![]() |
|
في ذكراه الثامنة عشرة .. الورع في زمن التشابك
موقع الإمام الشيرازي 27/جمادى الأولى/1447
من أدق وأعمق ما قاله آية الله، الفقيه والمفكر، السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي (قدس سره) في مسألة الورع، قوله: "تنبع صعوبة الورع من أنّ كثيراً من المحرمات متشابكة مع حياة الإنسان، كالغيبة مثلاً، فإنّ احتمال سماعها يواجه المرء أينما ذهب. فإن عدم الاغتياب وعدم الاستماع إلى الغيبة طيلة عمر بأكمله ليس بالأمر الهيّن، بل يتطلّب عزيمة قوية، وهكذا الحال مع كثير من المحرّمات. وعلى كلّ، فترك المحرمات – ومثله الإتيان بالواجبات – أمر عظيم، وهو يمثّل المرتبة الأولى من المراتب المعنوية.. ولو أن أحداً استطاع أن يتجنب المحرمات ويأتي بالواجبات، وأن يتجنب مع ذلك ما أمكنه من المكروهات ويأتي بما وسعه من المستحبات، فقد بلغ مرتبة رفيعة وفاز فوزاً عظيماً". هذا النص ليس مجرد وصف للورع، بل هو تشخيص دقيق للغاية لطبيعة التحدي الإيماني في عصرنا، وتحديد مراحل الارتقاء الروحي بدقة متناهية. أولاً: لماذا الورع صعب إلى هذا الحد؟ الفقيه الراحل لا يقول إن الورع صعب لأن المحرمات "كثيرة" فقط، بل لأنها متشابكة مع نسيج الحياة نفسها. أي؛ هي ليست محرمات منعزلة في زاوية، بل هي داخل الدوائر الاجتماعية، وداخل المجالس، وداخل الطرفة/النكتة، وداخل النقاش السياسي، وداخل همس الجيران، وداخل تعليق على وسائل التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، الغيبة ليست فعلاً نادراً، بل هي عملة التواصل اليومي عند معظم الناس. ثم يذهب(قده) أبعد، فيبيّن أن الورع لا يقف عند "عدم الاغتياب"، بل يشمل "عدم الاستماع إلى الغيبة" أيضاً. هذه النقطة ثقيلة جداً، لأنك تستطيع أن تغلق فمك، لكن كيف تغلق أذنيك وأنت في مجتمع يغتاب فيه الناس بعضهم بعضاً كجزء من الترابط الاجتماعي؟! وهنا يكمن السر .. الورع ليس "ترك المحرم" فقط، بل هو قطع كل الطرق المؤدية إليه، حتى لو كان الطريق هو السكوت أو الابتسام أو مجرد البقاء في المجلس. هذا يجعل الورع ليس فعلاً فردياً، بل موقفاً جذرياً يغير شكل حياتك الاجتماعية بالكامل. ثانياً: المرتبة الأولى مقابل المراتب الرفيعة الفقيه الراحل يرسم خريطة واضحة للارتقاء الإيماني أو التدين الحقيقي: المرتبة الأولى (وهي عظيمة جداً) تشمل ترك المحرمات زائداً الإتيان بالواجبات. إذ إنه(قده) يساوي بين "ترك المحرم" و"فعل الواجب" في الصعوبة والأجر. كثير من الناس يظنون أن فعل الواجب أسهل (نصلي، نصوم، نتصدق)، لكنه(قده) يقول: لا! ترك الغيبة والكذب والنظر الحرام والغش في البيع... بنفس درجة صعوبة الواجبات، بل ربما أصعب لأنها تحتاج إلى مجاهدة دائمة غير مرتبطة بوقت محدد. أما المرتبة الرفيعة؛ فهي لـ مَنْ زاد على ذلك، فتجنب المكروهات وقام بالمستحبات قدر طاقته، فاز فوزاً عظيماً. على هذا، هذا التقسيم يحمل رسالة مزدوجة؛ وهي لا تحقرن نفسك إذا لم تبلغ المراتب العليا، فمجرد الوصول إلى المرتبة الأولى (ترك الحرام وفعل الواجب) أمر عظيم جداً، وقلة قليلة من بلغته بصدق. مع ذلك، لا تكتفِ بالمرتبة الأولى، فإن فوقها مراتب أخرى، والباب مفتوح لكل من أراد. ثالثاً: الورع .. الجهاد الأكبر في قول آخر له(قده): "تهذيب النفس وإصلاحها والإرتقاء بها عملية شاقة جداً، وقد أطلق عليها في لسان الأخبار بـ(الجهاد الأكبر)". الورع هو التجسيد العملي للجهاد الأكبر، لأنه مجاهدة النفس في كل لحظة، وفي كل مجلس، وفي كل كلمة، وفي كل نظرة. ليس جهاداً بالسيف، بل جهاداً بالصمت، وبالمغادرة، وبالتغاضي، وبالابتسامة بدل الرد الحاد، والسكوت عن الحق أحياناً حفاظاً على أكبر منه. والأجر؟ قال(قده): "فسيأتيه شعور عظيم بأنه أصبح ولياً من أولياء الله". ليس مجرد أجر أخروي، بل لذة فورية في القلب؛ وشعور بالسيادة الحقيقية، وبالحرية الحقيقية، وبشرف العبودية لله وحده. رابعاً: الورع والآخرة الفقيه الراحل يربط الورع ارتباطاً مباشراً بالشعور بالآخرة، لأنه بدون تصور يقيني ليوم الحساب، يستحيل الورع. من يعلم أن كلمة واحدة في الغيبة قد تُحرِّم عليه الجنة، أو تُثقل ميزانه، سيجد في نفسه قوة للصمت لا يجدها غيره. ومن يعلم أن رضوان الله أكبر من كل نَعَمِ الجنة، سيجد في ترك الكلمة الحرام أو النظرة أو الصفقة الشبهة لذة تفوق كل لذات الدنيا. وهكذا، فإن الفقيه الراحل يرى الورع ليس "تشدداً" ولا "عزلة"، بل هو الشجاعة الحقيقية، والحرية الحقيقية، والذكاء الإيماني والروحي الأعلى. أي؛ هو أن تعيش في العالم دون أن يعيش العالم فيك. بالتالي، مَنْ لازم هذا الطريق - ولو في جزء يسير منه - عاش ملكاً في الدنيا، وإنْ كان أفقر الفقراء، وفاز في الآخرة وإنْ لم يعمل صالحاً غير هذا .. رحم الله آية الله، الفقيه السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي، فقد كان يعيش ما يقول، وكان ورعه مضرب المثل حتى عند البعيد. |