بعد خمسين عاماً .. الحرب الأهلية تؤلم اللبنانيين


 

 

موقع الإمام الشيرازي

 

المناهج التعليمية، التي لا تزال تتجنب تدريس تاريخ الحرب بشكل موحد، تفوت فرصة بناء وعي جماعي يقاوم الانقسامات. الأزمات المتتالية، من انفجار مرفأ بيروت عام 2020 إلى الانهيار الاقتصادي، تجعل التركيز على الشفاء الاجتماعي ترفاً بالنسبة للكثيرين الذين يكافحون للبقاء. الذكرى الخمسون للحرب الأهلية ليست مجرد استرجاع للماضي، بل دعوة للتفكير في المستقبل. اللبنانيون، الذين عرفوا كيف يصمدون في وجه أقسى الظروف، يملكون القدرة على إعادة بناء مجتمعهم. لكن هذا يتطلب خطوات ملموسة: دعم الصحة النفسية للمتضررين من الحرب وأزماتها، وتعزيز التعليم الذي يركز على القيم المشتركة، وتشجيع الحوار بين الأجيال والطوائف. الأمل يكمن في الأفراد – الجار الذي يساعد جاره، والشاب الذي يحلم بدولة عادلة، والأم التي تزرع في أبنائها حب الوطن بدلاً من الكراهية.

---------------------------

في الثالث عشر من أبريل 2025، يقف لبنان أمام محطة تاريخية مؤلمة: الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية (1975-1990). تلك السنوات الخمس عشرة لم تكن مجرد صراعات سياسية أو طائفية، بل كانت جرحاً إنسانياً عميقاً أثر في كل بيت وروح. اليوم، بينما يتذكر اللبنانيون تلك الحقبة، يتردد صدى قصص الخسارة والصمود، ليذكّروا الجميع بأن الحرب، رغم توقف أصوات الرصاص، لم تغادر النفوس بعد.

ندوب إنسانية لا تُمحى

الحرب الأهلية لم تترك أحداً دون أن تمسّه. عائلات فقدت أبناءها في قصف عشوائي أو اشتباكات، أطفال نشأوا في ملاجئ بدلاً من المدارس، وأمهات تحولن إلى ركائز صلبة لعائلات مشتتة. أكثر من 100 ألف قتيل ومئات الآلاف من المهجرين ليسوا مجرد أرقام، بل قصص حياة توقفت فجأة. هناك من لا يزال يبحث عن أحباء اختفوا في ظروف غامضة، وآخرون يعيشون مع ذكريات المجازر التي شهدوها في صبرا وشاتيلا، الدامور، أو غيرها من المحطات المأساوية.

في أحياء بيروت، طرابلس، صيدا، وغيرها، لا تزال الجدران تحمل علامات الرصاص، كأنها شاهد صامت على تلك الأيام. لكن الجروح الأعمق ليست في الحجر، بل في النفوس. كثيرون من جيل الحرب يعانون من صدمات نفسية لم تُعالج، بينما يحمل أبناؤهم، الذين لم يعيشوا الحرب، إرثاً من القصص المؤلمة والانقسامات الاجتماعية. الأحياء التي كانت يوماً مختلطة تحولت إلى جيوب طائفية، مما قلّص فرص التفاعل اليومي بين أبناء المجتمع الواحد.

المجتمع اللبناني: بين الانقسام والصمود

الحرب غيّرت النسيج الاجتماعي للبنان بشكل جذري. العائلات التي كانت تجتمع في الأعياد والمناسبات وجدت نفسها مفككة، إما بسبب الهجرة أو الانقسامات الطائفية التي زرعتها السياسة. لكن، وسط هذا الخراب، برزت قصص إنسانية ملهمة. جيران لجأوا إلى بعضهم لحماية أطفالهم، أطباء عملوا تحت القصف لإنقاذ الجرحى بغض النظر عن انتماءاتهم، ومتطوعون شقوا طريقهم عبر الحواجز لتوزيع الطعام والدواء. هذه الأفعال، رغم بساطتها، كانت بمثابة ضوء في ظلام الحرب، تذكّر بأن الإنسانية يمكن أن تنتصر حتى في أحلك اللحظات.

اليوم، يعاني المجتمع اللبناني من تداعيات الحرب بأشكال جديدة. الأزمة الاقتصادية التي بدأت عام 2019 زادت من الضغوط على الأفراد، حيث باتت العائلات تكافح لتأمين أبسط احتياجاتها. الفقر، الذي تجاوز 80% من السكان، أعاد إلى الأذهان مشاهد الحرمان التي عاشها اللبنانيون خلال الحرب. شباب اليوم، الذين خرجوا إلى الشوارع في انتفاضة 2019، يعبّرون عن إحباطهم من نظام عجز عن حمايتهم من شبح الماضي. لكنهم، في الوقت ذاته، يحملون أملاً في بناء مجتمع يتجاوز الحواجز الطائفية، حيث يتحدثون عن المواطنة والمساواة كبديل للانقسامات التي غذّت الحرب.

جهود المصالحة: خطوات صغيرة نحو الشفاء

على المستوى الاجتماعي، هناك مبادرات تحاول مداواة جروح الحرب. جمعيات مثل "مقاتلون من أجل السلام" تجمع قدامى المحاربين من فصائل مختلفة ليرووا قصصهم ويدعوا إلى الوحدة. منتديات حوارية في الجامعات والمراكز الثقافية تسعى لتعريف الجيل الجديد بحقائق الحرب بعيداً عن الروايات الطائفية. أمهات المفقودين، اللواتي لا يزلن يطالبن بالحقيقة عن مصير أبنائهن، أصبحن رمزاً للصمود والأمل في إغلاق هذا الملف الإنساني.

لكن هذه الجهود تواجه تحديات كبيرة. غياب المحاسبة عن جرائم الحرب، بما في ذلك عمليات الخطف والإعدامات، يجعل من الصعب تحقيق مصالحة حقيقية. كما أن المناهج التعليمية، التي لا تزال تتجنب تدريس تاريخ الحرب بشكل موحد، تفوت فرصة بناء وعي جماعي يقاوم الانقسامات. الأزمات المتتالية، من انفجار مرفأ بيروت عام 2020 إلى الانهيار الاقتصادي، تجعل التركيز على الشفاء الاجتماعي ترفاً بالنسبة للكثيرين الذين يكافحون للبقاء.

نحو مستقبل إنساني

الذكرى الخمسون للحرب الأهلية ليست مجرد استرجاع للماضي، بل دعوة للتفكير في المستقبل. اللبنانيون، الذين عرفوا كيف يصمدون في وجه أقسى الظروف، يملكون القدرة على إعادة بناء مجتمعهم. لكن هذا يتطلب خطوات ملموسة: دعم الصحة النفسية للمتضررين من الحرب وأزماتها، وتعزيز التعليم الذي يركز على القيم المشتركة، وتشجيع الحوار بين الأجيال والطوائف. الأمل يكمن في الأفراد – الجار الذي يساعد جاره، والشاب الذي يحلم بدولة عادلة، والأم التي تزرع في أبنائها حب الوطن بدلاً من الكراهية.

لبنان يتذكر حرباً ما زالت تداعياتها تؤلم اللبنانيين، لأن آثارها تعيش في الذاكرة الجماعية والتحديات اليومية. لكن في قلب كل لبناني، هناك أمل بأن تكون هذه الذكرى بداية لشفاء إنساني حقيقي، يعيد للبلاد إشراقها كمكان للتعايش والحياة.

16/ شوال / 1446هـ