بين المثالي والواقعي

النزعة الشيعية الخالصة ومعضلة الحداثة في العراق
 

Between the Ideal and the Real

 Shiite Purism and the Dilemma of Modernity in Iraq

(د. عقيل عباس)



 

موقع الإمام الشيرازي

 

الكتاب "بين المثالي والواقعي: النزعة الشيعية الخالصة ومعضلة الحداثة في العراق" عمل أكاديمي يتناول الصراع بين النزعة الشيعية السائدة والتحديات التي تفرضها الحداثة في سياق العراق الحديث.

الكتاب صدر عام 2024 عن دار النشر "Rowman & Littlefield"، ويُعتبر إضافة جديدة لفهم العلاقة المعقدة بين التقاليد الدينية والتحولات الحديثة في العراق.

الكتاب يقدم تحليلاً تاريخيًا وعقائديًا وسياسيًا للشيعية العراقية، مركزًا على كيفية تفاعلها مع مفاهيم الحداثة مثل القومية، والفردية، والإنسانية، والديمقراطية. ويُعتبر الكتاب مصدرًا حيويًا للباحثين والسياسيين المهتمين بفهم تطور الهوية الدينية في سياق الحداثة، ويقدم رؤية نقدية للعلاقة بين الدين والدولة في العراق.

يتناول الكتاب النزعة الشيعية الخالصة أو السائدة كمفهوم أساسي في العقيدة الشيعية، وهي رؤية عالمية ترى الشيعة كجماعة متميزة تعتمد على التفوق العقائدي والهوية التاريخية المرتبطة بالشعور بالمظلومية (مثل واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام). أيضاً، يربط المؤلف هذه النزعة بالتحديات التي واجهت العراق كدولة حديثة، خاصة بعد إسقاط الولايات المتحدة الأمريكية نظام صدام في العام 2003.

الكتاب يقدم منظورًا جديدًا بعيدًا عن السرديات التقليدية التي تركز على الفشل الأمريكي في العراق، حيث يركز على الديناميكيات الداخلية للمجتمع الشيعي. وبالأخص أداء الأحزاب الشيعية الإسلامية، وطبيعة علاقتها مع المؤسسة الدينية، معتبرًا ذلك سببًا رئيسيًا في فشل بناء الدولة والتحول الديمقراطي.

الكتاب من تأليف د. عقيل عباس، عراقي أمريكي، حاصل على الدكتوراه، وهو باحث متخصص في الشرق الأوسط، وعمل في جامعات أمريكية متعددة داخل وخارج الولايات المتحدة، بما في ذلك الجامعة الأمريكية في العراق بالسليمانية، ويركز في أبحاثه على الحداثة، والديمقراطية، وسياسات الهوية في المنطقة.

الأسس التاريخية والعقائدية للشيعية العراقية

يبدأ الكتاب باستعراض تاريخ الشيعية في العراق، منذ نشأتها كعقيدة متميزة "في القرن الرابع الهجري" وفقاً للمؤلف، وكيف شكلت رؤيتها "الخالصة" هويتها. يوضح المؤلف كيف أن هذه الرؤية عززت الهوية الجماعية التي تربط الشيعة بماضٍ محدد يتمحور حول المظلومية التاريخية والتفوق العقائدي. ويربط المؤلف الماضي بالحاضر من خلال تحليل تأثير هذه الرؤية على تفاعل الشيعة مع الحداثة.

ما بعد 2003: التحولات والإخفاقات

الكتاب يخصص جزءً كبيرًا لتحليل التجربة السياسية الشيعية بعد الإطاحة بصدام، وينتقد المؤلف الأداء السياسي للأحزاب الشيعية، خاصة خلال حكم نوري المالكي، مشيرًا إلى أن فشلها يعود جزئيًا إلى غياب الاستعداد للتعامل مع الدولة الحديثة.
ويسلط الضوء على دور المؤسسة الدينية في النجف، التي حاولت لاحقًا - منذ 2014 - تبني خط إصلاحي لإعادة ربط الشيعة بالمشروع الوطني الحديث، لكن ذلك جاء بعد ضغوط كبيرة ناتجة عن فشل الحكم الشيعي الأولي، والانتفاضات العربية، وظهور داعش، وعموماً جاء متأخراً نوعاً ما، وفقاً للمؤلف.

التفاعل بين الأيديولوجيا والواقعية

يقدم المؤلف مفهوم "التوتر الخلاق" بين الأيديولوجيا (اللاهوت الشيعي) والواقعية (الضغوط السياسية والاجتماعية)، معتبرًا أن هذا التوتر أدى إلى ظهور وعي سياسي شيعي جديد وأكثر نشاطًا منذ منتصف العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين.

في الكتاب، يقدم المؤلف رؤية متفائلة نسبيًا حول تطور الوعي السياسي الشيعي في العراق، معتبرًا أن هذا التطور يمثل استجابة تدريجية للضغوط الداخلية والخارجية التي واجهت المجتمع الشيعي في العقود الأخيرة. ويرى أن هذا التطور ليس خطيًا أو موحدًا، بل هو نتاج "توتر خلاق" بين التمسك الأيديولوجيا الشيعية التقليدية (النزعة الخالصة) والحاجة إلى التعامل مع متطلبات الحداثة، مثل الحكم الديمقراطي، والدولة القومية، والتعددية الاجتماعية. وفيما يلي تفصيل لرؤيته حول هذا التطور:

(1)  الانتقال من الهوية البدائية إلى الوعي السياسي الحديث

يصف المؤلف الوعي الشيعي التقليدي بأنه كان مرتبطًا بهوية جماعية ترتكز على المظلومية التاريخية والتفوق العقائدي، وأن هذه الهوية جعلت الشيعة يرون أنفسهم كجماعة متميزة، منفصلة عن الدولة الحديثة أو المجتمع الأوسع. أيضاً، مع انهيار نظام صدام عام 2003، واجهت الأحزاب الشيعية تحدي إدارة الدولة لأول مرة. هذا الواقع الجديد أجبرها على الانخراط في الحياة السياسية الحديثة، مما أدى إلى ظهور وعي جديد يدرك أهمية مفاهيم مثل السيادة الشعبية والتمثيل السياسي، حتى لو كان ذلك بشكل غير كامل في البداية.

(2) دور الأزمات في دفع التطور

يشير المؤلف إلى أن فشل الأحزاب الشيعية، خاصة خلال فترة حكم نوري المالكي (2006-2014)، في بناء دولة حديثة فعالة، كان بمثابة درس قاسٍ. الفساد، والطائفية، وغياب الخدمات أدت إلى استياء شعبي واسع، مما دفع الشيعة أنفسهم إلى إعادة تقييم دورهم السياسي. يرى المؤلف أن صعود تنظيم داعش (2014) والاحتجاجات الشعبية الكبرى (مثل انتفاضة تشرين 2019) كانتا لحظتين حاسمتين. داعش أظهر هشاشة النظام السياسي الشيعي، بينما عكست الاحتجاجات رفض الشباب الشيعي للنخب الدينية والسياسية التقليدية، مطالبين بدولة مدنية حديثة.

(3) دور المؤسسة الدينية في النجف

يبرز المؤلف دور المرجعية الدينية، في محاولة إعادة توجيه الوعي الشيعي نحو التكيف مع الحداثة. بعد 2014، بدأت المرجعية تدعم فكرة "الدولة الوطنية" وتدعو إلى إصلاحات تهدف إلى تعزيز المواطنة بدلاً من الهوية الطائفية الضيقة. ويشير المؤلف إلى أن المرجعية الدينية حاولت تحقيق توازن بين الحفاظ على النفوذ الديني وبين دفع الشيعة نحو الانخراط في مشروع وطني حديث، وهو ما يعكس تطورًا في الوعي السياسي بعيدًا عن النزعة الخالصة الصلبة السائدة.

(4) ظهور جيل جديد من النشطاء الشيعة

يؤكد المؤلف أن الجيل الشيعي الجديد، الذي قاد احتجاجات 2019، يمثل نقطة تحول. هؤلاء الشباب لم يعودوا يرون أنفسهم فقط كضحايا تاريخيين، بل كمواطنين يطالبون بحقوقهم في دولة حديثة. رفضهم للأحزاب الإسلامية التقليدية يعكس وعيًا سياسيًا يتماشى مع قيم الحداثة مثل التعددية والمساواة. ويرى المؤلف أن هذا الجيل بدأ يتحرر تدريجيًا من التمسك بالرؤية الشيعية السائدة، مفضلاً نهجًا عمليًا يركز على الحلول الواقعية لمشاكل العراق.

(5) رؤية مستقبلية

يعتقد المؤلف أن الوعي السياسي الشيعي سيستمر في التطور نحو التكيف مع متطلبات العصر من خلال عملية طويلة ومعقدة. هذا التكيف يتطلب التخلي الجزئي عن النزعة التقليدية السائدة، والتوجه نحو رؤية سياسية أكثر شمولية تركز على بناء دولة حديثة قائمة على المواطنة. مع ذلك، يحذر المؤلف من أن هذا التطور ليس مضمونًا، حيث لا تزال هناك قوى داخل المجتمع الشيعي والمؤسسة الدينية قد تعيق هذا التحول إذا لم تستمر الضغوط الشعبية والسياسية.

وفقاً لرؤية المؤلف، فإن النزعة الشيعية السائدة شكلت عائقًا رئيسيًا أمام تبني الشيعة العراقيين لمفاهيم الحداثة، مثل الدولة القومية، والديمقراطية، والتعددية، والمواطنة. ويرى المؤلف أن هذه النزعة، التي تتجذر في رؤية معينة، خلقت توترًا بين القيم التقليدية الشيعية والمتطلبات الواقعية للعالم الحديث.

وفيما يلي تفصيل لكيفية إعاقة هذه النزعة للحداثة بحسب مؤلف الكتاب:

(1) الهوية الجماعية والمظلومية التاريخية

يصف المؤلف النزعة السائدة بأنها رؤية تؤكد تفرد الشيعة كجماعة متميزة، مبنية على رواية المظلومية التاريخية والتفوق العقائدي. وأن هذه الهوية جعلت الشيعة يرون أنفسهم كمجموعة منفصلة عن المجتمع الأوسع، مما أعاق تكاملهم في مفهوم الدولة القومية الحديثة التي تتطلب وحدة وطنية تتجاوز الانقسامات الطائفية. هذا التركيز على الهوية الجماعية السائدة جعل من الصعب على الشيعة قبول فكرة المواطنة المتساوية، حيث أعطت الأولوية للانتماء الطائفي على الانتماء الوطني، مما يتعارض مع أسس الدولة الحديثة، وكل ذلك بسبب أداء وأيدولوجيات الأحزاب الشيعية التي كانت تسير وفق مصالحها الخاصة، لا مصالح الشعب. في الوقت أن العراقيين عموماً لا يتفقون مع تلك التوجهات والأيديولوجيات.

(2) تأثير النزعة على الأداء السياسي العملي

ينتقد المؤلف الأحزاب الشيعية التي تولت السلطة في العراق بعد سقوط صدام حسين، مشيرًا إلى أن النزعة الخالصة/السائدة جعلتها تفتقر إلى القدرة على إدارة دولة حديثة. بدلاً من التركيز على بناء مؤسسات فعالة، انشغلت هذه الأحزاب بتعزيز الهيمنة الحزبية، مما أدى إلى فساد هائل وانهيار الخدمات كارثي.

ويؤكد المؤلف أن النزعة السائدة لم تهيء الشيعة؛ أو بالأحرى الأحزاب الشيعية، للتعامل مع تعقيدات الحكم الحديث، مثل التخطيط الاقتصادي، والبنية التحتية، أو التفاوض مع الجماعات الأخرى، لأنها ركزت على الحفاظ على الهوية بدلاً من تطوير مهارات سياسية عملية.

ختاماً، كتاب "بين المثالي والواقعي: النزعة الشيعية الخالصة ومعضلة الحداثة في العراق" للكاتب الأكاديمي، عقيل عباس، عمل أكاديمي متميز يقدم تحليلاً دقيقًا وجديدًا للشيعية العراقية وتعاملها وتفاعلها مع متطلبات الحداثة وتعقيداتها. الكتاب يجمع بين البحث التاريخي العميق والتحليل السياسي المعاصر، مما يجعله قراءة ضرورية لمن يسعون إلى فهم التحديات التي تواجه العراق الحديث من منظور شيعي داخلي. الكتاب لا يقتصر على نقد الماضي، بل يقترح أيضًا رؤية لكيفية تطور الوعي السياسي الشيعي نحو التكيف مع متطلبات العصر.

5 / شهر رمضان المبارك / 1446هـ

* ليس بالضرورة أن يتبنى الموقع جميع مضامين ما يعرض من كتب. بالتالي، فإن الكتب المؤلفة بمنهج أكاديمي عموماً تغني التفكير والحوار بالمعلومات والتحليلات والاستنتاجات المهمة، لرسم صورة تطابق الواقع قدر الممكن لإصلاحه والارتقاء به، وصولاً لتطوير استراتيجيات وسياسات فعالة من أجل المستقبل المتوسط والبعيد.