![]() |
الإمام الشيرازي الراحل .. السلام والحرية جوهر الوجود الإنساني (الذكرى الرابعة والعشرون لرحيله قدس سره)
موقع الإمام الشيرازي
يقول الإمام الشيرازي (قدس سره): "هاجس الإنسان؛ ومنذ بدء الخليقة، أن يعيش في أمان واطمئنان وحرية، هو وعائلته، وإن من مبادئ الإسلام؛ المهمة والواجبة التطبيق، مبدأ تنَّعُم الإنسان بالسلم، والسلام، والأمن، والحرية. إن العنف يجلب الفوضى الى الحياة ويزعزع استقرارها، كما أن السياسة المملوءة بالعنف والحرب والقمع والخوف تجلب الخراب والدمار والأحزان، وأيضا تجلب الخيبة والهزيمة، بينما السلم والسلام؛ بمعناهما الأعم والشمولي، يجلبان نِعَماً عظيمة مثل الأمن، والاستقرار، والرخاء، والازدهار، التي بها يعيش الإنسان براحة ورفاه، وتعيش الشعوب حياة كريمة."
------------------------------ يستهل المرجع الديني المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي مقولته بتأصيل رغبة الإنسان الأساسية في الأمان والاطمئنان والحرية، واصفًا إياها بأنها "هاجس" يرافق الإنسان منذ بدء الخليقة. هذا الوصف ليس مجرد تعبير بلاغي، بل هو تعبير عن حقيقة وجودية تكمن في صميم الطبيعة البشرية. من الناحية الفلسفية، يمكننا قراءة هذا الهاجس على أنه تعبير عن الوعي الذاتي للإنسان بضعفه وتطلعه إلى الكمال. فالأمان يحمي الجسد والنفس، والاطمئنان يُشبع الروح، والحرية تُطلق الإمكانات الكامنة في الفرد. هذه الثلاثية ليست مجرد احتياجات مادية أو عاطفية، بل هي شروط لتحقيق الإنسانية في أسمى معانيها. البعد الإنساني: الأمان والحرية كحقوق جوهرية من منظور إنساني، يضع الإمام الشيرازي الإنسانَ في مركز الاهتمام، مشيرًا إلى أن هذه التطلعات ليست فردية فحسب، بل تمتد لتشمل "عائلته"، مما يعكس الطبيعة الاجتماعية للإنسان. هنا، يتجاوز الإمام الشيرازي الفردانية الضيقة إلى رؤية تكاملية ترى الأسرة كوحدة أساسية للمجتمع. هذا الارتباط بين الفرد والجماعة يذكِّر بفكرة أرسطو أن "الإنسان حيوان مدني بطبعه"، أي أن تحقيق ذاته لا يكتمل إلا في سياق علاقاته مع الآخرين. لكن الإمام الشيرازي يضيف بُعدًا أخلاقيًا وروحيًا عندما يربط هذه الحاجات بمبادئ الإسلام، معتبرًا أن السلم والأمن والحرية ليست مجرد أهداف عملية، بل واجبات دينية وأخلاقية حث الإسلام عليها. في هذا السياق، تظهر دعوته إلى السلام ليست مجرد رد فعل على العنف، بل هي رؤية استباقية تهدف إلى بناء عالم يتمتع فيه الإنسان بحقوقه الأساسية. إنها دعوة لتجاوز الحروب والصراعات نحو حالة من التناغم الاجتماعي، حيث يصبح السلام ليس غياب الحرب فحسب، بل حضور العدالة والرفاه. هذا يتماشى مع الفكر الإنساني الحديث، مثل ما نجده في كتابات الفيلسوف جون رولز عن العدالة كأساس للمجتمع المستقر، لكن الإمام الشيرازي يضفي عليه طابعًا دينيًا يجعل السلام قيمة مقدسة وليست مجرد عقد اجتماعي أو مطلب إنساني. في مقارنة مع فلاسفة آخرين، نجد أن جون لوك، الفيلسوف الإنجليزي في القرن السابع عشر، قد ركز على الحرية والأمان كحقوق طبيعية للإنسان، لكنه ربطها بعقد اجتماعي يهدف إلى حماية الممتلكات والأفراد. الإمام الشيرازي، على النقيض، يتجاوز هذا الإطار السياسي إلى رؤية شمولية ترى السلام نعمة إلهية ومسؤولية أخلاقية، مما يمنح دعوته طابعًا روحيًا أكثر عمقًا من الطابع القانوني عند لوك. البعد الفلسفي: العنف كنقيض للوجود الإنساني في نقده للعنف، يصف الإمام الشيرازي آثاره المدمرة بأنها تجلب "الفوضى" و"الخراب"، وهو ما يمكن مقارنته بفكرة توماس هوبز عن "حالة الطبيعة"، حيث يسود الخوف والصراع في غياب سلطة مركزية. لكن بينما يرى هوبز الحل في سلطة مطلقة لضبط هذه الفوضى، يرفض الإمام الشيرازي السياسات القمعية، ويدعو إلى اللاعنف كبديل أخلاقي ووجودي. هذا الرفض يتقاطع مع رؤية جان جاك روسو، الذي انتقد العنف المؤسسي ودعا إلى عودة الإنسان إلى حالة طبيعية أكثر نقاءً، لكن الإمام الشيرازي كثف تركيزه على السلام كمشروع جماعي مدعوم بقيم دينية إسلامية، وليس كحالة فردية مثالية فقط. الفوضى التي يتحدث عنها ليست مجرد اضطراب خارجي، بل هي انهيار داخلي للقيم والمعاني التي يعيش من أجلها الإنسان. هنا، يتقاطع الإمام الشيرازي مع الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، الذي رأى أن الوجود الإنساني يتحقق في حالة من "الانفتاح" و"السكينة"، بينما العنف يُغلق هذا الانفتاح، ويُحيل الإنسان إلى مجرد أداة للصراع. الإمام الشيرازي، في هذا السياق، يقدم السلام كحالة وجودية تسمح للإنسان بأن يكون على طبيعته، بعيدًا عن الخوف والاضطراب. السلام الشامل: نعمة ومسؤولية يصف الإمام الشيرازي السلام أنه "بمعناه الأعم والشمولي"، وهو ما يجلب الأمن والاستقرار والرخاء والازدهار. هذا التعبير يحمل دلالات واسعة، إذ يتجاوز السلام كمفهوم سلبي (غياب الحرب) إلى مفهوم إيجابي يشمل الرفاه الاقتصادي والاجتماعي والروحي. هنا، يمكننا أن نربط رؤيته بفكرة "السلام الدائم" التي طرحها الفيلسوف إيمانويل كانط، لكن الإمام الشيرازي يضيف بُعدًا إنسانيًا ودينيًا أكثر عمقًا، حيث يرى السلام نعمة إلهية وفي الوقت ذاته مسؤولية بشرية. من الناحية الإنسانية، يؤكد الإمام الشيرازي أن السلام ليس رفاهية، بل شرط أساسي لحياة كريمة للشعوب. هذا يعكس حساسيته تجاه أزمات العصر، مثل الحروب والفقر والاستبداد، التي كانت منتشرة في القرن العشرين، وهي الفترة التي عاش فيها. دعوته إلى اللاعنف تذكرنا بمواقف شخصيات مثل غاندي و مارتن لوثر كينغ، لكنه هنا يميزها بإطار إسلامي يرى في السلم مبدأً دينيًا وليس فقط استراتيجية سياسية، وربما هذا التمييز يتماهى فقط مع الهوية الثقافية للمتلقين لأفكاره (قدس سره)؛ في هذا المقام، حيث ينطلق المشروع النهضوي للإمام الشيرازي من الإسلام، ويتحرك في آفاق الإنسانية، فإنما أُرسِل نبي الإسلام (رحمة للعالمين)(الأنبياء 107). السياق التاريخي: دعوة السلام وسط العواصف ولد الإمام الشيرازي عام 1928 في النجف، وعاش في فترة شهدت اضطرابات هائلة في العالم الإسلامي، خاصة العراق وإيران. في القرن العشرين، عانت المنطقة من الاستعمار، والصراعات الطائفية، والحروب، مثل الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988)، التي خلفت ملايين الضحايا والنازحين. في هذا السياق، تظهر دعوته للسلام كصوت معاكس لتيار العنف، واستجابة للواقع المضطرب الذي شهده، خاصة تحت حكم أنظمة استبدادية مثل نظام البعث في العراق. أمثلة تاريخية: العنف مقابل السلام في القرن العشرين لتوضيح رؤية الإمام الشيرازي، يمكن النظر إلى أحداث محددة من القرن العشرين تُظهر تبعات العنف مقابل ثمار السلام: (1) الحرب العالمية الثانية (1939-1945): تجسد هذه الحرب ذروة العنف في القرن العشرين، حيث أدت إلى مقتل أكثر من 70 مليون شخص، ودمار مدن بأكملها مثل هيروشيما ودريسدن. السياسات المملوءة بالعنف والقمع، كما وصفها الإمام الشيرازي، تجلت في النازية والفاشية، التي جلبت "الخراب والدمار والأحزان". على النقيض، جاءت فترة ما بعد الحرب في أوروبا الغربية كمثال للسلام الشامل، حيث أدى تأسيس الاتحاد الأوروبي إلى الاستقرار والرخاء، محققًا ما دعا إليه الشيرازي من "أمن وازدهار" عبر التعاون بدلاً من الصراع. (2) ثورة غاندي اللاعنفية (1947): على الجانب الآخر، تُظهر تجربة غاندي في الهند كيف يمكن للسلام واللاعنف أن يحققا الانتصار. قاد غاندي حركة المقاومة السلمية ضد الاستعمار البريطاني، محققًا الاستقلال دون حرب شاملة. هذا المثال يتماشى مع دعوة الإمام الشيرازي، حيث أثمر السلام "الاستقرار والكرامة" لشعب الهند، على عكس الصراعات الدامية التي شهدتها مناطق أخرى. (3) الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988): هذا الصراع عاصره الإمام الشيرازي وقد عارضه بشدة، ودعا بقوة الى إيقافه، وتحمل بسبب موقفه معاناة مريرة وطويلة. مع ذلك، هذه الحرب تُظهِر كيف يؤدي العنف إلى "الفوضى" و"زعزعة الاستقرار". استمرت الحرب ثماني سنوات، أودت بحياة ما يقارب مليون شخص، وأنهكت اقتصاد البلدين، تاركة جروحًا اجتماعية لم تندمل. في المقابل، يمكن الإشارة إلى تجربة السلام النسبي في دول الخليج بعد توقيع اتفاقيات تعاون اقتصادي في الثمانينيات، التي ساهمت في استقرار المنطقة وتحقيق الرفاه لشعوبها، مما يعكس رؤية الإمام الشيرازي للسلام كمصدر للنعم. هذه الأمثلة تؤكد ما ذهب إليه الإمام الشيرازي بأن العنف يجلب الدمار والهزيمة، بينما السلام يُنتج الرفاه والازدهار. سياقه التاريخي يجعل دعوته ليست مجرد نظرية، بل ردًا عمليًا على واقع شهد فيه العنف يُحطم الشعوب. تأثير العنف والسلام على النفس البشرية من منظور نفسي، يمكن قراءة مقولة الإمام الشيرازي في ضوء تأثير العنف والسلام على الإنسان داخليًا. العنف، كما يصفه بأنه يُزعزع الاستقرار، يترك ندوبًا عميقة في النفس. سيغموند فرويد، في نظريته عن "الأنا" و"الهو"، يرى أن العنف يُطلق العنان للغرائز المدمرة (الهو)، مما يؤدي إلى صراع داخلي يُضعف "الأنا" ويُولد القلق والخوف. في سياق الحروب التي عاصرها الإمام الشيرازي، مثل الحرب العراقية-الإيرانية، نجد أن الملايين عانوا من اضطرابات ما بعد الصدمة، وهو ما يعكس "الفوضى" النفسية التي يتحدث عنها. العنف لا يدمر الجسد فحسب، بل يُحطم التوازن الداخلي، مُحولًا الإنسان إلى كائن يعيش في حالة دفاع دائمة. على النقيض، يصف الإمام الشيرازي السلام بأنه يجلب "الأمن والاطمئنان"، وهو ما يتوافق مع فكرة كارل يونغ عن "الكمال "Individuation، حيث يستقر الإنسان نفسيًا عندما يعيش في انسجام داخلي وخارجي. السلام، في هذا السياق، يُعيد للنفس توازنها، مُتيحًا لها التطلع إلى الإبداع والنمو بدلاً من الانشغال بالبقاء. تجربة ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، حيث ازدهرت الفنون والعلوم في ظل السلام، تُظهر كيف يُحرر السلام الطاقات النفسية الكامنة. الإمام الشيرازي، بتركيزه على "الراحة والرفاه"، يبدو واعيًا بهذا البُعد، حيث يرى السلام ليس فقط كحالة خارجية، بل كشرط للسكينة الداخلية التي تُعيد للإنسان إنسانيته. في سياق عصره، يمكن تصور أن الإمام الشيرازي شهد كيف أثرت الحروب والقمع على أجيال بأكملها، مُولدة شعورًا باليأس والاغتراب. دعوته للسلام، إذاً، ليست فقط سياسية أو دينية، بل علاج نفسي للروح الإنسانية المجروحة، مُعيدًا لها الأمل والقدرة على الحياة الكريمة. السلام كمشروع إنساني وفلسفي ختاماً، تقدم مقولة الإمام الشيرازي رؤية متكاملة تربط بين الفرد والمجتمع، وبين الدين والعقل، وبين الواقع والمثال. إنها دعوة لإعادة التفكير في أولويات الإنسان والمجتمعات، حيث يصبح السلام ليس غاية نهائية فحسب، بل وسيلة لتحقيق الازدهار والكرامة. من الناحية الفلسفية، تتجاوز هذه المقولة الجدل التقليدي بين المادية والروحانية، مقدمة نموذجًا يجمع بينهما في إطار إنساني شامل. ومن الناحية الإنسانية، تعكس إيمانًا عميقًا بقدرة الإنسان على التغلب على العنف والفوضى إذا ما التزم بقيم السلام والحرية. هذه المقولة، بما تحمله من عمق وشمولية، ليست مجرد تأمل نظري، بل هي خارطة طريق لعالم أفضل، حيث يعيش الإنسان؛ وعائلته ومجتمعه والبشرية جمعاء، في أمان ورفاه، محققًا بذلك جوهر وجوده ومعناه. 9/ شوال / 1446هـ |