![]() |
مفهوم التمدن الإسلامي تاريخياً عند الإمام الشيرازي الراحل (الذكرى الرابعة والعشرون لرحيله قدس سره)
موقع الإمام الشيرازي
يمثل مفهوم التمدن الإسلامي عند الإمام الشيرازي رؤية متكاملة تجمع بين التحليل التاريخي والدعوة الإصلاحية. يقدم (قدس سره) قراءة عميقة ترى في التاريخ الإسلامي نموذجًا حضاريًا قائمًا على العدالة، والعلم، والإيمان، مع تحليل نقدي لمراحله واستخلاص دروس عملية للحاضر. يتميز نهجه بالجمع بين العمق الفكري والتوجه التطبيقي، مما يجعله مساهمة قيمة في الفكر الإسلامي المعاصر. تبقى هذه الرؤية دعوة للمفكرين والمجتمعات لإعادة النظر في التاريخ الإسلامي، ليس فقط لفهم الماضي، بل لبناء مستقبل يستعيد أسس التمدن الإسلامي الأصيل. وصولاً الى ما وصلت إليه البشرية اليوم من تطور في كافة مجالات الحياة. محذراً (قدس سره) من أن "أزمة الحضارة هي الابتعاد عن الدين والقيم السماوية." ---------------------------- تميز المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1347 – 1422هـ) بإرث فكري واسع شمل العديد من مجالات العلم والمعرفة، منها التاريخ. من بين مؤلفاته التاريخية، يبرز كتاب "من التمدن الإسلامي" كنموذج لرؤيته العميقة للتاريخ الإسلامي، وأساس لفهم كيفية بناء الحضارات وتراجعها. يرى (قدس سره) التاريخ أداة لاستخلاص العبر، ويركز على التمدن الإسلامي كتجربة حضارية فريدة تجمع بين القيم الروحية والإنجازات المادية. يهدف هذا المقال إلى تحليل مفهوم التمدن الإسلامي عند الإمام الشيرازي الراحل، مع التركيز على أسسه، ومراحله التاريخية، ودروس الإصلاح المستخلصة منه. (1) أسس التمدن الإسلامي يرى الإمام الشيرازي أن التمدن الإسلامي ليس مجرد إنجاز تاريخي عابر، بل نموذج حضاري قائم على أسس ثابتة مستمدة من الإسلام. في كتابه "التمدن الإسلامي"، يحدد (قدس سره) هذه الأسس في ثلاثة عناصر رئيسية: العدالة الاجتماعية، والعلم، والإيمان. يؤكد أن العدالة تشكل الركيزة الأساسية لأي تمدن ناجح، مستشهدًا بقول الله سبحانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(سورة الحديد: 25)، ليبين أن العدل هو الهدف الأسمى للرسالات السماوية، وبالتالي للحضارة الإسلامية. أما العلم، فيرى الإمام الشيرازي أنه العمود الفقري للتمدن الإسلامي، حيث يشير إلى أن الإسلام حث على طلب العلم كفريضة، وأن النهضة العلمية في العصور الإسلامية الذهبية (مثل عصر الدولة العباسية) كانت نتيجة مباشرة لهذا التوجه. يناقش كيف أن المسلمين الأوائل لم يكتفوا بنقل العلوم من الحضارات الأخرى، بل أبدعوا فيها وأضافوا إليها، كما في مجالات الطب (ابن سينا) والرياضيات (الخوارزمي). يقول (قده): "لما نضج التمدن الإسلامي وانتشرت العلوم الدخيلة في بلاد الإسلام عني المسلمون في دراستها، ونبغ منهم جماعة فاقوا أصحابها، وأدخلوا فيها آراء جديدة؛ فتنوعت وارتقت على ما اقتضاه الإسلام والآداب الإسلامية، وما مازجها من علوم الأمم الأخرى، فأصبحت على شكل خاص بالتمدن الإسلامي. فلما نهض أهل أوربا لاسترجاع علوم اليونان أخذوا معظمها عن اللغة العربية وفيها الصبغة الإسلامية" (من التمدن الإسلامي: ص 177) الإيمان، كثالث أساس، يمثل عند الإمام الشيرازي البعد الروحي الذي يميز التمدن الإسلامي عن غيره من الحضارات. يرى (قدس سره) أن الإيمان بالله والالتزام بالقيم الأخلاقية قد منحا المجتمع الإسلامي تماسكًا داخليًا وقوة دافعة للتوسع والإبداع. هذه الأسس الثلاثة، في نظر الإمام الشيرازي، تشكل مثلثًا متكاملًا لا يمكن لأي حضارة أن تزدهر بدونه. (2) المراحل التاريخية للتمدن الإسلامي يُقسِّم الإمام الشيرازي تطور التمدن الإسلامي إلى مراحل رئيسية، مع تحليل نقدي لكل مرحلة. تبدأ المرحلة الأولى بعصر النبوة والخلفاء الأربعة (القرن الأول الهجري)، وهي الفترة التي يعتبرها الإمام الشيرازي النموذج الأمثل للتمدن الإسلامي. يشير إلى أن هذه المرحلة شهدت تطبيقًا عمليًا للعدالة، كما في نظام توزيع الغنائم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله). كما يبرز دور العلم في هذه الفترة من خلال حفظ القرآن والسنة النبوية، ووضع أسس الفقه واللغة. يقول (قدس سره): إن "العرب إنما كانوا يتفاضلون بالعصبية ويتفاخرون بالأنساب، فلما جاء الإسلام كان في جملة ما بدّله من أحوالهم أنه جمع كلمتهم، وصاروا يداً واحدة على اختلاف أنسابهم ومواطنهم. فجمعهم تحت راية واحدة باسم واحد هو الإسلام، يقول الله سبحانه: (إنما المؤمنون أخوة)(الحجرات 10)، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبة ألقاها يوم فتح مكة: "يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، فالناس من آدم وآدم من تراب" (الكافي: ج8، ص246) وقال من خطبة في حجة الوداع: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم ليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى" (بحار الأنوار: ج69، ص350)" (من التمدن الإسلامي: ص 199). مع ذلك، يشير الإمام الشيرازي الى الاختلاف والتناقض في المنهج بين النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وبين مَنْ بعده، فيقول (قدس سره): "عمر أول خليفة فضّل العرب وجعل لهم مزية على سواهم ومنع من سبيهم. وكان عمر لا يدع أحداً من العجم يدخل المدينة وكان كثير العناية بالمجتمع العربي. كانت ديانة عرب العراق والشام النصرانية ولكنهم فرحوا بالمسلمين وكانوا ينصرونهم للعصبية العربية وليس للدين. وخصوصاً عرب العراق فإنهم حاربوا مع المسلمين ودلوهم على عورات الفرس" (من التمدن الإسلامي: ص 199). وأيضا قال: "عثمان كان عنده ألف عبد" (من التمدن الإسلامي: ص 203). تنتقل الرؤية إلى المرحلة الثانية، وهي عصر الدولتين الأموية والعباسية، حيث يرى الإمام الشيرازي أن التمدن الإسلامي بلغ ذروته في الإنجازات المادية والعلمية، لكنه بدأ يعاني من انحرافات أخلاقية وسياسية. ينتقد (قدس سره) تحول الخلافة إلى نظام ملكي، أو ملك عضوض. ملك عضوض: أي يصيب الرعية فيه عسْفٌ وظُلْم، كأنَّهم يُعَضُّون فيه عَضًّا)، يقول (قدس سره): "لما انتقلت الدولة الإسلامية من الخلافة الدينية إلى الملك العضوض في أيام بني أمية اختزن الصحابة الأموال واتخذوا المصانع والضياع، واقتدى بهم من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين، وكان أقدمهم على ذلك الخلفاء من بني أمية، فقد أكثروا من المصانع والضياع، حتى كان بعض أهلهم يقبضها اغتصاباً من أصحابها، وليس مَنْ ينصفهم من غضب بني أمية للعرب، واحتقارهم سائر الأمم، ولاعتبارهم ما فتحوه من الأرض ملكاً حلالاً لهم، فما أرادوا أخذه أخذوه، وما أرادوا تركه تركوه" (من التمدن الإسلامي: ص 107). ويرى الإمام الشيرازي أن هذا التحول أضعف التماسك الاجتماعي، وأدى إلى ظهور الفساد والظلم، كما حدث في أواخر العهد الأموي. أما المرحلة الثالثة، فتشمل العصور المتأخرة (مثل العصر العثماني)، حيث يرى (قدس سره) أن التمدن الإسلامي تراجع بشكل كبير بسبب الابتعاد عن الأسس الأصلية، خاصة العدالة والعلم. يناقش (قدس سره) كيف أن الجهل والتخلف أصبحا سمة بارزة في هذه الفترة، مما جعل الحضارة الإسلامية عرضة للغزو الخارجي والتفكك الداخلي. هذا التحليل النقدي يعكس رؤية الإمام الشيرازي التي لا تكتفي بالإطراء التقليدي للتاريخ الإسلامي، بل تسعى لفهم أسباب النجاح والفشل بعمق. (3) دروس الإصلاح من التمدن الإسلامي يبرز الجانب التطبيقي في رؤية الإمام الشيرازي من خلال استخدامه التاريخ كأداة لاستخلاص دروس إصلاحية للمجتمعات المعاصرة. يدعو (قدس سره) إلى إعادة إحياء الأسس الثلاثة "العدالة، والعلم، والإيمان" كمدخل لبناء حضارة إسلامية حديثة. على سبيل المثال، يؤكد أن تطبيق العدالة الاجتماعية يتطلب إلغاء الفوارق الطبقية غير المشروعة، وتوزيع الثروة بما يحقق التوازن، مستلهمًا نموذج الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في حكمه. كما يربط (قدس سره) بين تراجع العلم في العصور المتأخرة وضعف الحضارة، داعيًا إلى إعادة الاستثمار في التعليم والبحث العلمي؛ كما فعل المسلمون في عصر النهضة العباسية. في هذا السياق، يشير إلى أن التمدن الإسلامي لم يكن مجرد رد فعل لظروف تاريخية، بل نتيجة تخطيط واعٍ قائم على القيم، وهو ما يمكن تكراره في العصر الحديث إذا توفرت الإرادة. أيضاً، يناقش الإمام الشيرازي كيف يمكن للتمدن الإسلامي أن يكون مصدر إلهام لمواجهة تحديات العصر، مثل الفساد السياسي والتخلف الاقتصادي. يرى أن العودة إلى القيادة العادلة، كما في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) ووصيه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، هي مفتاح النهوض مجددًا. هذا الربط بين التاريخ والحاضر يعكس التزامه بتحويل التاريخ من مجرد دراسة نظرية إلى أداة عملية للتغيير. ختاماً يمثل مفهوم التمدن الإسلامي عند المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي (1928-2001) رؤية متكاملة تجمع بين التحليل التاريخي والدعوة الإصلاحية. يقدم (قدس سره) قراءة عميقة ترى في التاريخ الإسلامي نموذجًا حضاريًا قائمًا على العدالة، والعلم، والإيمان، مع تحليل نقدي لمراحله واستخلاص دروس عملية للحاضر. يتميز نهجه بالجمع بين العمق الفكري والتوجه التطبيقي، مما يجعله مساهمة قيمة في الفكر الإسلامي المعاصر. تبقى هذه الرؤية دعوة للمفكرين والمجتمعات لإعادة النظر في التاريخ الإسلامي، ليس فقط لفهم الماضي، بل لبناء مستقبل يستعيد أسس التمدن الإسلامي الأصيل. وصولاً الى ما وصلت إليه البشرية اليوم من تطور في كافة مجالات الحياة. محذراً (قدس سره) من أن "أزمة الحضارة هي الابتعاد عن الدين والقيم السماوية" (مطاردة قرن ونصف – ص 33). 10/ شوال / 1446هـ |