موقع الإمام الشيرازي
أكد الإمام الشيرازي
الراحل (قده) قبل ما يقارب ربع قرن أن "عالمنا اليوم يشهد حركة
قوة وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة
توجب تغيراً وتغييراً شديداً، الأمر الذي يتطلب تكييف أنفسنا
مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل، لاسيما اذا كان
مضمون المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا". ومن خلال كتاب (فقه
المستقبل) دعا (قده) إلى تأسيس "مراكز الدراسات المستقبلية
لمعرفة المستقبل ومتغيراته، لأجل أن نكون صناعاً للمستقبل أو
من صنّاعه على الأقل، ولكي نكيف أنفسنا مع تلك المتغيرات"..
وهكذا، فإن كتاب (فقه المستقبل) يُعَد ريادة مميزة في عالم
الفكر والفقه على المستوى العربي والإسلامي على حد سواء.
----------------------------------
الاهتمام بالدراسات المستقبلية حاجة
حياتية وضرورة استراتيجية، وقد أصبح (علم المستقبليات) أحد
العلوم المهمة، وتسخر له دول العالم المتقدم أكاديميين وباحثين
من مختلف الاختصاصات، فضلاً عن توفير إمكانيات كبيرة من جامعات
متخصصة ومراكز بحوث ودراسات وتخصيصات مالية كبيرة، وكل ذلك
لتوفير دعم علمي ومنطقي للقراءة الأقرب لما سيحدث أو سيكون (أو
ما ينبغي أن يحدث أو يكون) في المستقبل القريب والبعيد.
إن المشكلة التاريخية في التعامل مع
المستقبل تكمن في القدرة على معرفته، فالحاضر شاخص بيننا،
والماضي معلومة وقائعه، لكن المستقبل يمثل المساحة الزمنية
المجهولة تماماً. وللتغلب على هذه المشكلة، سعى العقل البشري
لتطوير مناهج تفكيره نحو حل هذه المعضلة، حتى وصل إلى
(المستقبلات البديلة) التي قامت على التخلي عن فكرة معرفة
المستقبل بالمعنى الضيق، وأصبح التركيز على محاولة معرفة
الاحتمالات المختلفة التي ينطوي عليها تطور المعطيات الواقعية
مستقبلاً، ثم كيفية التدخل الواعي والمنظم في هذه البدائل
المختلفة للوصول إلى ما يراد تحقيقه فيه أو تقويض احتمالات
الخسائر إلى أبعد تقدير. ومع هذا التطور، توالت الجهود باتجاه
تطوير تقنيات منهجية تساعد على إنجاز المهمة السابقة، ولذلك
فقد وضعت للدراسات المستقبلية مناهج وتقنيات.
يشير المستقبليون الى أنه لا ينبغي
التفكير بالحاضر فقط، فالماضي والحاضر هما محطتان ينبغي أن
تكونا للتخطيط والعمل للمستقبل، فالماضي قد مضى والحاضر لحظة
عابرة، وكل ما نفكّر فيه أو نفعله اليوم سيؤثر في المستقبل.
وقد سُئِلَ العالم الفيزيائي الشهير آينشتاين عن سبب اهتمامه
بالمستقبل؟ فأجاب: "لأنني ذاهب إلى هنـاك". ويقول تشارلز
كيترنج: "اهتمامي منصب على المستقبل لأنني سأمضى بقية حياتي
فيه".
ويبين الإمام المجدد السيد محمد
الشيرازي أن التطلع نحو المستقبليات من دوافع الإنسان الفطرية،
ويقول (قده): "جُبل الناس على حب الاطلاع على ما يدور فيما
حولهم كما جبلوا على حب الاطلاع على أخبار الماضين واستشراف
المستقبل". ويقول المرجع الديني السيد صادق الشيرازي (دام
ظله): "إن واحدة من خصائص الأئمة المعصومين (عليهم السلام) هي
نظرتهم البعيدة وتفكيرهم العميق في عواقب الأمور، فلم
يكتفوا(عليهم السلام) بالنظر إلى الواقع الذي كانوا يعيشونه،
بل كانوا يأخذون المستقبل بنظر الاعتبار أيضاً".
لذلك فإن ارتباط المؤمنين المؤمنات
بـ(المستقبل) له عمق إيماني يعبق بأمل الخلاص من القهر والظلم
والجور في دولة القسط والعدل التي سيقيمها صاحب الحدث الأعظم
الذي ستشهده البشرية، فإن من الآيات الواردة في الإمام المهدي
(عجل الله تعالى فرجه)، قوله (تبارك وتعالى): (ونريد أن نمن
على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين،
ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا
يحذرون)(القصص 5). ويشهد على ذلك إضافة إلى الأحاديث الكثيرة
المروية في كتب الفريقين في تفسير الآية (ونمكّن) ما تحمله
الآية نفسها، فقد لا تجد في القرآن الكريم كله آية مشابهة
لهاتين الآيتين من هذه الجهة، حيث بلغ عدد أفعال المستقبل
فيهما على قصرهما ستة أفعال، وهي (ونريد، أن نمن، ونجعلهم
أئمة، ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم، ونري)، وما هذا التكرار في
استعمال صيغة المستقبل إلا للتأكيد على أن هذا الفعل سيقع في
المستقبل وأن وقته لم يحن بعد، فهو لم يصدر في الماضي ولا هو
صادر في الحاضر، بل إنه سيصدر في ما يأتي من الزمان ويقع
لاحقاً وفي المستقبل.
وفي إشارة منه الى (المستقبل غير
المنظور)، وتفاؤله اليقيني بالعهد المنتظر، يتناول الإمام
الشيرازي الراحل (قده) عهد ظهور الإمام الحجة المنتظر (عجل
الله فرجه)، حيث سيكون عهد القسط والعدل والحرية والسلام
والرفاه. بموازاة ذلك، فإن كتاب (فقه المستقبل)، وفي إطار
الحديث عن (المستقبل المنظور)، ينفي الإمام الشيرازي صحة مَنْ
"يعتقد أنه ليس علينا شيء من الإصلاح حتى يظهر الإمام الحجة
عجل الله فرجه". وفي كتاب (فقه المستقبل) يؤكد الإمام الشيرازي
(قده) أن معرفة المستقبل أمر واجب في الجملة، والتخطيط له واجب
آخر، لأنهما مقدمة الواجب، وهي وإن لم تكن كذلك شرعاً إلا إنها
لازمة عقلاً، وبها تتحقق أغراض المولى تعالى.
لم يذهب أحد من الكتاب المفكرين، أو من
المتخصصين في علم المستقبل الغربيين، إلى ادّعاء أن ما يصدر
عنهم من آراء أو توقعات هي (نبوءات) وأحكام أخيرة قاطعة، بل
كانوا يدركون دائماً أنها مجرد احتمالات أمكن الاستدلال عليها
من القراءة العقلانية المتأنية لسير الأحداث ومتابعة الأوضاع
والظروف العامة المحيطة بالمجتمع العالمي، وانعكاس هذه الأوضاع
والظروف على الأنشطة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية
والثقافية والعلمية المختلفة. فالباحث أو العالم المتخصص في
علم المستقبل يعيش بذهنه في ذلك المستقبل، وينظر إلى الغد على
أنه تاريخ يمكن قراءة اتجاهاته الرئيسية، كما أنه (أي العالم
المستقبلي) يعمل جاهداً وبأسلوب علمي دقيق على اللحاق بالغد،
والسيطرة عليه وتوجيهه قبل أن يفاجئه ذلك الغد بحقائقه ووقائعه
فيتحكم في حياته و يسلبه حريته في التفكير والعمل.
كذلك يتمتع الباحث أو العالم المستقبلي
بقدرة فائقة على الإحاطة الشاملة بالأوضاع السائدة في المجتمع
الذي يعيش فيه، وفي فرع تخصصه المعرفي الدقيق وتحليل هذه
المعطيات في ضوء الاتجاهات العالمية، حتى يمكنه إعداد الأذهان
للمتغيرات والمستجدات المتوقعة، ووضع الخطط الملائمة للتعامل
معها على المدى القريب والمدى البعيد، مع الاستناد إلى دراسات
ميدانية دقيقة وعدم الركون إلى الظن والتخمين إلا في الحدود
التي تسمح له بها المعلومات المؤكدة اليقينية.
وفي الإطار العملي لاستشراف المستقبل،
ينبغي الإشارة الى مباحث السيد المؤلف في كتاب (الفقه: الرأي
العام والإعلام) حيث عالج التنبوء المستقبلي والرأي العام،
باعتباره أحد خلفيات الرأي العام الذي يصنع الأحداث، ولا يراد
به التنبّوء الناشئ من الوحي والإلهام، ولا من شفافية النفس،
بل من قرائن الماضي والموازين العلمية الدقيقة، مبيناً إن
عملية التنبوء المستقبلي، تستوجب حشد كم كبير من المعلومات
لرصد تحرك الأحداث بخطها البياني لغرض توقّع الحدث القادم أو
الحالة المتوقعة مستقبلاً، ويجري ذلك باستخدام التقانات
المتطورة التي وفرتها مجالات التقدم في تقانة المعلومات إثر
الثورة المعلوماتية.
وقد أكد (قده) أن عملية التنبوء تمكِّن
الإنسان من تنظيم البحث العلمي بجوانبه المختلفة من اللازم
والملزوم والملازمة، لأن كل الأشياء تحف بها هذه الأمور
الثلاثة، سواءاً التغيرات الطبيعية أو الفلكية، وقد أحال السيد
المؤلف جزئية التنبوء المستقبلي إلى أدوات الاستدلال المنطقي
غير المباشر. وقد عبّر بحث التفصيلي عن الجانب العلمي
والمجتمعي في الإعلام وأدواته، من خلال أهمية دراسة التنبؤ
المستقبلي الذي غالباً ما تبنى عليه التصورات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية على مستوى التخطيط الاستراتيجي، برغم
أن التنبؤ ليس قطعياً بما يقود إليه من استدلال واستنتاج، لكنه
الغالب الذي يصلح البناء عليه والتخطيط استناداً إليه، وأشارت
مداخلة الدراسة على الموضوع في الحلقة السابقة الى مرجعية
التنبوء من (مبدأ الحتمية) من العلوم التجريبية في المناهج
الخاصة العقلية في المنطق، المستند الى القانون العقلي الخامس
عند المناطقة (تؤدي الأسباب ذاتها في الظروف ذاتها الى النتائج
ذاتها)، والى الدعم العلمي التقاني في علوم الرياضيات والإحصاء
والإدارة العلمية وبحوث العمليات والمعلوماتية والبرمجة وهندسة
الاتصالات والحاسبات الذي وفرته في تطوير الإمكانات المادية
والمعرفية والفلسفية ضمن حقل الدراسات المستقبلية ومناهج
التنبوء المستقبلي.
ويتذكر السيد المؤلف في هذا الصدد،
ثلاثة كتب صدرت له كانت قد تضمنت أفكاراً مستقبلية مبنية على
أساس التنبؤ المستقبلي، وقد تحققت القراءات فيها لاحقاً لأنها
استندت إلى قراءة علمية دقيقة مدعمة بقاعدة معلوماتية وأداة
فكرية استنباطية كفوءة:
الأول كتاب (ماركس ينهزم) الذي سبق سقوط
الاتحاد السوفيتي بـ(عشر سنوات)، وقد تنبأ(قده) بذلك.
الكتاب الثاني (الغرب يتغير) الذي تنبأ
بعدم سقوط النظم الغربية، لكنها ستغير من أوضاعها
واستراتيجيتها.
الكتاب الثالث (فقه المستقبل) الذي أكد
فيه أن مستقبل العالم واتجاهه نحو تبيين الإسلام الحقيقي، لا
الإسلام الدعائي، الذي تدعيه بعض الأنظمة الإسلامية.
في السياق، وفي ضوء التغيير السريع في
المجتمعات المعاصرة، دأبت الدول والمؤسسات الدولية والإقليمية،
وخاصة في الغرب على محاولة تطوير قدراتها في معرفة مستقبل
الظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالإضافة إلى
المجالات التقنية بشكل علمي. وأصبح حقل علم (الدراسات
المستقبلية) في الدول المتقدمة وجامعاتها ومؤسساتها جزء من
عمليات صنع القرارات الاستراتيجية. وإن ثلثي الدراسات
المستقبلية تقوم بها المؤسسات العسكرية والشركات المتعددة
الجنسية، كما أن 97% من الإنفاق على هذه الدراسات يتم في الدول
المتقدمة، بينما ينفق العالم الثالث 3% فقط. أما في العالم
العربي فإن (الدراسات المستقبلية) حقل يتميز بضعف الاهتمام فيه
بالإضافة إلى الشكل غير العلمي.
في الوقت أكد الإمام الشيرازي الراحل
(قده) قبل ما يقارب ربع قرن أن "عالمنا اليوم يشهد حركة قوة
وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب
تغيراً وتغييراً شديداً، الأمر الذي يتطلب تكييف أنفسنا مع هذا
التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل، لاسيما اذا كان مضمون
المستقبل مختلف جذرياً عن حاضرنا". ومن خلال كتاب (فقه
المستقبل) دعا (قده) إلى تأسيس "مراكز الدراسات المستقبلية
لمعرفة المستقبل ومتغيراته، لأجل أن نكون صناعاً للمستقبل أو
من صنّاعه على الأقل، ولكي نكيف أنفسنا مع تلك المتغيرات"..
وهكذا، فإن كتاب (فقه المستقبل) يُعَد ريادة مميزة في عالم
الفكر والفقه على المستوى العربي والإسلامي على حد سواء، وكما
أن للإمام الشيرازي الريادة في كتاب (فقه المستقبل)، فإنه تفرد
في مجالات فقهية عديدة، وذلك من خلال موسوعته الفقهية التي
تجاوزت أجزاؤها المائة والخمسين مجلداً، التي استوعبت جل مفاصل
الدين والفكر والإنسان والدولة والحياة، ومن عناوينها:
السياسية، والإقتصاد، والاجتماع، والحقوق، والقانون والإدارة،
والدولة، والحكومة، والبيئة، والتاريخ، والطب، وعلم النفس. ولم
ينحصر تفرده بالمجالات الفقهية التي لم يقاربها غيره، بل
شمولية (تفصيلاً وتفريعاً وسعة وتعدداً) غير مسبوقة في تناول
أبواب الفقه الشائعة، وهذا التفرد، وتلك الشمولية توجته سيداً
للفقهاء وإماماً للمجددين، وعلماً للمصلحين، وهو ما دعا مؤسسات
فكر وفقاهة الى تجديد الدعوة الى إعادة إنتاج موسوعة الإمام
الشيرازي الفقهية، وهي الموسوعة الأضخم بتاريخ الفقه الإسلامي.
هوية الكتاب:
اسم الكتاب: فقه المستقبل
الكاتب: الإمام السيد محمد الحسيني
الشيرازي
الناشر: مؤسسة الوعي الإسلامي - بيروت
/ لبنان
الطبعة: الأولى / 1434هـ
عدد الصفحات : 400 صفحة / وزيري
من عناوين الكتاب:
المستقبل والأهداف الكبيرة.
كيف نتنبأ بالمستقبل.
العالم ومراكز الدراسات المستقبلية.
المستقبل المنظور.
المستقبل غير المنظور.
المستقبل في عصر الظهور.
المستقبل الأخروي.
20/ ربيع الثاني/1446هـ |