الفساد تحت المظلة السياسية وعوائق الإصلاح في العراق



 

موقع الإمام الشيرازي

 

أصدر المعهد الملكي للشؤون الدولية "تشاتام هاوس" في لندن ورقة بحثية(27 صفحة) بعنوان "الفساد تحت المظلة السياسية وعوائق الإصلاح في العراق" وذلك بتاريخ 17 حزيران (يونيو) 2021 تضمنت وصفاً وتحليلاً للوضع في العراق؛ خصوصاً التداعيات الخطيرة للفساد المستشري في مفاصل الدولة العراقية على حياة العراقيين وحاضرهم ومستقبلهم، ومن ثم تساعد هذه الورقة البحثية المهمة في فهم العوائق التي تحول دون إصلاح الدولة والاقتصاد في العراق.

كاتبا الورقة البحثية هما:

1.  (تويب دودج)؛ وهو زميل مشارك في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في"تشاتام هاوس"، وهو أيضاً أستاذ العلاقات الدولية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في لندن، وله العديد من الأوراق البحثية والكتب عن العراق، منها، "العراق: من الحرب الى استبداد جديد" روتليدج، 2012، وله أيضاً "ابتكار العراق: الإخفاق في بناء الأمة وإنكار التاريخ" منشورات جامعة كوملبيا وهريست آند كو.، 2003.

2.  (ريناد منصور) وهو زميل أبحاث أول، ومدير مشروع مبادرة العراق في"تشاتام هاوس". وتُعنى أبحاثه بالعلاقات بين الدولة والمجتمع والاقتصاد السياسي للعراق والشرق الأوسط، وهو أيضاً باحث أول في الجامعة الأمريكية في العراق، السليمانية. وكان محاضراً في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (LSE)،كما عمل أيضاً في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، ومعهد العراق للدراسات الاستراتيجية في بيروت، وفي جامعة كامبريدج، حيث حاضر فيها منذ عام 2015 .

تركز الورقة على دوافع الفساد تحت مظلّة السياسة وأثره في البلاد حيث "أصبح هذا النوع من الفساد أكثر تأثيرا ًعلى تماسك الدولة وعملها اليومي مقارنة بالفساد المحدود النطاق أو الشخصي."

وتكشف الورقة أن تمرير الفساد يجري في بعض جوانبه تحت "المظلة السياسية" من خلال نظام "الدرجات الخاصة"، وهو "النظام الذي تتنافس فيه الأحزاب الحاكمة على تعيين كبار موظفي الخدمة المدنية للإشراف على طرح العطاءات الحكومية، فضلاً عن مسائل أخرى. ويعمل هؤلاء الموظفون الرسميون تحت حامية الأحزاب السياسية ويضمنون تدفق الموارد من الوزارات ومؤسسات الدولة الى رعاتهم. كما يمارسون دوراً بمثابة نقاط عرقلة لإعاقة إنجاز العقود في حال لم تكن مفيدة للأطراف المعنية".

وتبين هذه الورقة البحثية أن "نظام الدرجات الخاصة" من الناحية العملية يعني أن "السلطة في العراق لا تكمن فبالمؤسسات الرسمية والشفافة وفي التسلسل الهرمي للدولة أو في أيدي رؤساء الوزارات، بل إن السلطة السياسية تكمن في الأحزاب السياسية والموالين لها"، بالتالي فإن كبار موظفي الخدمة المدنية الموالون "يُدرون إيرادات لأحزابهم من خزائن الدولة."

كاتبا الورقة البحثية يذكران أن "صناّع السياسات الدوليين أعربوا عن إحباطهم من تعذر التعامل مع أصحاب السلطة الحقيقيين في الدولة العراقية عند المشاركة في العمليات الدبلوماسية الرسمية، وذلك لأن الوزراء العراقيين، ابتداء من رئيس الوزراء ومن هم دونه، يواجهون قيوداً لا تسمح لهم بسن السياسات الإصلاحية التي يصرحون بتأييدهم لها."

يرى الكاتبان أنه "بدلاً من السعي لفهم السياسة والدولة في العراق من النواحي الهرمية والمؤسسية والقانونية والعقلانية، يجب على واضعي السياسات الدوليين والمحليين تشجيع الإصلاح فقط حينما يتوفر لديهم فهم أساسي لكيفية عمل ديناميات السلطة عبر المنظومة العراقية بأكملها. ولا يتطلب هذا مجرد تحديد شبكات الوزراء والقادة الحكوميين الذين يتعاملون معهم على أساس يومي فقط،ولكن أيضاً تحديد مناصب كبار موظفي الخدمة المدنية الذين يديرون مؤسسات الدولة وتأثيرهم فيها."

يشير الكاتبان الى أنه "تبعاً لما بينته المظاهرات التي عمت بغداد وبلدات ومدن جنوب العراق بدءاً من تشرين الأول/أكتوبر 2019 فصاعداً، فإن الفساد تحت المظلة السياسية يُعد أحد الدوافع الرئيسية للنفور الشعبي في العراق. والى أن تُفرض قيود فاعلة على مثل هذا الفساد، ستجد النخبة الحاكمة في العراق صعوبة في إعادة تأسيس أي شكل من أشكال الشرعية الشعبية أو تحقيق الاستقرار في البلاد."

تظهر الورقة البحثية أنه "على مدار سنوات، دفعت الأحزاب السياسية العراقية بمسألة تسييس مؤسسات الدولة الرسمية لتشمل النظام الإداري للدولة، فعبر المؤسسات الحكومية، من الوزارات الى اللجان المستقلة، تُنصِّب الأحزاب الموالين في مناصب يخدمون فيها مصالح الحزب قبل مصالح الدولة أو الشعب العراقي بعامته."

تعتبر الورقة البحثية أن نظام الدرجات الخاصة يُعَد"أحد المجالات التي اكتسبت فيها هذه المنافسة على المناصب العليا في الخدمة المدنية أهمية خاصة، فقد هيمن مئات المسؤولين في نظام الدرجات الخاصة المسسيسة، المنتشرين في جميع المؤسسات الرسمية للدولة، على الحكومة العراقية وظلوا بمامن من المحاسبة منذ عام 2005 على الأقل، وذلك بعد الانتخابات الوطنية الأولى إبّان سقوط نظام صدام حسين. وفي التنافس فيما بينهم، يُسخِّر أصحاب الدرجات الخاصة أصول الوزارات التي يعملون فيها لصالح الأطراف التي يمثلونها."

يضيف الكاتبان أنه "في الوقت الراهن، وعلى الرغم من أن بعض الوزراء هم من التكنوقراط المستقلين ممن يعدون من الناحية العملية فوق مطالب السياسة الحزبية، إلا أنهم في الواقع غالباً ما يتصرفون بإيعاز من موظفي الخدمة المدنية الذين يديرون وزاراتهم. وعلى هذا النحو، يصبح توقيع الوزير على عقد حكومي صادر عن وزارة معينة مجرد ختم مطاطي يضفي الطابع الرسمي على اتفاق يبرمه خلف الكواليس مساعدون متحالفون مع حزب أو أحزاب سياسية معينة. ومن جهة أخرى، يضطلع هؤلاء الموظفون المدنيون أحياناً بدور نقاط عرقلة لإيقاف القرارات الوزارية.وقد أدى هذا النهج في تشكيل الحكومات وما استتبعه من أداء على مستوى الدولة الى توسع متسارع في جداول الرواتب الحكومية، والرعاية السياسية للفساد المستشري، وأزمة ميزان المدفوعات التي وجدت الحكومة العراقية نفسها فيها حالياً. إن طبيعة هذا النظام السياسي وترسخه في الحياة العامة يعنيان أن تحقيق إصلاح اقتصادي هادف ومستدام سيكون صعباً للغاية."

يشير الكاتبان الى تركيز "الاحتجاجات الجماهرية التي عمت بغداد وجنوب العراق منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019 وصاعداً - المعروفة باسم ”ثورةأكتوبر“ أو“ انتفاضة أكتوبر“ تركيزاً خاصاً على هذا النظام السياسي. وعلى عكس الاحتجاجات السابقة منذ عام 2009،لم يكن المتظاهرون الشباب يطالبون بشكل أساسي بخدمات أفضل أو بفرص عمل، كما أنهم لم يدعوا الى تنحية حزب أو زعيم سياسي معني. وبدلاً من ذلك، طالبوا بإنهاء المحاصصة - وهي عملية تقاسم السلطة العرقية والطائفية التي ألقوا باللائمة عليها في إخفاقات النظام السياسي بعد عام2003 .كان هؤلاء المتظاهرون أول مجموعة رئيسية داخل المجتمع العراقي استنتجت أن العائق الرئيسي للإصلاح ليس في الأساس الفساد الشخصي أو المحدود النطاق أو الإفراط في وضع السلطة في الأيدي الخطأ. لقد استهدفوا بدلاً من ذلك آليات النظام نفسه، وكيف ُتمكِّن هذه الآليات الأحزاب السياسية الرئيسية من تقاسم الثروة والسلطة المكتسبة من خلال بلوغ موارد الدولة العراقية بواسطة الفساد."

في السياق، تتطرق الورقة البحثية الى الفهم السائد للفساد في العراق، حيث يقول الكاتبان أنه "غالباً مايُفهَم الفساد في العراق على أنه جريمة فردية مدفوعة بالجشع الشخصي ونزوعٌ لخرق القانون من أجل الثراء الذاتي. وقد ركّز معظم الذين انتقدوا الفساد أو سعوا الى شن حملة ضده على الدوافع الشخصية لمراكمة الثروة غير المشروعة.إلا أن الفساد السياسي الذي كان في جوهر النظام السياسي بعد عام 2003 أصبح أكثر أهمية بكثير لتماسك الدولة وعملها اليومي،  إذ يجري هذا الفساد الممنهج ويُجاز على مستوى النخبة. فالأمر ينطوي على قرار جماعي وليس فردياً لإتاحة الحصول غير العادل على موارد الدولة لصالح الطبقة الحاكمة بأكملها. ووفقاً لتعريف منظمة الشفافية الدولية، فإن الفساد السياسي هو ”التحايل على السياسات والمؤسسات والقواعد الإجراية في تخصيص الموارد والتمويل من قبل صناع القرار السياسي، الذين يسيئون استخدام موقعهم للحفاظ على سلطتهم ومكانتهم وثروتهم“. وقد أدى الفساد تحت مظلة السياسة الى ربط القيادة العراقية بعد عام 2003 ببعضها البعض في وحدة شاقّة ومتأهبة."

وكشف الكاتبان الى أنه "بعد ما يقرب من عقدين من الغزو والاحتلال، من الصعب تقدير الحجم الإجمالي للموارد التي اقتطعت خلال الفساد تحت مظلة السياسة. وفي عام 2014 ، َّ قدر أحمد الجلبي، عندما كان رئيس اللجنة المالية في مجلس النواب العراقي، أن البلاد خسرت (551 مليار دولار) بسبب الفساد خلال رئاستي وزراء نوري المالكي.وفي الفترة التي سبقت الانتخابات الوطنية لعام 2018، قدرت لجنة الشفافية البرلمانية العراقية أن ما لا يقل عن (320 مليار دولار) من الأموال الحكومية اختفت على مدار الخمسة عشرة عاما ًالسابقة. وقدر علي علاوي في نهاية ولايته الأولى وزيراً للمالية 2005-2006) أن الفساد حوَّل ما بين(25 و30 في المائة) من ميزانية الحكومة الى الأحزاب السياسية الحاكمة. وفي عام 2020، في فترة ولايته الثانية وزيراً للمالية، قدَّر أن العراقيين يحتفظون بمبلغ يتراوح ما بين(100 مليار الى 300 مليار دولار) في الخارج، مشيراً الى أن ”الغالبية العظمى من هذه الأصول جرى الحصول عليها بصورة غير قانونية“.وقدَّر مسؤول كبير عن قطاع خدمي كبير أن وزارته وحدها خسرت (80 مليار دولار) بسبب الفساد تحت مظلة السياسة.

ومع ذلك، ولأسباب سياسية، لم يجر تحقيق جنائي أو شفاف في التكلفة المالية الدقيقة للفساد تحت مظلة السياسة في العراق."

توصي الورقة البحثية أنه "يحتاج أولئك الذين يسعون لتعزيز الإصلاح الى ضمان إرساء المسائلة على مستوى الدرجات الخاصة. إن المؤسستين الرئيسيتين في العراق، المنوط بهما مكافحة الفساد هما ديوان الرقابة المالية وهيئة النزاهة، ورغم أن الهيئتين تعانيان من التسييس هما أيضاً، إلا أن لكل منهما دور في تحسين شفافية الحكومة والمسائلة. وعلى سبيل المثال من خلال التحقيق في الفساد على مستوى الدرجات الخاصة وتحديد المعنيين الذين يتصرفون بحصانة سياسية.

وينبغي أن تبدأ العملية بمراجعة لجميع عقود التعيين بموجب نظامي الوكالة والتكليف لمعرفة المسؤولين "المؤقتين" الذين ما يزالون في وظائفهم وأولئك الذين يشغلون مناصب لم تحظ بموافقة مجلس الوزراء. ويجب على هيئة تحقيق مستقلة الوقوف على عمل الدرجات الخاصة في جميع أنحاء الدولة للتأكد من أن هذه المناصب تندرج تحت قواعد كل وزارة وأن أصحابها يعملون ضمن قانون الخدمة المدنية. وإن أي محاولة كليّة التوجه لنزع الطابع السياسي عن الخدمة المدنية ستكون مهمة جسيمة وفي جميع الاحتمالات غير قابلة للتحقيق سياسياً. لذلك، ينبغي أن يكون الهدف الرئيسي في أي محاولة لإصلاح النظام السياسي في العراق مساءلة الرتب العليا في الخدمة المدنية. وإذا لم يخضع تعيين هؤلاء المسؤولين وتصرفاتهم لتدقيق موسع، فإن أي محاولة لإصلاح النظام الأوسع ستبوء بالفشل."

هذه الورقة البحثية قد صدرت منذ عام؛ مع ذلك، أحداث اليوم ومجرياتها واستشراف مآلاتها تؤكد صحة ودقة وصف وتحليل الكاتبين للوضع في العراق وأنه ما زال وضعاً مأزوماً ويجر البلاد الى الأسوأ.

رابط الورقة البحثية كاملة:


https://www.google.com/url?sa=t&rct=j&q=&esrc=s&source=web&cd=&cad=rja&uact=8&ved=2ahUKEwjB5oXu-dj6AhVeomoFHWLbCqMQFnoECA4QAQ&url=https%3A%2F%2Fwww.chathamhouse.org%2Fsites%2Fdefault%2Ffiles%2F2021-11%2F2021-06-17-politically-sanctioned-corruption-iraq-arabic-dodge-mansour.pdf&usg=AOvVaw0dp-9nefS8R2AFAz8Dps4U

 

15/ ربيع الأول/1444هـ