![]() |
|
في ذكرى السيد محمد رضا الشيرازي .. المؤمنون الأفذاذ وصناعة التغيير
موقع الإمام الشيرازي 25/جمادى الأولى/1447
ليس التخلف مجرد أزمة اقتصادية أو سياسية، بل هو بيئة سامة تشوه الوعي والسلوك، وتعيق مسيرة الأمم نحو الرفاه والعدل. في هذا السياق، يبرز فكر الفقيه، آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي(قده)، كإضاءة ساطعة، مستمدة من إرث أبيه الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده)، الذي أكد أن "من مقومات الإصلاح، القضاء على بيئة التخلف، فكما أن لكل مخلوق بيئته الخاصة، فإن للتخلف أيضاً بيئة خاصة به". وفقاً لهذا التشخيص، نشأ التخلف في بلاد المسلمين، وتفاقم تدريجياً، بعد الإعراض عن الوصية النبوية: "إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي"، مما أدى إلى تراكم عوامل الجمود والانحراف. لكن السيد الفقيد لم يقف عند التشخيص؛ بل رسم طريق الخلاص بـ"الرجوع الفكري إلى العترة الطاهرة، ولو شيئاً فشيئاً، بقدر ما يتمكن منه المجتمع، ثم يتسع ويتسع"، مع إرساء الوعي العام في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية. على هذا، يُعَد التخلف أس الأزمات، ومكافحته أولوية لأي إصلاح، وسبل التحرر منه ليست مجهولة كما يصور بعض. فالإسلام، كدين خاتم صالح لكل زمان ومكان، يدعو إلى مواكبة العصر دون تنازل عن جوهره، إذ "عدم مواكبة العصر أحد عوامل التخلف". هنا، يبين السيد الفقيد قدرة الإسلام على توفير سعادة البشرية وازدهارها، من خلال مقوماته الفكرية والأخلاقية التي تتكيف مع الظروف المتغيرة. وفي الوقت نفسه، يشدد على التصدي للبدع والشبهات، مستلهماً قول الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الذي يلي إبليس وعفاريته... فمن انتصب لذلك كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة" (الاحتجاج للطبرسي: ج2 - ص155). كان الفقيد نفسه مصداقاً لهذا المرابطة، كما وصفه عمه، سماحة المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): "كان مصداقاً باهراً للحديث الشريف: 'المؤمن نفسه منه في تعب والناس منه في راحة'، فقد عاشه تطبيقاً وعملاً في وقت ندر فيه من يعمل به". في أربعينية السيد الفقيد، دعا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) الحاضرين إلى اتخاذ السيد الفقيد قدوة، قائلاً: "أنتم كل واحد منكم... حاولوا أن تتخذوا منه أسوة وقدوة. إن قدوتكم الأولى هم المعصومون الأربعة عشر (عليهم السلام)، ولكن من يمثل الأئمة المعصومين؟ لقد كان الفقيد السعيد ممن يمثلهم... فاتخذوا منه أسوة، وكان في درجات العدالة بلا شك، فحاولوا أن تكونوا عادلين، وكان على درجة عالية من الخلق الرفيع مع الصديق والعدو... فحاولوا أن تطبقوا على أنفسكم هذه الانطباعات التي لكم عنه". هكذا، انطلقت منهجية السيد الفقيد من قناعة عميقة بعلاقة تفاعلية بين الإسلام كمعطى حضاري وبين الإصلاح كحالة أو حاجة اجتماعية، فإن الإسلام يرفع المجتمع إلى سلم الحضارة، كدين "تقدمي" يستوعب الحاضر والمستقبل، ويستنهض الطاقات كما في دولتي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). ويمارس هذا التأثير عبر مفهوم التغيير القرآني: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)(الرعد: 11). مارس السيد الفقيد هذه المنهجية على محورين رئيسيين، مستلهماً إرث أبيه وتجربته الشخصية: الأول: تقديم القدوة الصالحة بالنفس. تجسد ذلك في وصيته إلى المؤمنين، التي وصفت شخصيته واقعياً، يقول(قده): "من يريد رضوان الله لا يظلم أحداً، ولا يتكبر على أحد، بل يكون ولياً من أولياء الله الذين هم أكثر الناس عدلاً وزهداً ونفعاً، ويكون مع الناس وأكثرهم ورعاً، وأدّاهم للأمانة وأفضلهم إيثاراً". وأضاف: "لنحاول بلوغ المراتب المعنوية العالية بالتوجه إلى الله، وفعل المستحبات، وغوث الملهوفين، ومد يد العون للأيتام والأرامل والمرضى، وأدعوكم إلى أن تغفروا للآخرين وتتجاوزوا عنهم مثلما تحبون أن يغفر الله لكم". هذه الوصية ليست مجرد كلمات، بل نموذج عملي للإصلاح الذاتي الذي يمتد إلى المجتمع. الثاني: زرع الأمل والرجاء في وجه اليأس. قال السيد الفقيد(قده): "الإنسان -غالباً- في خضم المشاكل يفقد الأمل ويتحول إلى كائن يائس، بينما الإنسان المؤمن يمتلئ قلبه بالرجاء حتى في أعتى الأزمات. هناك أشخاص يتقوقعون على أنفسهم ولا يفكرون في تغيير المجتمع، ولعل هؤلاء الأكثرية، بينما أقلية تفكر في صناعة التغيير. هل التغيير ممكن؟ نعم، بإذن الله، وأدل دليل على إمكانه وقوعه في الواقع، فالمؤمنون الأفذاذ تحركوا في أشد الفترات حرجاً ونجحوا مرات ومرات. علينا أن نقاوم حالة اليأس، فإن لدينا كنوزاً يفتقر إليها الآخرون". وفي إطار منهجيته، دعا الفقيد إلى بناء علاقة وعي وعمل مع القرآن الكريم، قائلاً: "القراءة الميتة للقرآن لا تعني أكثر من كلمات يرددها اللسان، أما التلاوة الواعية فتتجاوز اللسان إلى القلب فتهزه وتؤثر في اتجاهه". وأضاف: "إن هناك خيارات صعبة تطرح أمام الفرد والأمة، ولاختيار الطريق السليم لابد من الرجوع إلى القرآن والتدبر في آياته، فهو (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)، وهو (الفرقان) لأنه يفرق بين الحق والباطل، لمن يفهم آياته ويتدبر فيها". وهكذا، فإن منهج الفقيه، آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي(قده)، يتجسد في أن التغيير يبدأ من النفس، ويتسع إلى المجتمع، ويكتمل بالرجوع إلى العترة الطاهرة والقرآن الكريم. |