورام الخبيثة ومعاناة محاربي السرطان في بغداد"، فإن مرضى السرطان في بغداد يواجهون ظروفاً قاسية نتيجة نقص الأسرّة، قلة الكوادر الطبية المتخصصة، وشح الأدوية والمستلزمات الطبية؛ إنها المأساة تتجسد بوجوه بشرية.

حسن علوان البهادلي (42 عاماً)، مريض بسرطان الرئة، اضطر لبيع بيته ليجري عملية تتجاوز كلفتها 35 ألف دولار. بعد فشله في إيجاد سرير شاغر في المستشفيات الحكومية، فقد أُخبرته إدارة المستشفى بوجود قوائم انتظار طويلة. حتى في مدينة الطب، أكبر مجمع طبي في العراق، حصل على موعد بعد 4 أشهر، وهي مدة قد تكون قاتلة بالنسبة لحالته، حيث السرطان ينهش جسده بلا رحمة.

سعدون هليل (55 عاماً)، توفي بعد شهر من خروجه من مستشفى الكاظمية، حيث رقد لمدة شهرين دون تلقي علاج فعال سوى المهدئات. طبيب الأورام كان يزوره مرة واحدة أسبوعياً فقط، بسبب نقص الأطباء المتخصصين، مما سمح للمرض بالانتشار حتى أصبحت حالته ميؤوساً منها.

جاسم طاهر (57 عاماً)، أحد المرضى في مستشفى الأمل، أشار إلى جودة الخدمة النسبية في المستشفى، لكنه أكد على مشكلة تاخر الفحوصات والعمليات. في المقابل، أوضحت سناء عليوي، مريضة أخرى، أن التأخير في التحاليل والعمليات يفاقم معاناة المرضى، خاصة أن المستشفيات الخاصة باهظة التكلفة وغير متاحة لمحدودي الدخل.

التقرير أشار إلى أن المستشفيات الحكومية تعاني من نقص حاد في الأسرّة، والكوادر الطبية، والأدوية المتخصصة، مما يجبر المرضى على اللجوء إلى القطاع الخاص أو السفر للعلاج في دول مثل الهند وتركيا، بتكاليف باهظة.

عامر عبد السادة، المشرف على برنامج الإخلاء الطبي، أكد أن العراقيين أنفقوا 500 مليون دولار على الرعاية الصحية في الهند في 2018 وحده.

ويجمع المرضى وذووهم، بحسب التقرير، على أن التأخير في التحاليل، وشحّ الأدوية، ونقص الكوادر المتخصصة، يجعل من العلاج الحكومي مجرد "حبر على ورق"، بينما المستشفيات الخاصة باهظة، لا يقدر عليها معظم العراقيين.

فساد الأدوية

في أبريل 2025، كشفت النائبة عالية نصيف، عضو لجنة النزاهة في البرلمان العراقي، عن فضيحة فساد تتعلق بأدوية الأورام. وأكدت أن جميع أدوية السرطان في العراق مستوردة من إيران والهند، ويتم إعادة تعبئتها في مصانع عراقية وتسويقها على أنها محلية الصنع. هذه الأدوية، التي غالبًا ما تكون منتهية الصلاحية أو دون المعايير، تُدار عبر شركات يملكها أبناء سياسيين وأحزاب نافذة.

هذه الفضيحة أثارت غضباً شعبياً، خاصة أن مرضى السرطان يعانون أصلاً من نقص الأدوية في المستشفيات الحكومية، مما يجبرهم على شرائها من السوق السوداء بأسعار مرتفعة. على سبيل المثال، هشام عبد الله، والد طفل مصاب بالسرطان في البصرة، أنفق 120 ألف دولار على أدوية من السوق السوداء ورحلات علاج خارجية، وفق تقرير لرويترز عام 2020.

ثروات مهدورة .. وسلطة بلا مسؤولية

العراق ليس بلداً فقيراً. العراق يحتل مراتب متقدمة عالمياً في احتياطات النفط والغاز، ويملك ثروات زراعية ومائية وموارد بشرية هائلة. ومع ذلك، يعيش العراقيون واقعًا بائساً يتجلى في البنى التحتية المتآكلة، والمستشفيات المنهارة، والمدارس غير المؤهلة، والفساد الذي يُهدر الموازنات.

فما الذي يمنع بناء نظام صحي إنساني؟

ولماذا تتكرر المآسي نفسها؟

ولماذا لا يُحاسب المقصّرون والفاسدون؟

هذه أسئلة باتت تُمثّل الوعي اليومي للمواطن العراقي.

تدين شكلي... وقِيَم مهجورة

أحد أبرز التساؤلات التي تطرحها هذه الأزمات هو كيف يمكن لمسؤولين يروّجون لأنفسهم كـ"إسلاميين" و"حماة الدين والأخلاق" أن يتغاضون عن معاناة شعبهم؟! الكثير من السياسيين العراقيين يظهرون في المناسبات الدينية ويتبنون خطاباً دينياً، لكنهم يفشلون في توفير أبسط حقوق المواطنين. هذا التناقض، الذي يُوصف بـ"التدين المزيف"، يعكس استغلال الدين كأداة سياسية بدلاً من تبنيه كمبدأ أخلاقي يحث على العدالة والرعاية.

تقرير واشنطن إنستيتيوت عام 2021 أشار إلى أن الفساد المستشري في وزارة الصحة، بما في ذلك اختلاس أموال عقود الأدوية، هو أحد الأسباب الرئيسية لتدهور النظام الصحي. المنافسة بين السياسيين للسيطرة على الوزارة تُغذي هذا الفساد، مما يحرم المواطنين من الرعاية اللازمة.

المشهد السياسي والحكومي يكشف نفاقاً صارخاً بين الخطاب والممارسة.

إذ، كيف يمكن لمسؤول "متدين" أن يسمح بانهيار مستشفيات الأطفال والسرطان؟!!

كيف يتفاخر بعض بتمويل المواكب الدينية، وبناء المساجد والحسينيات، بينما يموت المواطن في طابور دواء أو على سرير مكسور؟!!

إن ما يُمارس في العراق غالبًا هو تدين شكلي أو مزيَّف، لا صلة له بالعدل أو الرحمة أو خدمة الإنسان، بل يُستخدم غطاءً سياسياً لاستمرار النفوذ وإسكات النقد والمساءلة والمحاسبة. فإنما جاء الإسلام لترسيخ العدل والأمانة والكرامة الإنسانية، ونبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) إنما أُرْسِلَ (رحمة للعالمين)(الأنبياء 107). يقول المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (قده): "الإسلام بمعناه القرآني يهدف لإنقاذ الإنسان من براثن العبودية والظلم والجهل والاستغلال والفقر والحرمان والمرض والجشع والفوضى" (الاستفادة من عاشوراء ص 57).

هل هناك أمل؟

يؤكد أطباء عراقيون أن إصلاح حقيقي للواقع الصحي في العراق يتطلب استثمارات ضخمة في تحديث المرافق، وتدريب الكوادر، وتعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص.

العراق، بثرواته الهائلة، يعيش مأساة إنسانية نتيجة الفساد وسوء الإدارة. مرضى السرطان في بغداد، الذين يفترض أن يحظوا بأفضل الخدمات، يواجهون الإهمال ونقص الموارد، بينما تُفاقم أزمات الكهرباء والماء والصرف الصحي معاناتهم. التدين الشكلي للسياسيين والمسؤولين الحكوميين، الذي يتناقض مع إهمالهم لحقوق الشعب، يثير تساؤلات أخلاقية عميقة. إصلاح هذا الواقع يتطلب إرادة سياسية حقيقية، ومحاسبة الفاسدين، واستثمار الثروات الوطنية في خدمة المواطنين، لا في جيوب النخب.

العراق لا يحتاج إلى المزيد من الخُطب أو الشعارات، بل إلى ثورة في الضمير العام، وإلى إرادة سياسية حقيقية تعيد بناء الدولة من بوابة الصحة والتعليم والخدمات، لا من بوابات التفاخر الفارغ.

المواطن العراقي يستحق أن يعيش بكرامة، وأن يُعالَج في مستشفى نظيف، وأن يحصل على ماء نقي وكهرباء دائمة، وأن يشعر أن ثروات بلاده تعود إليه لا تسرق منه.

قال الله تعالى: (وَقُلِ اعمَلوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُم وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ وَسَتُرَدّونَ إِلىٰ عٰلِمِ الغَيبِ وَالشَّهٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِما كُنتُم تَعمَلونَ)(التوبة 105)

المصادر:

(1) شفق نيوز، "شفق نيوز تفتح ملف الأورام الخبيثة"، 29 أبريل 2025.

(2) جمّار، "قابلة للاشتعال: مستشفيات بغداد بلا معدّات سلامة"، 8 أبريل 2025.

(3) رويترز، "تقرير خاص: خلل في النظام"، 2 مارس 2020.

(4) واشنطن إنستيتيوت، "النظام الصحي في العراق"، 14 يوليو 2021.

(5) برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، "إنقاذ الأرواح وإعادة إحياء النظام الصحي"، 18 أكتوبر 2023.

 

9/ ذو القعدة / 1446هـ