في ذكراه الثامنة عشرة .. مدخل التحول الاجتماعي الحقيقي


 

 

موقع الإمام الشيرازي

28/جمادى الأولى/1447

 

 

إزاء التحديات الإيمانية والأخلاقية، وتغلب النزعة المادية على حساب المعنى وقيم الحياة الإنسانية، يبرز صوت آية الله، الفقيه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (قدس سره) كنبراس هادٍ يذكّرنا بأن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ من الخارج، بل من أعماق النفس البشرية.

فيأتي تراثه(قده) بمثابة خريطة طريق تعيد للضمير الإنساني بوصلته الحقيقية. فهو لم ينظر إلى الإصلاح مجرد عملية تغيير في البنى الخارجية للمجتمع، بل يرى أن المعركة الحقيقية تدور في ساحة النفس الإنسانية أولاً.

وهكذا، فإن أقواله ليست مجرد كلمات عابرة، بل منظومة متكاملة ترى في تهذيب النفس "الجهاد الأكبر"، وفي التدبر القرآني مفتاح حركة التغيير، وفي التوجه نحو الآخرة الدافع الأعظم لتحسين الدنيا.

العدو الأخطر والحليف الأقرب

يضع الفقيه الراحل النفس في مركز الصراع الإنساني، فيذكّر بأن "أعدى أعداءك نفسك التي بين جنبيك"، ويؤكد أنها "العدو الأخطر" لأن كل شيء مرهون بها. إذا صلحت صلحت الحياة كلها، وإذا فسدت فسدت القوى الظاهرية والباطنية جميعها وتحولت إلى أدوات ضلال وانحراف.

هنا يستحضر(قده) حديث "الجهاد الأكبر" ويربطه بالسيطرة على الذات في المواقف الصعبة، فيصف الشعور الناتج عن ذلك بأنه شعور عظيم بأن الإنسان أصبح "ولياً من أولياء الله".

ويقول(قده): "إن أشجع الناس من غلب هواه، وإن أعدى أعداءك، نفسك التي بين جنبيك كما في الحديث، وإنها العدو الأخطر! وتفسير ذلك، يكمن بأن كل شيء مرهون بهذا العدو (النفس)، فإذا تمكَنْتَ أنْ تُخضِع هذا العدو، وأن تَصْلح هذا ضِع العدو، ستعيش بأمان، وإذا لم تتمكن أن تُخضِع هذا العدو، فحياتك ستكون في عناء وفي الآخرة في شقاء".

هذا التشخيص دقيق جداً، فإن النفس ليست عدواً خارجياً يمكن القضاء عليه مرة واحدة، بل هي رفيق درب دائم يومي يحتاج إلى مجاهدة مستمرة. وأشجع الناس - في نظره - من غلب هواه. إنها رؤية تجعل الشجاعة الحقيقية داخلية وليست خارجية، وتجعل النصر الأعظم على النفس لا على الأعداء.

المحرك الحقيقي للتغيير

لا يقف الفقيه الراحل عند تشخيص المرض، بل يصف الدواء؛ وهو التدبر في القرآن الكريم. يقول(قده): "إن التدبر في القرآن الكريم هو الطريق للعمل بما جاء فيه، لأن العمل بالقرآن يتوقف على فهمه، وفهم القرآن لا يمكن إلا بالتدبر في آياته". ثم يضرب مثلاً رائعاً: "هل اتفق لك أن بلغت ينبوع ماء صغير في صحراء واسعة… تجد تحته بحراً عظيماً من الماء؟ هكذا هي كلمات الله في القرآن الكريم".

وهنا يلفت(قده) الى أمر مهم؛ وهو أن القراءة السطحية للقرآن الكريم لا تغير شيئاً، أما التلاوة الواعية فتهز القلب وتغير الاتجاه. عليه، مَنْ لم يتدبر، فاتته الكثير من مبادئ الدين في حياته العملية وهو لا يشعر. إنه(قده) يربط بين المعرفة والعمل ربطاً عضوياً .. إذا لم يصل القرآن إلى القلب فلن يصل إلى اليد واللسان.

الأمل والتغيير .. من الذات إلى المجتمع

من أجمل ما في أقواله موقفه من اليأس. يقول(قده): "الإنسان غالباً… يفقد الأمل ويتحول إلى كائن يائس… في حين الإنسان المؤمن يمتلأ قلبه بالرجاء والأمل حتى في أعتى الأزمات". ثم يضيف جملة حاسمة: "من الممكن أن يتساءل أحد: هل التغيير والإصلاح أمر ممكن؟ والجواب: نعم بإذن الله، وأدل دليل على إمكان الشيء هو وقوعه في الخارج".

هذا الكلام يكشف عن يقين مبني على إيمان راسخ بقدرة الله سبحانه ورحمته، واستقراء موضوعي للتاريخ. ويشير الى أن الأقلية التي تفكر في صناعة التغيير هي التي غيّرت وجه التاريخ مرات ومرات، حتى في أحلك الفترات ظلمة. واللافت أنه(قده) يربط التغيير الاجتماعي بالتغيير الذاتي: من لم يغلب هواه لن يستطيع تغيير مجتمعه.

الآخرة .. البوصلة التي لا تضل

أكثر من ألفي آية في القرآن الكريم - كما ينقل - تتحدث عن الآخرة، لأنها البوصلة الحقيقية. يقول(قده): "أعظم من كل النعم في الآخرة شعور المؤمن برضا الله تعالى عنه .. ورضوان من الله أكبر". ويضيف: "مهما ذهب بك الخيال… فالأمر لا يتوقف عند حد في البقاء في الآخرة، أما الدنيا فإنها محدودة ولابد من يوم نرحل".

هذا التذكير الدائم بالآخرة ليس تزهيداً في الدنيا، بل هو تحرير للإنسان من عبوديتها. من عاش وهو يرى إعلانات الوفيات ويقول "سيأتي يوم يرون صورتنا"، عاش حراً، واختار بحكمة، وأنفق بحكمة، وغضب بحكمة، وسامح بحكمة.

الورع ونمط التفكير

الفقيه الراحل يصف الورع بأنه أمر شاق لأن "كثيراً من المحرمات متشابكة مع حياة الإنسان"، كالغيبة مثلاً. لكنه يؤكد أن ترك المحرمات والإتيان بالواجبات - ثم تجنب المكروهات والإكثار من المستحبات قدر الإمكان - هو "المرتبة الأولى من المراتب المعنوية"، ومن بلغها فقد "فاز فوزاً عظيماً".

ويضيف(قده): "علينا بالقناعة في علاقاتنا مع الآخرين وألا نتوقع الكثير منهم". كلمات قليلة لكنها كبيرة، تحمي القلب من الإحباط وتحفظه لله وحده.

ويقول: "إن نمط التفكير ليس شأناً مجرداً، بل إنه يؤثر على كل القرارات من المسكن وحتى المدفن".

هذا هو جوهر الرسالة؛ فإن كل شيء يبدأ من طريقة التفكير، وطريقة التفكير تتغير بالتدبر، والتدبر يحتاج إلى نفس مهذبة، والنفس المهذبة تحيا للآخرة، والعيش للآخرة يولّد الأمل والتغيير. بالتالي، مَنْ لازم هذا المنهج عاش قوياً، ومطمئناً، ومؤثراً، وسعيداً في الدنيا، وسيكون من الفائزين إن شاء الله في الآخرة.

وهكذا، فإن آية الله، الفقيه السعيد، السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي لم يكن مشروعه الإصلاحي مجرد تنظير، بل كان دعوة عملية إلى هندسة الوعي الداخلي كمدخل لأي تحوّل اجتماعي حقيقي. فالمجتمع - في رؤيته - مرآة تعكس حقيقة أفراده؛ فإذا صلح ما بداخلهم، انعكس ذلك على واقعهم.