الإمام الشيرازي الراحل .. رؤية حول الدولة وتقاطعها مع نظريات الدولة الحديثة


(الذكرى الرابعة والعشرون لرحيله قدس سره)

 

موقع الإمام الشيرازي

 

يقول الإمام الشيرازي (قدس سره): "الدولة أرقى التشكيلات البشرية، لإدارة أمور جماعة كبيرة، في مختلف شؤونها، وكلما تقدم العلم والصناعة، وكثر عدد السكان، وتعقدت أحوال الأمم، كان الاحتياج إلى الدولة أكثر. إذا لم تجمع الدولة في منهاجها بين المثالية والواقعية ينشأ الفراغ الذي من الممكن أن يستغله أعداء الإسلام لضرب الإسلام ودولته. أيضاً، الدولة مؤسسة من مؤسسات المجتمع، وإذا ما أرادت الدولة السيطرة على مؤسسات المجتمع، فإنها ستُسْتَهلَك وتفقد شيئاً فشياً وظيفتها الأساسية. على سبيل المثال، إذا أخذت الدولة الأعمال من أيدي الناس، وجعلت مكانهم الموظفين مات الاندفاع ومات التنافس. وهكذا، فإن الوظيفة الأساسية للدولة هي الإدارة والمراقبة."

-------------------------

تُعدّ مقولة المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1347 – 1422هـ) حول الدولة تعبيراً فكرياً عميقاً يعكس رؤيته لدور الدولة في المجتمع، حيث يراها "أرقى التشكيلات البشرية" التي تتولى إدارة شؤون الجماعات الكبيرة في ظل تعقيدات العصر الحديث. يقدم (قدس سره) في هذه المقولة تصوراً يجمع بين الفلسفة السياسية الإسلامية والتحليل الواقعي لاحتياجات المجتمعات المعاصرة، مع التأكيد على ضرورة التوازن بين المثالية والواقعية في منهج الدولة، وتحديد وظيفتها الأساسية في الإدارة والمراقبة؛ دون التغول على مؤسسات المجتمع. هذا المقال، سنحلل يحلل مضمون المقولة ويستكشف مدى تقاطعها مع نظريات الدولة الحديثة، مثل النظرية الليبرالية، والاشتراكية، ونظرية العقد الاجتماعي.

الدولة تشكيل بشري راقٍ وضرورة تاريخية

يبدأ الإمام الشيرازي مقولته بالتأكيد على أن الدولة هي أرقى التشكيلات البشرية، وهي نتاج تطور طبيعي للمجتمعات البشرية التي تحتاج إلى تنظيم مركزي لإدارة شؤونها المتنوعة. يربط هذا التصور بين تقدم العلم والصناعة، وزيادة عدد السكان، وتعقد العلاقات الاجتماعية والسياسية، مما يجعل وجود الدولة ضرورة ملحة تزداد مع الزمن. هذا الطرح يتماشى إلى حد كبير مع نظريات الدولة الحديثة، خاصة نظرية العقد الاجتماعي التي طوّرها فلاسفة مثل توماس هوبز و جون لوك و جان جاك روسو. ففي رؤية هوبز، مثلاً، تُنشأ الدولة لتجنب "حالة الطبيعة" الفوضوية، بينما يرى لوك أنها تتشكل لحماية الحقوق الطبيعية للأفراد. الإمام الشيرازي، أيضا، يعتبر الدولة استجابة لاحتياجات الجماعة، لكنه يضيف بُعداً تاريخياً وعملياً يرتبط بتطور الحضارة البشرية، مما يعكس حساسيته للتحولات المعاصرة.

التوازن بين المثالية والواقعية

يشير الإمام الشيرازي إلى أن نجاح الدولة يعتمد على قدرتها على الجمع بين المثالية والواقعية، وإلا فإن أي اختلال في هذا التوازن قد يخلق فراغاً يستغله "أعداء الإسلام" لضرب الدولة الإسلامية. هنا، يظهر البعد الإسلامي في رؤيته، حيث يربط وظيفة الدولة بأهداف دينية وأخلاقية (المثالية)، مع الأخذ في الاعتبار التحديات السياسية والاجتماعية الفعلية (الواقعية). هذا التصور يتقاطع جزئياً مع النظريات الليبرالية الحديثة التي تؤكد على أهمية المرونة في الحكم، لكنه يختلف عنها في إطاره الأيديولوجي. ففي حين تركز الليبرالية على الحرية الفردية والسوق الحرة كمثالية أساسية، يضع الإمام الشيرازي العدالة الإسلامية والحفاظ على الهوية الدينية كمحور للمثالية. ومع ذلك، فإن دعوته للواقعية تشبه ما يطرحه ماكس فيبر في تعريفه لـ "الدولة الحديثة" كمؤسسة تمتلك "الاحتكار الشرعي للعنف"، مع ضرورة تكييف هذا الاحتكار مع الظروف المحيطة.

وظيفة الدولة: الإدارة والمراقبة وليس السيطرة

في الجزء الأكثر إثارة للاهتمام من المقولة، يحدد الإمام الشيرازي وظيفة الدولة الأساسية في "الإدارة والمراقبة"، محذراً من مخاطر تدخلها المفرط في مؤسسات المجتمع. يرى أن الدولة، إذا سيطرت على كل شيء، ستفقد فعاليتها تدريجياً، ويستشهد بمثال اقتصادي واضح: إذا استولت الدولة على الأعمال من الأفراد واستبدلتهم بموظفين، فإن ذلك سيقتل روح التنافس والإبداع. هذا التحليل يتماهى بشكل لافت مع "النظرية الليبرالية الحديثة"، وتحديداً رؤية آدم سميث و جون ستيوارت ميل، اللذين دعيا إلى تقليص دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع لصالح الحرية الفردية والمبادرة الخاصة. كما يتقاطع مع مفهوم "الدولة الحارسة"Night-watchman State  في الفكر الليبرالي، حيث تقتصر وظيفة الدولة على الحماية والتنظيم دون التدخل المباشر في الحياة اليومية.

لكن الإمام الشيرازي يبتعد عن الليبرالية الكاملة بتأكيده على أن الدولة ليست كياناً منفصلاً عن المجتمع، بل مؤسسة ضمن مؤسساته، مما يعكس رؤية إسلامية تقليدية ترى في الدولة أداة لخدمة الجماعة وليس كياناً متعالياً فوقها. هذا الموقف يضعه في نقد ضمني للدولة الاشتراكية التي تسعى للسيطرة المركزية على الاقتصاد والمجتمع، كما في النموذج السوفييتي، حيث يرى أن مثل هذا التدخل يؤدي إلى "استنزاف" الدولة وفقدان وظيفتها الأساسية.

التقاطع والاختلاف مع النظريات الحديثة

من خلال هذا التحليل، نجد أن رؤية الإمام الشيرازي للدولة تتقاطع مع النظريات الحديثة في عدة نقاط:

أولاً، فكرة الدولة كضرورة تاريخية تتفق مع تطور مفهوم الدولة في الفكر الغربي منذ عصر التنوير.

ثانياً، دعوته للتوازن بين المثالية والواقعية تشبه البراغماتية التي تطورت في الفكر السياسي الحديث.

ثالثاً، تحديده لوظيفة الدولة في الإدارة والمراقبة يتماشى مع التصور الليبرالي للدولة المحدودة.

لكن، الاختلاف يكمن في الإطار الأيديولوجي والثقافي. فإن الإمام الشيرازي ينطلق من رؤية إسلامية ترى الدولة كأداة لتحقيق العدالة الدينية والاجتماعية، وليس مجرد كيان علماني يحمي الحريات الفردية أو يدير الموارد. كما أن تحذيره من "أعداء الإسلام" يضيف بُعداً دفاعياً خاصاً لا نجده في النظريات الغربية التقليدية.

أيضاً، يرى (قدس سره) أن الدولة (أو أهل الحكم أو الأحزاب) التي تدعي أنها تحكم بحكم الإسلام لكنها تستبد، وتظلم، وتقمع، إنما هي تخون الشعب، وتسيء للإسلام.

هذا يجعل رؤيته مزيجاً فريداً بين الفكر الإسلامي والتحليل العملي للدولة الحديثة. يقول الإمام الشيرازي: "الإسلام الذي وصل إلينا إنما كان من أثر الفضائل الكريمة والأخلاق العظيمة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، بالتالي، أي قائد أو حاكم أو مسؤول إسلامي يجب أن يتحلى بأكبر ما يمكن من الخلق الرفيع، وأن يتعامل بسلوك لطيف ونبيل مع الناس لكي يجلبهم إلى نور الإسلام، أو لكي يُبقي المسلمين منهم في الإسلام."

ويوضح (قدس سره) بالقول "السياسي الذي يريد تزييف الدين، أو الذي يتظاهر بالتدين؛ في مجتمع متدين عموماً، لا يستطيع الوصول الى غايته، وسرعان ما يلفظه المجتمع ويدينه ويستنكر سلوكه؛ وحتى إذا تمكن من أن يخدع المجتمع برهة من الزمان، فإنه لن يحصد سوى الفشل والخيبة والمهانة."

ختاماً

يمكن القول إن مقولة المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1928-2001) تقدم رؤية متكاملة للدولة تجمع بين الطابع الفلسفي والعملي، مع الحفاظ على هوية إسلامية واضحة. تقاطعها مع نظريات الدولة الحديثة يكمن في تأكيدها على ضرورة الدولة ككيان تنظيمي، وفي دعوتها للتوازن والمرونة في الحكم، وفي تحديدها لوظائف الدولة بما يشبه النموذج الليبرالي المحدود. لكنها تظل متميزة بإطارها الأخلاقي والديني الذي يعكس دعوة الإمام الشيرازي للعدالة والسلام واللاعنف. هكذا، تُعد هذه المقولة مساهمة فكرية تستحق التأمل في سياق دراسة الدولة من منظور إسلامي معاصر.

15/ شوال / 1446هـ